العدوان على غزة ومأزق القوة الإسرائيلية

العدوان على غزة ومأزق القوة الإسرائيلية. الكاتب : نادية سعد الدين

undefined

تقود حيثيات العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، حتى الآن، إلى سوء تقدير الاحتلال في حساب النواتج المتوخاة من رفع سقف ما أخفق تحقيقه من أهداف خلال 2008/2009، وفي ردّة فعل المقاومة الفلسطينية، ووزن مناخات ثورات التغيير العربي، بما يشي عن ما يمكن تسميته "مأزق قوة إسرائيلية" قد يقلب "عمود السحاب" إلى إشكالية ردعيّة جديدة.

وتقف مؤشرات، راهنة ولكنها مهمة، في إجلاء مدى معاكسة مجريات الأحداث لتقارير أمنية إسرائيلية، مثل التقييم الإستراتيجي لشعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، وُضعت أمام القيادتين السياسية والعسكرية قبل أيام من بدء العدوان وزعمت بقدرة الاحتلال على حسم المعركة بضربة واحدة، محققاً أهداف تعزيز قوة الردع، وضرب مواقع إطلاق الصواريخ والتصدي لها "بالقبة الحديدية" المتينة، وشلّ المقاومة بسحق بنيتها التحتية واغتيال قادتها وحسر مواطن القوة لديها، استباقاً لأي محاولة تغيير في موازينها من جانبها.

ولأن عدوان الاحتلال على غزة يتجاوز مسوّغ صواريخ المقاومة نحو تحقيق ما فشلت العمليات العسكرية المتوالية في إحرازه، فقد صبّت مضامين التقارير في خانة مرام عنصرية محاكية لمثيلتها في الحرب على غزة (27/12/2008 حتى 19/1/2009)، بهدف كسرّ إرادة الشعب الفلسطيني وتصفية المشروع الوطني والقضاء على المقاومة غداة تحطيم إمكانياتها العسكرية، وإسقاط "حماس"، وفرض إملاءات التسوية وفق الرؤية الصهيونية.

كما لامست، عند المؤسستين السياسية والأمنية، هاجس "الردع" الأمني، الذي اهتز ومن ثم تآكل عقب الانسحاب من جنوب لبنان في العام 2000 والفشل في تحقيق أهداف العدوان على أراضيه في العام 2006 تماثلاً مع نتائج حرب غزة 2008/2009.. وبحسابات أخرى منذ حرب عام 1973 واجتياح لبنان عام 1982، بينما أثبتت انتفاضتي 1987 و2000ومتوالية عمليات المقاومة عدم قدرة الذراع القوية لجيش الاحتلال على حماية المستوطنين وتوفير الأمن المطلق لهم، كما الراهن اليوم مع صواريخ المقاومة، وعجز القوة العسكرية المدججة بأحدث أسلحة القتل والدمار وأدق وسائل الرصد والمراقبة وجمع المعلومات عن محق مقاومة لا تساويها في القدرات العسكرية، ولكن تتفوق عليها بقوة إرادة الحق، ما أوجد ثغراً في العمود الفقري للكيان الصهيوني ومصدر شرعية وجوده..

لم يغبّ المزاد الانتخابي عن دائرة أهداف العدوان، في محاولة من الليكود لكسب المزيد من الأصوات، قبيل الانتخابات المقررة في 22 يناير/كانون الثاني القادم، بتقديم أجندة الأمن والصراع مقابل الأجندة الاجتماعية والاقتصادية

لقد بدا واضحا للجميع فشله في ترسيخ وجوده بالمنطقة وإخضاع الشعب العربي الفلسطيني لمشيئته، رغم ما حققه من توسع بقوة السلاح، وما قدمته بعض الأطراف العربية من تنازلات لإحلال السلام، خلف ستار الإقرار بالأمر الواقع.

