مصر بعد الدستور.. تأزم أم انتقال؟

مصر بعد الدستور.. تأزم أم انتقال؟ .الكاتب: عبد الفتاح ماضي

 undefined

نسبة المشاركة.. جرس إنذار
الدستور.. حل أم مشكلة؟
مخاطر عدم فهم المشكلة

ما الحل؟

تعالج هذه المقالة سؤالين محوريين هما: ما أهم دلالات الاستفتاء على دستور مصر 2012؟ وكيف يمكن الخروج من الحالة السياسية المتأزمة بعد إقرار الدستور؟

نسبة المشاركة.. جرس إنذار
ذهب المصريون إلى الصناديق للمرة الخامسة منذ ثورة يناير للاستفتاء على الدستور، وانتهى الأمر بإقراره بموافقة نحو 64% واعتراض 36% من الذين ذهبوا للجان الاقتراع، بنسبة مشاركة لم تتجاوز 32%. أي أن نحو 17 مليون فقط أدلوا بأصواتهم من أكثر من خمسين مليونا هم جملة من يحق لهم التصويت، منهم نحو 10.6 ملايين قالوا نعم (نحو 20% من العدد الإجمالي لهيئة الناخبين ونحو ستة ملايين قالوا لا (12%). أي أن هناك نحو 34 مليون ناخب (68%) لم يذهبوا هذه المرة للصناديق. نسبة المشاركة منخفضة للغاية مقارنة بنتائج استفتاء مارس 2011 (نحو 41%) وانتخابات مجلس الشعب (نحو60%) والرئاسة (51%).

فشلت القوى السياسية في تسييس قطاعات واسعة من الناخبين ودفعهم إلى الاهتمام بأهم استحقاق سياسي, وهذا يمثل جرس إنذار قوي

لاشك أن نسبة من المتغيبين قاطعت عن وعي، وربما رفضا للعملية السياسية بمجملها أو احتجاجا على طرح مسودة الدستور في ظل حالة الاستقطاب الشديدة، لكن هناك قطاعا كبيرا لم يكترث بكل ما دار في الأسابيع الماضية من نقاشات ولا بالانقسام الشديد وحالات العنف التي شهدتها بعض المدن المصرية، وهذا مؤشر على فشل القوى السياسية في تسييس قطاعات واسعة من الناخبين ودفعهم إلى الاهتمام بأهم استحقاق سياسي تشهده الدول التي تشهد انتقالا نحو الديمقراطية. وهذا يمثل جرس إنذار قوي، ويثبت أن الجماهير لازالت حية في مصر، ويجب أن يدفع مختلف القوى السياسية إلى العمل على إقناع هؤلاء ودمجهم بالحياة السياسية.

الدستور.. حل أم مشكلة؟
الدستور يمثل دوما حلا للمشكلات وتعاقدا مجتمعيا، وغالبا ما يسير بالبلاد نحو الاستقرار ونحو تشكيل هوية وطنية جامعة تجمع الناس وتوجههم إلى الطريق اللازم لبناء دولة المؤسسات واستكمال عملية التحول نحو نظم الحكم الرشيد.

في الحالة المصرية تحول الدستور إلى مشكلة قبل إقراره وبعده. فقد تصدت له جمعية تأسيسية شابها بعض المشكلات في تشكيلها، وحُرمت من خبرات كانت مهمة للغاية في هذه المرحلة التاريخية، كما اتبعت إجراءات في اعتماد المسودة وفي عرضها على الاستفتاء شابها الكثير من اللغط.

والأهم هو أن المسودة لم تحظ بالنقاش الهادئ الموضوعي التي تستحقه، ففي الأسابيع الأخيرة احتل موضوع الشريعة والهُوية مكان الصدارة وتراجع الاهتمام بصلب أي دستور ديمقراطي من ضبطٍ للعلاقة بين مؤسسات الحكم وتوازن للسلطات، ومن تفعيل للمؤسسات المنتخبة، بجانب تقوية وحيادية المؤسسات الرقابية والمستقلة، ووضع ضمانات لممارسة الحريات والتمتع بالحقوق. وأثناء فترة الاستفتاء القصيرة تحول الاستفتاء على المسودة إلى استفتاء على حكم الرئيس ومواقف المعارضة من قرارته الأخيرة.

