مصر وغزة ما بين العدوان والتهدئة

مصر وغزة ما بين العدوان والتهدئة . الكاتب : بشير عبد الفتاح

undefined

طفرة المقاومة
مصر تنتفض
الفخ الإسرائيلي
الرابح الأكبر

لم يكن العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة مجرد اعتداء عسكري على أرض عربية محتلة ترتبط جيوإستراتيجيا بمصر فحسب، وإنما شكل تحديا جسيما ومفتعلا للرئيس المصري المنتخب ونظامه، لا سبيل للتغلب عليه سوى تحقيق معادلة صعبة ومركبة تتمثل في قدرة الرئيس مرسي على تبني سياسات تخوله أداء الواجب القومي المتمثل في وقف ذلك العدوان والحيلولة دون تفاقمه ونصرة الشعب الفلسطيني قدر المستطاع بتكلفة محتملة أو صفرية إن أمكن، بحيث لا يتم النيل من مساحة التفاهم والتنسيق القائمة مع واشنطن، أو الإطاحة بركائز السلام البارد والقلق مع إسرائيل، مع ضمان عدم التورط في مغامرات أو مواجهات عسكرية غير مضمونة العواقب، على نحو يكفل في نهاية المطاف الإبقاء على رصيد الثقة والتأييد الشعبي لنظام الرئيس مرسي في الداخل. 

طفرة المقاومة
لافت هو التطور النوعي الذي اعترى أداء المقاومة الفلسطينية المسلحة خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، إن من حيث القدرة على الصمود ورفض الهرولة نحو إبرام الهدنة، أو من خلال استخدام صواريخ متطورة وأكثر دقة وأطول مدى وذات أثر تدميري أعظم من طراز"فجر" و "كاتيوشا" إضافة إلى صواريخ أخرى مضادة للطائرات، الأمر الذي أتاح للمقاومة الوصول إلى العمق الإسرائيلي حتى تل أبيب والقدس الغربية.

هذا علاوة على منصات الصواريخ، التي تعمل إليكترونيا مستخدمة أشعة الليزر في التوجيه، كما تتمتع بقدرة على التخفي تحت الأرض.

بفضل التطور النوعي في القدرات العسكرية كما الأداء العملياتي للمقاومة الفلسطينية وما صاحبه من دعم مصري وعربي، تسنى لها بلوغ حالة إستراتيجية تقوم على توازن الرعب أو الردع مع إسرائيل

كذلك، أضحت القدرة الصاروخية للمقاومة الفلسطينية أكثر دقة في اختيار وإصابة الأهداف، حيث لم تعد صواريخها تسقط في المزارع أو الصحراء وإنما نجحت غالبيتها في إصابة البنايات والتجمعات السكنية والأهداف الحيوية على مسافات تصل إلى مائة كيلومتر، كمباني الاستخبارات والكنيست ومنازل بعض كبار المسؤولين الإسرائيليين كوزير الخارجية ورئيس الأركان، كما أعلنت كتائب القسام إسقاطها طائرة استطلاع إسرائيلية كانت تحلق فوق القطاع فضلا عن أخرى مروحية من طراز أباتشي.

وبفضل هذا التطور النوعي في القدرات العسكرية كما الأداء العملياتي للمقاومة الفلسطينية وما صاحبه من دعم مصري وعربي، تسنى لها بلوغ حالة إستراتيجية بتوازن الرعب أو الردع مع إسرائيل.

ولقد كان لهذه الحالة الإستراتيجية الجديدة، بالغ الأثر في تعزيز القدرات التفاوضية للفلسطينيين مع الجانب الإسرائيلي والمجتمع الدولي، كما أسهمت بدرجة كبيرة في تقليص سقف أي تصعيد إسرائيلي محتمل، وأتاحت للدول العربية والإسلامية في ذات الوقت تنوعا في الخيارات وحيزا أوسع للمناورة وممارسة الضغوط على إسرائيل وحلفائها.

