ثورات أوروبا الإقليمية

انا بالاسيو - Ana Palacio

undefined 

تزداد دعوات الاستقلال في كل من كاتالونيا وإسكتلندا مجددا وهي دلالة على الأوضاع السائدة ليس فقط في إسبانيا والمملكة المتحدة، بل أيضا في الاتحاد الأوروبي بشكل عام، إذ إن ضعف الاتحاد في مواجهة أزمته المالية يعكس تفاقم تآكل الاندماج الأوروبي، وبغض النظر عن جذور ذلك المتمثلة في المظالم القديمة يبدو أن الانفصال قد أصبح عارضا مؤلما لهذه المسيرة القائمة على أساس التفسخ.

أكثر الأحزاب الانفصالية حنكة في أوروبا تقدّم برامجها على أساس وعود بأن الدول الجديدة سوف تتمتع بعضوية تلقائية في الاتحاد الأوروبي

إن من السخرية هنا أن أكثر الأحزاب الانفصالية حنكة في أوروبا تقدم برامجها على أساس أنها ذات طبيعة أوروبية، حيث تقدم تلك الأحزاب وعودا بأن الدول الجديدة سوف تتمتع بعضوية تلقائية في الاتحاد الأوروبي.

إن كلا من الحزب القومي الإسكتلندي وكونفيرجينسيا أي أونيو في كاتالونيا يقومان باستغلال مفهوم المواطنة الأوروبية من أجل إحياء مفاهيم القومية الضيقة وفي نهاية المطاف تقسيم البلدان التي يشكلون جزءا منها حاليا.

لا توجد أحكام في قانون الاتحاد الأوروبي تتعامل مع تفكك بلد عضو، علما أن الانفصالية تتناقض مع المبدأ الأساسي وهو "اتحاد أكثر ترابطا"، ولهذا السبب فهناك دعوات متزايدة لإرسال رسالة إلى الناخبين في الأقاليم التي من الممكن أن تصبح انفصالية بأن عضوية الاتحاد الأوروبي غير مضمونة في حالة الاستقلال.

لقد أعلن الوزير الأول في إسكتلندا وقائد الحزب القومي الإسكتلندي إليكس سالموند أن ضمان عضوية الاتحاد الأوروبي هو جزء من القانون، ولكن هذا الكلام غير صحيح، مما جعله هو وحزبه يواجهان أكبر أزمة منذ توليه السلطة سنة 2007.

إن هذا الفراغ القانوني يفسر لماذا يحاول قادة حزب كونفيرجينسيا أي أونيو في الفترة التي تسبق انتخابات كاتالونيا بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني جاهدين تحويل الاستفتاء غير الرسمي على الاستقلال إلى استفتاء شعبي على رغبة الكاتلان في عضوية الاتحاد الأوروبي (وهي ليست قضية خلافية كما أن الأمر غير متروك للناخبين في كاتالونيا لاتخاذ قرار بهذا الشأن). منطقيا، إن لم يكن قانونيا، فإن السؤال المتجانس الوحيد الذي يمكن لحكومة كونفيرجينسيا أي أونيو أن تطرحه على الناخبين هو ما إذا كان الكاتلان يرغبون في أن يكونوا جزءا من إسبانيا.

إن إطار الأمم المتحدة الذي يحكم الانفصال يميز بشكل واضح بين "تقرير المصير الداخلي" و"تقرير المصير الخارجي". إن الأول يسمح لأناس بالسعي للتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ضمن إطار الدولة الحالية، في حين أن الثاني يمكن أن يأخذ شكل الانفصال الأحادي الجانب ولكن طبقا لظروف قاهرة، علما أن كلا التعريفين لا ينطبق على حالة كاتالونيا أو إسكتلندا.

لا يستطيع أي شخص في كاتالونيا أو إسكتلندا أن يدعي أن هناك قمعا للهوية الثقافية التي تتمتع بحماية قوية في إسبانيا -علما أن أحد الأهداف الرئيسية للدستور الإسباني بعد وفاة فرانشيسكو فرانكو هو حماية اللغات الكاتالانية والباسكية وثقافتهما- والمملكة المتحدة. ربما لهذا السب كانت المطالبة الإسكتلندية الرسمية بالاستقلال لا تعتمد على تراث منفصل ولكن على مفهوم متزعزع من القيم السياسية والاجتماعية المتميزة، وهو طرح غامض لدرجة أنه يمكن استخدامه في تبرير تفكيك كل دولة أوروبية.

استفتاء كاتالونيا القادم يأتي كنتيجة للمساومة السياسية المحيطة بمناقشات حزمة الإنقاذ المالي بين مناطق إسبانيا والحكومة المركزية

كما هو الحال عادة في القومية -بغض النظر عن طريقة إخفائها- فإن المشاعر العاطفية التي تحيط بدعوات الاستقلال ما هي إلا قناع يخفي طموحا سياسيا صريحا ومصالح اقتصادية ذاتية، ففي كاتالونيا أصبح تصوير كاتالونيا على أنها الضحية إستراتيجيةً في الحملة الانتخابية حيث يشير قادة كونفيرجينسيا أي أونيو إلى تهديدات غير واقعية من الحكومة المركزية في مدريد بما في ذلك دبابات إسبانية وطائرات معادية فوق المجال الجوي الكاتالاني.