هناك خطورة قد تأتي من الطرفين الرئيسيين (الرئيس والمعارضة) بصدد الدستور. فمن الخطر اعتبار الرئيس أن إقرار الدستور هو الحل لكل الآثار التي نتجت عن الإعلان الدستوري في 22 نوفمبر/تشرين الثاني. فمصر لا زالت في مرحلة انتقالية لا يصلح معها الاحتكام إلى الصناديق لحسم الخلافات السياسية التي تصنعها النخب السياسية، بل إن الاحتكام للناخبين لحل اختلافات القوى السياسية يزيد من الانقسام القائم لأنه يُصدره للشارع فتزداد الأمور سوءا وخاصة في ظل هذه الحالة من السيولة الثورية وفي ظل استقواء النخب بالشارع للضغط على خصومها ودفعها إلى مواجهات قد تؤدي إلى عنف لا يمكن تداركه.

ومن الخطورة أيضا تصور الرئاسة وجماعة الإخوان أنه يمكن الاستناد إلى منطق الأغلبية والمعارضة فقط خلال هذه المراحل الانتقالية وفي ظل الحالة الثورية القوية الموجودة بالشارع وفي ظل مقاومة أجهزة كثيرة بالدولة للتغيير وللرئيس.

الدرس المهم هنا هو أنه لن يمكن للرئيس -ولا لمجلس الشورى- تمرير أي قرارات مصيرية دون مناقشة حقيقية مع الأطراف الرئيسية بالبلاد بعد اليوم. لا يجب أن تكون ذاكرتنا قصيرة فالقرارات التي صُنعت دون تشاور حقيقي ودون مشاركة حقيقية تم رفضها خلال الشهور الستة الماضية. وهذا يؤكد أن أي قرارات أو قوانين قادمة ستجد معارضة قوية إذا اعتمدت ذات الأسلوب.

من الخطر اعتبار الرئيس أن إقرار الدستور هو الحل لكل الآثار التي نتجت عن الإعلان الدستوري, ومن جهة المعارضة، من الخطر أن يتم تصعيد المطالب والذهاب إلى الحد الأقصى دون رؤية متكاملة أو استعداد حقيقي

ومن جهة المعارضة، من الخطر أن يتم تصعيد المطالب والذهاب إلى الحد الأقصى دون رؤية متكاملة أو استعداد حقيقي، ودون تقدير لكافة الآثار المحتملة. أي من الخطر المطالبة بإسقاط الدستور بأكمله، بينما تتحدث أطراف داخل جبهة الإنقاذ عن الاستعداد للانتخابات البرلمانية الوشيكة. ومن الخطر تصور أنه يمكن العودة إلى نقطة الصفر من جديد، ومن الخطر الانقلاب على شرعية الصناديق.

أطراف هذه الجبهة المعارضة يجمعها خوف مشترك على الدولة الديمقراطية المدنية التي تحتاجها مصر الآن، ولدى الكثير منها شكوك من احتمالات إقامة دولة بوصاية دينية تعلو إرادة المؤسسات المنتخبة. وهذه شكوك تؤكدها تصريحات مشايخ يرون أنهم خرجوا منتصرين من معركة الدستور وأنهم في طريقهم لتقييد الحريات من خلال آلية سن القانون بالبرلمان.

لكن أطراف جبهة الإنقاذ لا يمتلكون لا القدرات التنظيمية ولا المالية التي لدى التيار الإسلامي المؤيد للدستور الحالي، كما أنهم لا يسيطرون على الشارع، ولا يملكون تحريكه بأعداد كبيرة، وعملهم وسط الجماهير عمل ضعيف بشكل عام. لابد من أخذ كل ذلك بالاعتبار.