مصر تنتفض
ربما لا يختلف اثنان على أن رد الفعل الرسمي المصري حيال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة قد أتى مغايرا لذلك الذي أعقب أي عدوان إسرائيلي سابق. فبالإضافة إلى سرعة الاستجابة، تجلت تحركات النظام المصري الجديد في اتجاهات ثلاثة متوازية: انصرف أولها إلى إزالة أية قيود على العمل الإغاثي الرسمي وغير الرسمي، حيث فتحت المعابر على مدار الساعة أمام البضائع والأفراد ووضعت المشافي المصرية برفح والعريش في حالة تأهب قصوى، وقدمت كافة التسهيلات للمعونات والمساعدات الغذائية والطبية المقدمة لسكان غزة.

أما ثانيها، فتمثل المواقف العملية، التي حرص الرئيس مرسي من خلالها على تلافي مثالب سلفه المخلوع فيما يخص التعاطي مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، واضعا في حسبانه اعتبارات شتى، كونه أول رئيس مدني منتخب بعد ثورة شعبية كان من بين أهدافها إعادة الحيوية للدور الإقليمي المصري وكبح جماح الغطرسة الإسرائيلية وإحداث شيء من التوازن والندية في العلاقة مع الولايات المتحدة، هذا علاوة على العلاقة العضوية والتاريخية التي تربط جماعة الإخوان المسلمين، التي ينتمى إليها الرئيس مرسي، بحركة حماس.

وقد استهل مرسي مواقفه العقابية التصعيدية بتنفيذ تهديده الذي أطلقه قبل ساعات من الهجوم الإسرائيلي بسحب السفير المصري من تل أبيب حالة تنفيذ الأخيرة تهديداتها بشن عدوان على قطاع غزة. وفي السياق ذاته، جاءت زيارة رئيس الوزراء المصري غير المسبوقة إلى قطاع غزة في خضم العدوان الإسرائيلي على رأس وفد مصري رفيع المستوى، ومن بعدها زيارة الوفد الشعبي المصري، لتأكيد تضامن مصر، حكومة وشعبا، مع الفلسطينيين في محنتهم، وتوصيل رسالة مهمة لإسرائيل والولايات المتحدة مفادها أن مصر اليوم ليست كمصر ما قبل ثورة يناير2011، وأنها لا يمكن أن تقبل بمثل هذا العدوان ولن تتردد في نصرة الشعب الفلسطيني.

وجاء ثالثها في تحرير الخطاب السياسي المصري الرسمي من قيود الماضي بإعلان دعم الدولة المصرية الكامل لغزة وللمقاومة وأنها لا يمكن أن تترك القطاع ساحة للعربدة الإسرائيلية، حتى أن سفير مصر لدى السلطة الفلسطينية ياسر عثمان أكد أن مصر ليست وسيطا محايدا بين إسرائيل والفلسطينيين وإنما هي مؤيدة وداعمة للطرف الأخير. وهو التصريح الذي ربما حمل ردودا مصرية حاسمة على مطالبة الرئيس الأميركي لنظيره المصري بالتوسط والضغط على حركة حماس لمنع تفاقم الأزمة.

ويبدو أن القاهرة قد أبت إلا التخلي عن دور العراب الضعيف أو التابع، الذى ينحصر دوره في تلقي الإملاءات من واشنطن أو تل أبيب توطئة لفرضها على الفلسطينيين أو إقناعهم بها حتى يتم إدراك اتفاق مجحف أو تهدئة هشة، وهو ما ظهر بجلاء عقب الإعلان عن التوصل لاتفاق الهدنة، حيث أثنى خالد مشعل على جهود القاهرة ودور الرئيس مرسي في مساندة الموقف الفلسطيني وإدراك هذا الاتفاق، مؤكدا أنه لم يمارس أية ضغوط على المفاوضين الفلسطينيين ولم يسع لفرض أية حلول أو مقترحات عليهم لإبرامه.