ولم يغبّ المزاد الانتخابي عن دائرة أهداف العدوان، في محاولة من الليكود والأحزاب اليمينية المتطرفة لكسب المزيد من الأصوات، قبيل الانتخابات المقررة في 22 يناير/كانون الثاني القادم، بتقديم أجندة الأمن والصراع مقابل الأجندة الاجتماعية والاقتصادية التي تتصدر حملة تيار اليسار والوسط الانتخابية، لما لها من تأثير في مخاطبة داخل إسرائيلي ينحو لمزيد من الغلو والتطرف، بما سينعكس، بطبيعة الحال، على نتيجة الانتخابات.

ومنذ الإعلان عن انتخابات مبكرة، قام التيار اليميني المتطرف، الذي يجد موقعاً انتخابياً مريحاً بما يؤهله للفوز فيها وتشكيل الحكومة بسهولة وفق استطلاعات الرأي الأخيرة، بالتركيز على الملف الإيراني والتهديدات الكامنة في الثورات العربية ومآلات المتغيرات المعتملة في المنطقة، ليس لأغراض حشد الالتفاف الانتخابي فحسب، وإنما لما تشكله تلك الملفات من مصدر قلق كبير في الكيان الإسرائيلي.

لكن بسبب تراجع خطة ضرب المشروع النووي الإيراني وحزب الله، منذ المعركة الانتخابية الأميركية ومن ثم فوز باراك أوباما بولاية رئاسية جديدة، دون مبارحتها تماماً، جعل الاحتلال يتجه، مع أهدافه الحاضرة دوماً، صوب مرام ما كان يعتقد أنها الحلقة الأضعف في جبهات التهديد ضده.

غير أن نجاح المقاومة في امتصاص الضربة العدوانية الأولى وإفشال مخطط إيقاف إطلاق الصواريخ وقدرتها على جعل تل الربيع "تل أبيب" والقدس المحتلتين في مرماها، وإدخال صواريخ "الفجر 5" في خضمّ ردّ العدوان، قد غيّر المعادلة، حيث يتراوح مدى الأخيرة، بحسب مراكز أمنية إسرائيلية، ما بين 75 و85 ميلا، بينما تبعد غزة عن القدس مسافة 78 ميلا وتبعد تل الربيع عنها 71 ميلا، مما يعني أن كل المناطق والبلدات في الكيان الإسرائيلي باتت تحت مدى صواريخ الفجر، وهو أمر يدركه القادة السياسيون والعسكريون جيداً.

هذا المعطى غير المحسوب سلفاً، والذي فاجأ القيادتين العسكرية والسياسية، أوجد خطاباً في الكيان الإسرائيلي خلال الساعات الأخيرة مغايراً لما تقاطر، ابتداءً، داخله، بمختلف تياراته وأحزابه وتوجهاته، حول حسم المعركة بلغة الانتصار من الضربة الأولى.

حيث أقرّ مسؤولون بخطأ توقعات حجم ونوعية الرد من جانب المقاومة، وبعدم قدرة إيقاف صواريخها المنهمرة على الكيان الإسرائيلي، إلى درجة تحذير بعضهم من مقاربة "نفس الخطأ الذي وقع فيه جيش الاحتلال أثناء حرب تموز عندما أعلن ضرب أماكن اعتبرها مواقع لإطلاق الصواريخ، محتفياً بالنصر قبلما يتبين أنه مخطئ"..

أقرّ مسؤولون بخطأ توقعات حجم ونوعية الرد من جانب المقاومة، وبعدم قدرة إيقاف صواريخها المنهمرة على الكيان الإسرائيلي، إلى درجة تحذير بعضهم من مقاربة نفس الخطأ الذي وقع فيه جيش الاحتلال أثناء حرب تموز