مخاطر عدم فهم المشكلة
إننا أمام صراع سياسي لن يكون فيه غالب ومغلوب، وأمام مشكلة سياسية خلقتها اختيارات خاطئة للنخب السياسية من الطرفين منذ بداية مسار الانتقال. وتصور فريق ما بأن بإمكانه فرض وجهة نظره على الآخر لن ينتج عنه إلا دفع الناس إلى التصادم في الشارع وسقوط ضحايا بشرية من الطرفين، بجانب تخريب مسار الانتقال بأكمله وإدخال البلاد إلى نفق مظلم.

والحالة الثورية المرتفعة لن تصنع من الرئيس دكتاتورا جديدا إن أراد هو الاستئثار بالعملية السياسية كما يعتقد البعض لأن الملايين ستعارضه في الشارع، كما أن الحالة الثورية المرتفعة ذاتها ستحول دون إسقاط الرئيس كما يريد البعض الآخر لأن الملايين سيخرجون لحمايته أيضا.

كما أن الانقسام الشديد بين الطرفين قد يدفع المؤسسة العسكرية إلى التدخل. فالجيش في مصر جزء من المعادلة قبل الانتقال وبعد الانتقال، فإن كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة حمى الثورة في بدايتها، فهو مسؤول سياسيا عن الأخطاء التي ارتكبت منذ البداية وحتى انتخابات الرئاسة. وسيظل الجيش رقما مهما بالمعادلة السياسية ولا سيما بعد المكانة التي حصل عليها في الدستور الجديد.

إن فشل السياسيين في التوافق السياسي وإنهاء الاستقطاب قد يؤدي فعلا إلى تدخل الجيش بشكل مباشر أو غير مباشر لإعادة ضبط الأمور. وهذا قد يحقق الأمن لكنه حتما سيؤخر عملية الانتقال إن لم يوقفها لسنوات. وهناك حالات انتقال فاشلة كان السبب الأساسي تسييس الجيش واستدعائه لحل خلافات السياسيين أو سوء التعامل مع مسألة العلاقات المدنية العسكرية. فاعتبروا يا أولي الألباب من الباكستان ونيجيريا وتايلند والجزائر وغيرها.

وهناك بالطبع خطورة شديدة على الاقتصاد، وعلى الجميع أخذ هذا الأمر في الاعتبار لأنه قد يهدد المسار بأكمله ويدخلنا في موجة من الثورة ستكون تكلفتها مرتفعة للغاية ولن تكون سلمية هذه المرة.

ما الحل؟
المشكلات السياسية تحتاج إلى حلول سياسية، والحلول السياسية تحتاج إلى تقدير الأمور بشكل صحيح والتدبر في عواقب القرارات، وتقدير الواقع بشكل صحيح وتدبر العواقب يحتاجان إلى قيادات ونخب واعية.

تحتاج مصر إلى عقلاء وتنازلات من كافة الأطراف وإلى آلية للحوار وإستراتيجية للمشاركة والتكتل الوطني خلال مرحلة التحول التي قد تمتد لسنوات

ولهذا تحتاج مصر إلى عقلاء وتنازلات من كافة الأطراف وإلى آلية للحوار وإستراتيجية للمشاركة والتكتل الوطني خلال مرحلة التحول التي قد تمتد لسنوات. مصر تحتاج إلى مساحة متسعة من العمل السياسي وليس الشعبوي، تحتاج إلى حوار شامل لمعالجة آثار الاستقطاب الحاد ووضع أسس لمشاركة وطنية حقيقة تستكمل طريق التحول الديمقراطي. وهنا أتصور ما يلي:

أولا: البداية عند الرئيس
يجب أن يعمل الرئيس فعلا من أجل حوار وطني يؤدي إلى وثيقة مكتوبة وموقع عليها من كافة القوى والأحزاب الرئيسية. ويحتاج الأمر إلى:

1- تشكيل حكومة وطنية تضم كفاءات ورموزا وطنية، وإعادة تشكيل الفريق الرئاسي، وتوزيع ملفات حقيقية على كافة الشركاء، بحيث يسهم الجميع في معالجة إرث النظام القديم وتحمل المسؤولية في مرحلة التأسيس والبناء.