تشي السرعة والصرامة في رد الرئيس مرسي على العدوان الإسرائيلي بإصرار واضح على إفشال مخطط نتنياهو الرامي إلى المزايدة عليه وإحراجه أمام شعبه والفلسطينيين

الفخ الإسرائيلي
تشي السرعة والصرامة اللتان اتسم بهما رد الرئيس مرسي على العدوان الإسرائيلي بإصرار واضح على إفشال مخطط نتنياهو الرامي إلى المزايدة عليه وإحراجه أمام شعبه والفلسطينيين. فمثلما فعل أسلافه، جنح نتنياهو قبل العدوان الأخير على غزة للإيقاع بالقيادة المصرية الجديدة في فخ الحوارات الوهمية والعبثية بشأن التهدئة والهدنة واستئناف مفاوضات السلام، والتي غالبا ما تسبق العدوان المبيت على الفلسطينيين، والذي لا يلبث أن يباشره في غضون ساعات. وهى الإستراتيجية التي توحي وكأن تنسيقا إسرائيليا مصريا قد جرى بشأن العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين.

وربما تراءى للرئيس مرسي أيضا سعى نتنياهو لاختبار نوايا النظام الجديد في القاهرة حيال إسرائيل ومعرفة سقف ردود أفعاله المتوقعة على استفزازاتها، سواء من خلال العدوان على غزة أو عبر إثارة التوترات في سيناء. وهو مخطط بدت إرهاصاته جلية منذ تولي الدكتور مرسي الرئاسة في مصر، حينما أقدمت تل أبيب على تسريب بعض مكاتباته واتصالاته السرية الرسمية مع كبار المسؤولين الإسرائيليين، والتي تظهر حرص الإدارة الجديدة على التقارب مع تل أبيب، بخلاف ما هو معلن للمصريين من مواقف رسمية تبدو مغايرة حيالها.

ولعل الرئيس مرسي قد اشتم في المساعي الإسرائيلية والدولية للإلقاء بكرة اللهب في يده والتعويل على القاهرة في نزع فتيل التوتر، رائحة مخطط إسرائيلي لإحراجه والنيل من صدقيته أمام شعبه فيما يخص موقفه من العلاقة مع الدولة العبرية، فضلا عن وضع علاقته القلقة بواشنطن هذه الأيام بفعل الربيع العربي على المحك.

فرغم أنه يفترض في الرئيس الأميركي الذي يعاد انتخابه أن يتمتع بمساحة أكبر من الحرية في سياسته الخارجية كونه ليس مضطرا للتفكير في الفوز بولاية رئاسية ثالثة، مما يحرره من ضغوط وابتزاز جماعات الضغط والمصالح، تشى الأوضاع على الأرض بأن موقف البيت الأبيض من تل أبيب لا يأبه بهكذا طرح، فدعم إسرائيل يعد من الثوابت التي لا تتزعزع للسياسة الخارجية الأميركية، كما أن الديمقراطيين بحاجة إلى تعظيم حظوظهم بالبقاء في البيت الأبيض عبر تقديم مرشحين رئاسيين جدد بعد انتهاء ولاية أوباما الثانية، وهو الرئيس الديمقراطي الثاني منذ الحرب الكونية الثانية الذى فاز بولايتين متتاليتين بعد بيل كلينتون.

وبذلك، يكون نتنياهو قد حشر الرئيس مرسي في الزاوية، بدفعه نحو تجشم معاناة الموازنة ما بين الذود عن شعبيته في الداخل إلى جانب قناعاته والتزاماته القومية والإسلامية بنصرة فلسطينيي غزة من جهة، وحرصه على عدم تصعيد التوتر مع تل أبيب على نحو يفضي بالتبعية إلى تهديد علاقته بالحليف الأميركي من الجهة الأخرى.

الرابح الأكبر
إذا ما سلمنا بأن كافة الأطراف قد غنمت من وراء اتفاق التهدئة الذي تم التوصل إليه بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، فإنه يجوز لنا الادعاء من جهة أخرى بأن مصر ورئيسها كانا هما الطرف الأكثر مغنما جراء هذا الاتفاق، ليس لأنهما أصحاب الفضل الأول في إدراكه واحتضانه، بشهادة القاصي والداني، ولكن لأن كل طرف قد تكبد ثمنا، لا بأس به، وإن بشكل متفاوت، من أجل تحقيق مكاسبه من وراء الاتفاق، بينما حصد الطرف المصري وحده نصيب الأسد من عائدات توقيع الاتفاق وبأقل تكلفة.