لو طرحنا الكلام الخطابي جانبا لوجدنا أن استفتاء كاتالونيا القادم يأتي كنتيجة للمساومة السياسية المحيطة بمناقشات حزمة الإنقاذ المالي بين مناطق إسبانيا والحكومة المركزية. لقد أشعلت الأزمة مطالبات الاستقلال وذلك عن طريق زيادة غضب العديد من الكاتالونيين بسبب تحويل الأموال لمناطق إسبانيا الأكثر فقرا وذلك من خلال صندوق التضامن المناطقي المكروه.

إن سؤال الاستقلال قد تحول إلى أداة مساومة قوية ضد الحكومة المركزية، كما أن هذا السؤال يفيد في إخفاء المشاكل الحالية، فعلى سبيل المثال فإن الدين الكاتالوني يصل إلى 30% من إجمالي ديون مناطق إسبانيا، وهذا يصرف الانتباه عن الإدارة الاقتصادية السيئة للحكومة الإقليمية كونفيرجينسيا أي أونيو.

إن الأمور يمكن أن تكون أكثر سوءا مع الاستقلال، فالتقديرات المحافظة تشير إلى أن الخروج من إسبانيا ومن اليورو ومن الاتحاد الأوروبي قد يتسبب في انخفاض يبلغ 20 إلى 25% من الناتج المحلي الإجمالي لكاتالونيا، علما أن 68% من الصادرات الكاتالونية الدولية تذهب إلى الاتحاد الأوروبي (طبقا للأرقام الرسمية لسنة 2010) كما أن 50% من إجمالي إنتاجها يذهب إلى بقية إسبانيا.

إن النموذج نفسه ينطبق على إسكتلندا، كما أنه في أعقاب أزمة اليورو قام قادة الحزب القومي الإسكتلندي بالتخلي عن خطتهم القديمة بتبني اليورو حيث قالوا إنهم سوف يحتفظون بالجنيه الإسترليني.

لكن انتقاد أولئك الانتهازيين الذين يشعلون نيران الانفصال في برشلونة وأدنبره ليس كافيا. إن المظاهرة التي جرت في برشلونة في سبتمبر/أيلول الماضي والتي شارك فيها حوالي 8% من سكان كاتالونيا البالغ تعدادهم 7.5 ملايين نسمة أظهرت أن هناك قضايا حقيقية يجب التعامل معها على المستوى الأوروبي والمستوى الوطني.

إن أساس مبدأ الديمقراطية هو قدرة المواطنين على تحديد توجه السياسة العامة ولكن اليوم يشعر المواطنون في أوروبا بالعجز, فمع وجود الأزمة الاقتصادية فإن هذه الظاهرة موجودة بشكل خاص في جنوب أوروبا حيث يشعر الناخبون بعدم الارتياح لأنهم يتمتعون فقط بقليل من النفوذ في برلين والتي يتم فيها اتخاذ القرارات الحقيقية.

الاضطرابات في كاتالونيا يجب أن تدفع باتجاه عمل مراجعة دقيقة لدستور إسبانيا لسنة 1978 وتبني كيان فدرالي حقيقي

أما في كاتالونيا فلقد استغل كونفيرجينسيا أي أونيو هذا الإحباط وحوّله إلى رفض للحكومة المركزية الإسبانية وفي إسكتلندا، فسياسات التقشف التي قامت بها حكومة ديفد كاميرون قد وفرت قوة مماثلة لمطلب الاستقلال الخاص بالحزب القومي الإسكتلندي.

إن مما لا شك فيه أن إسبانيا كانت واحدة من أكبر قصص النجاح في نهاية القرن العشرين حيث أدارت انضمامها للاتحاد الأوروبي وانتقالها الديمقراطي مع التحول من دولة تعاني من نقص التنمية إلى رابع أكبر اقتصاد في منطقة اليورو والمركز الثالث عشر في العالم، لكن المقايضات التي كانت جزءا من المرحلة الانتقالية أدت إلى عواقب وخاصة التوزيع المناطقي للسلطة والذي يجب مواجهته بكل صراحة.

بغض النظر عن الأسباب، فإن الاضطرابات في كاتالونيا يجب أن تدفع باتجاه عمل مراجعة دقيقة لدستور إسبانيا لسنة 1978 وتبني كيان فدرالي حقيقي, ولو تم ذلك بنجاح فإن الفدراليين في إسبانيا بإمكانهم تقديم النصح للآخرين بداية من القادة السياسيين في المملكة المتحدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.