2- أخذ دعاوى الانتهاكات الخاصة بالاستفتاء جديا، وترك الأمر لجهة محايدة ومستقلة للتحقيق فيها وتقديم أي تجاوزات للعدالة.

3- التوافق على المواد التي تعهدت الرئاسة بتعديلها بالدستور وآليات التعديل.

4- أن يقتصر دور مجلس الشورى على التشريعات اللازمة لإجراء انتخابات مجلس النواب فقط ولا يمتد إلى أي تشريعات أخرى بالنظر إلى تشكيله، فهو ليس مجلسا نيابيا منتخبا بالكامل حتى تترك له القضايا المصيرية. وهذا أمر ضروري للغاية حتى لا تنفجر مشكلات أخرى على يد أحزاب الأغلبية بالشورى، لن تؤدي إلا إلى تعقد الأمور من جديد.

5- يجب أن تقدم كافة الأحزاب، الكبيرة والصغيرة، الأجندة الوطنية الجامعة على الأجندات الحزبية، لأننا بمرحلة البناء ووضع قواعد اللعبة الديمقراطية ووضع القوانين المكملة للدستور. وهذه مرحلة لا يجب الاحتكام خلالها لمنطق الأغلبية والأقلية، ومتى انتهت مرحلة البناء يمكن تقديم الأجندات الحزبية والتنافس سلميا لتقديم برامج عمل مختلفة لحل القضايا المختلفة. وهذه مسألة مهمة للغاية.

6- وضع خطة متكاملة لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وتفعيلها لمواجهة حالات الانفلات والبلطجة، ولمتابعة كافة القضايا السابقة وتقديم المسؤولين عن إراقة الدماء إلى العدالة.

ثانيا: مسؤولية الأحزاب
ومن جهة المعارضة، لابد أن تدرك جبهة الإنقاذ وحزب مصر القوية وجميع الأحزاب الأخرى الإسلامية وغير الإسلامية، حجم مسؤولياتها التاريخية، وتعمل على:

1- الاستجابة لأية دعوة للحوار الجدي وبدون شروط مسبقة لأجل إنقاذ البلاد، فالرئيس مرسي منتخب بإرادة شعبية لأول مرة في تاريخنا.

2- إدراك أن البلاد تحتاج إلى أحزاب قوية لإحداث قدر أكبر من التوازن والتمثيل بالبرلمان، لذا يجب العمل جديا على إقامة تحالفات حزبية قوية، فلا مستقبل للأحزاب الصغيرة، وكل الأحزاب القوية بالديمقراطيات المعاصرة عبارة عن تحالفات قوية بالأساس.

3- العمل فورا على الأرض، وتأهيل الكوادر وتدريبهم والدفع بهم إلى المجالس المنتخبة المحلية والبرلمانية، وتمكين الشباب والمرأة.

لابد من عدم تسييس الجيش أو استدعائه لحسم خلافات السياسية وكذلك الكف عن تسييس القضاء والعمل على تحييده واستقلاله

ثالثا: الخطوط الحمراء
وأخيرا هناك سبعة خطوط حمراء في غاية الأهمية، أرى ضرورة التوافق عليها ووضعها في الوثيقة المكتوبة المقترحة، وهي:

1- نبذ العنف بجميع أشكاله وأنواعه.
2- التوقف عن التراشق الإعلامي.
3- التوقف عن استخدام الجماهير للضغط على الخصوم وقيادة الشارع نحو انتقال سلمي بدلا من قيادته نحو التصادم.
4- عدم تسييس الجيش أو استدعائه لحسم خلافات السياسيين.
5- الكف عن تسييس القضاء والعمل على تحييده واستقلاله بكافة الطرق، فهو ضمانة أساسية للديمقراطية.
6- عدم الاستقواء بالخارج أو الاحتكام إليه لحسم قضايا داخلية كدعاوى الانتهاكات التي حدثت بالاستفتاء.
7- الكف عن استخدام الدين والمنابر الدينية لحسم خلافات وصراعات سياسية، ففي هذا خطر على الدين ذاته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.