ففي حين تفادت حكومة نتنياهو التداعيات الأمنية والسياسية والإنسانية الخطيرة لعملية الاجتياح البري لقطاع غزة، وتسنى لها توجيه ضربات موجعة للمقاومة الفلسطينية وبنيتها التحتية، إلا أنها تكبدت قتلى وجرحى ما اضطرها لطلب وقف إطلاق النار، كما بدت للعالمين مثالب قبتها الحديدية إلى الحد الذي جدد الجدل داخل الدوائر السياسية والأمنية الإسرائيلية بشأن جدواها وفعاليتها، الأمر الذي دفع بشاؤول موفاز زعيم المعارضة إلى وصف عملية نتنياهو العسكرية ضد غزة بالفاشلة.

تمكن الرئيس مرسي من استعادة دور مصر الإقليمي كصانعة سلام وحافظة للاستقرار في المنطقة بلا منافس، الأمر الذي أهله للإبقاء على رصيده الشعبي داخل بلاده بالتوازي مع اجتذاب إعجاب وتقدير العالم الخارجي

وبينما استعرضت المقاومة الفلسطينية ما لحق بقدرتها العسكرية من تطور نوعي تجلى في القوة الصاروخية التي تضمنت صواريخ أطول مدى وأكثر دقة وأشد تدميرا، وهو ما جنبها اللهث وراء الهدنة، وأجبر إسرائيل على الانصياع لشروطها بوقف العدوان والامتناع عن استهداف قيادات المقاومة وتسهيل عبور وانتقال فلسطينيي غزة من البوابات والمعابر الإسرائيلية، إلا أن العدوان الإسرائيلي على القطاع كبد الفلسطينيين ما يربو على مائة وستين شهيدا فضلا عن قرابة ألفي مصاب وجريح علاوة على الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية العسكرية للمقاومة والخسائر المادية التي طالت القطاع، كما أماط اللثام عن الاختراق المعلوماتي والاستخباراتي الواضح لصفوف المقاومة، وعزز من حالة الجفاء التي تخيم على العلاقات بين فصائل المقاومة من جانب وحركة فتح والسلطة الفلسطينية من جانب آخر.

أما مصر، التي بدأت إجراءاتها العقابية ضد حكومة نتنياهو إثر العدوان بخطوة سياسية تصعيدية تمثلت في سحب السفير وإعلان التأييد التام للجانب الفلسطيني، ما ضيق الفرصة أمامها نحو مزيد من القرارات والخطوات التصعيدية ضد إسرائيل بالتزامن مع تفاقم الخروقات والاعتداءات الإسرائيلية، وذلك في ضوء خصوصية الظرف التاريخي الراهن وتعقيدات المرحلة الانتقالية في مصر ما بعد مبارك، فقد نجح رئيسها الجديد في الإفلات من الفخ الإسرائيلي بعد أن تمكن من تحقيق المعادلة الصعبة المتمثلة في إظهار الدعم الكامل للفلسطينيين وكبح جماح العربدة الإسرائيلية وإبداء شيء من الندية والاستقلالية في مواجهة الضغوط والإملاءات الأميركية بما خوله استعادة دور مصر الإقليمي كصانعة سلام وحافظة للاستقرار في المنطقة بلا منافس، الأمر الذي أهله في نهاية المطاف للإبقاء على رصيده الشعبي داخل بلاده بالتوازي مع اجتذاب إعجاب وتقدير العالم الخارجي.

ومن رحم تلك المعطيات، تراءى لمراقبين كثر وكأن التداعيات الإيجابية لثورة يناير 2011 قد تجلت بشكل أوضح وبوتيرة أسرع في السياسة الخارجية لمصر في عهد الرئيس مرسي، وإن تأخر ظهورها وبدت أكثر تعثرا واضطرابا بعض الشىء على مستوى تفاعلات الداخل المصري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.