بينما لجأ آخرون إلى التندر من مسمى العملية نفسه عما إذا كانت "السحاب" ستعتلي رؤوس غزة أم سترتد على مطلقيها، مصحوباً بتشكك قادة عسكريين في قدرة "القبّة الحديدية" على وقف سيل انهمار "حجارة السجيل"، لقب معركة كتائب القسام ضد العدوان، على الكيان الإسرائيلي، تزامناً مع تململ شريحة عريضة من الإسرائيليين من العملية نفسها، وارتفاع نبرة مطالبتهم بوقفها، غداة اصطفافهم إلى جانبها، وذلك بعدما أصابت صواريخ المقاومة عقر مستوطناتهم التي اعتقدوا لساعات خلت أنها بمنأى آمن عنها، بما تسبب في بث الذعر والرعب في صفوفهم وأدخلهم مجدداً في الملاجيء، استعادة لمشاهد حسبوا أنها ذهبت بلا رجعة مع انتهاء عدوان 2006 على لبنان.

لاشك أن تلك المحددات، بالإضافة إلى الخسائر اليومية التي يتكبدها الاقتصاد الإسرائيلي نتيجة العدوان، والعامل العربي والإقليمي، ستؤثر في مسار العملية العسكرية الإسرائيلية على غزة، عما إذا كانت ستقف عند حدّ الغارات والاغتيالات، في ظل جهود عربية ودولية لتهدئة تستحثها سلطات الاحتلال، أم ستؤول إلى عدوان موسع وشن حرب مشابهة لما ارتكبته قوات الاحتلال قبل أربع سنوات..

خاصة في ظل مؤشرات الاستعداد الإسرائيلي لذلك عبر تعزيز القوات على الحدود مع غزة واستدعاء الاحتياط وتردد إعطاء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الضوء الأخضر لهجوم بري، برغم وجود أطراف قيادية مضادة للانتقال إلى الخطة "ب" التي قد تلعب، بحسبها، لمصلحة "حماس" وتضر بهم، والاكتفاء بما تحقق حتى الآن، في ضوء ما تردد عن موقف أميركي مؤيد لذلك، فضلاً عن قرب موعد الانتخابات الإسرائيلية والخشية من الكلفة التي قد يضطر نتنياهو لدفعها من حسابه الانتخابي، ويلقى نفس مصير نظيره إيهود أولمرت بعد عدوان 2008/2009، بما يجعل كافة الاحتمالات مفتوحة.

يأتي ذلك وسط ظروف جديدة خلقتها الثورات العربية والتغيرات المعتملة في المنطقة، والتي أدخلتها سلطات الاحتلال في حسابات شن العدوان على غزة، ولكن من منظور انشغالات دول الثورات بأوضاعها الداخلية، وبالأحداث الدائرة في سوريا، والاهتمام الأميركي بتحضيرات الولاية الرئاسية الجديدة لأوباما، وبتحديات داخلية وخارجية.

غير أن تلك العناصر، مجتمعة، أوجدت مراكز إقليمية داعمة لحركة حماس، وظهيراً إستراتيجياً مصرياً لقطاع غزة، وشرايين تغذية للأخير، سياسياً واقتصادياً وتسليحياً، لم تكن متوفرة سابقاً.

تجد المقاومة الفلسطينية، وبخاصة حركة حماس، في المجالات الإقليمية والعربية والإسلامية، في زمن الثورات العربية، مصدر قوتها.

وقد برز التأثير الفاعل للمجال العربي منذ بدء العدوان على غزة، من خلال موقف مصري مندد، أردفه بإجراءات مهمة، مثل سحب السفير المصري لدى الكيان المحتل ومغادرة السفير الإسرائيلي في القاهرة وزيارة رئيس الوزراء المصري إلى غزة على رأس وفود متنوعة، وإصدار تصريحات تبعث رسائل واضحة بأن "غزة لم تعد وحدها وأن الاحتلال سيدفع ثمناً باهظاً إذا استمر في عدوانه"، عدا عن الجهود المبذولة للتهدئة.

ولاشك أن هذا الموقف يعدّ عنصر قوة للمقاومة، وسيؤخذ بعين الاعتبار إقليمياً ودولياً، ولكن ثمة تحسب من مسار تطوره إذا استمر العدوان على غزة أو أخذ منحى هجوم بري وحرب شاملة، في ظل مساعدات مالية أميركية منتظرة لمصر قد تجعل من خيارات الرئيس محمد مرسي محدودة.

الاحتلال الإسرائيلي، سواء اكتفى بحدود عمليته أم شنّ حرباً شاملة على غزة، يدرك أن المقاومة الفلسطينية استطاعت فرض قوة ردع معينة ستجد حضورها في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي

بموازاة ذلك؛ تجلى التضامن العربي مع غزة في مواقف وردود الفعل العربية المنددة بالعدوان والمطالبة بوقفه وفي زيارات المسؤولين إلى القطاع، بينما حضر البعد الإقليمي في موقف تركيا الداعم للشعب الفلسطيني والمقاومة والمناهض للعدوان الإسرائيلي، وفي الموقف الإيراني الذي يشكل مصدراً مسانداً وداعماً لحركات المقاومة، بخاصة الجهاد الإسلامي وحماس، قبيل توتر علاقة الأخيرة معها على خلفية الموقف المتمايز من الأحداث السورية.

بينما أظهر العدوان على غزة مدى تفاعل الشعوب العربية والإسلامية مع القضية الفلسطينية، حيث كانت المظاهرات والاعتصامات مؤشرات على مركزية القضية في الوجدان العربي الإسلامي، ورفض الشعوب لوجود الكيان الإسرائيلي أو إسقاط المطالبة بالحقوق الفلسطينية العربية المشروعة بزعم التقادم، مما يشكل عاملاً مؤثراً لجهة تعضيد ودعم موقف المقاومة.

ولكن العامل الدولي، لاسيما الموقف الأميركي المناصر لما يزعمه "دفاع الاحتلال الإسرائيلي عن نفسه أمام صواريخ المقاومة"، والمواقف الأوروبية المتباينة، قد يشكل محدداً مؤثراً في مسار العدوان.

ويدخل في هذا السياق، أيضاً، مدى قدرة المواقف العربية على الاستمرارية بذات الزخم والتطور دون الانكفاء، فضلاً عن العامل الداخلي المتعلق بالانقسام وضعف السلطة الفلسطينية التي ما تزال تصرّ على ربط العدوان الإسرائيلي بمسعى توجهها في 29 من الشهر الجاري (نوفمبر/تشرين الثاني 2012) إلى الأمم المتحدة لنيل اعتراف "بدولة غير عضو" في المنظمة الدولية، لن يقيم الدولة إلا على الورق، في حال تأييده، بعدما قضم الاحتلال 80% من أراضي الضفة الغربية وحوّل المساحة الخارجة عن يده المحتلة إلى ثمانية "كانتونات" متقطعة جغرافياً، فيما سيكون مجرد قرار آخر غير ملزم بالنسبة للكيان الإسرائيلي الذي يمضي قدماً في فرض وقائعه الاستيطانية والتهويدية على الأرض.

ولكن الاحتلال، سواء اكتفى بحدود عمليته أم شنّ حرباً شاملة على غزة، يدرك أن المقاومة الفلسطينية استطاعت فرض قوة ردع معينة ستجد حضورها في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي.

والثابت أن التصدي للعدوان الإسرائيلي، الذي ينمّ حجم شراسته ضد شعب القطاع الأعزل عن مأزقه الداخلي نتيجة فشل إخضاع الشعب الفلسطيني وكسر إرادة التحرير وتقرير المصير، يتطلب دعماً عربياً لصمود المقاومة، وليس تضامناً سياسياً فقط، من أجل تعزيز الثبات على الأرض وقلب حسابات العدو ودفعه ثمناً، مثلما يستلزم تحقيق المصالحة ووضع إستراتيجية وطنية موحدة لمجابهة الاحتلال وعدوانه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.