ما بعد 23 أكتوبر

ما بعد 23 أكتوبر . الكاتب : رياض الشعيبي

undefined

لم يبق من معنى لحملات التجييش التي شنتها المعارضة تحضيرا لموعد 23 أكتوبر، فمبادرة الترويكا نزعت الفتيل من حالة الغموض والاحتقان التي طالما اشتغلت بعض الأطراف على تأجيجها. كما أن المقاطعة الواسعة للمؤتمر الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل من طرف أكثر من 60% من أعضاء المجلس التأسيسي وعشرات من الأحزاب السياسية على رأسها النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية وحزب حركة وفاء وجمعيات تؤطر الآلاف من التونسيين، كان لها تأثير مباشر على فشل هذا المؤتمر، وبالتالي إفراغ مشروعه الانقلابي من أية قيمة سياسية.

كثيرا ما نادت أحزاب الترويكا المشكلة للحكومة الحالية بقية الأحزاب للانخراط في العملية السياسية الحالية, إلا أن مراهنة هذه الأحزاب على إفشال الحكومة كانت أقوى من رهانها على العمل المشترك

لكن بعد أن اجتاز الشعب التونسي هذا التحدي الجديد وخرجت تجربة الانتقال الديمقراطي منتصرة، سيعود الجميع الآن لمناقشة خريطة الطريق التي طرحتها الترويكا لترتيب المرحلة القادمة. ويحلو للبعض تسمية ذلك بمرحلة الانتقال الديمقراطي الثالثة، في إشارة إلى الحاجة لتوسيع التوافق الوطني حول التمشيات القادمة، غير أن تردد بعض أحزاب المعارضة في المشاركة في بناء التجربة الديمقراطية الجديدة سيمثل العائق الأبرز أمام حصول هذا التوافق. فلطالما نادت أحزاب الترويكا المشكلة للحكومة الحالية بقية الأحزاب للانخراط في العملية السياسية الحالية، إلا أن مراهنة هذه الأحزاب على إفشال الحكومة كانت أقوى من رهانها على العمل المشترك.

أقول ذلك لأنه من غير المتوقع أن تناقش مقترحات الترويكا حول الانتخابات القادمة والهيئات المستقلة على مائدة الحوار السياسي وبين الأطر الحزبية كما يفترض أن يحصل في الظروف العادية. بل ستكون الحملات الإعلامية والتشهير والمزايدة الأداة الفضلى لطرح هذه القضايا. وطبعا سيدفع الشعب التونسي من أعصابه واستقراره وأمنه فاتورة هذه المشادات.

ففي كل ليلة يطل من شاشة التلفزة التونسية على 92% (نسب مشاهدة القنوات التونسية) من المشاهدين، خطاب متشنج ينذر ويتوعد ويرسم الجحيم في فجر كل يوم. فيبيت المساكين على هواجسهم يحلمون بالكوابيس ويلعنون نخبتهم التي لم يجنوا من سماعها خيرا. يبدو أن الوقت فات على إصلاح هذا الأمر، فقد استمرأ الكثيرون مشهدية التراجيديا السياسية حيث ينتحر الممثلون ولا يسلِّمُون لسيناريو المشاهدين الذي خطوه في انتخابات 23 أكتوبر 2011.

لذلك نحتاج فضاءات حوار هادئة نتطارح فيها قضايا المرحلة الأخيرة من الانتقال الديمقراطي بعيدا عن المزايدات والحسابات الضيقة. ففي بيان 13 أكتوبر الذي لخص توافقات الترويكا، جاء التعرض لقضيتين رئيسيتين:

– القضية الأولى تتعلق بالانتخابات، وبالفعل فقد تأخرت الترويكا في طرح هذا الموضوع واتخاذ الإجراءات اللازمة لبداية الإعداد للانتخابات القادمة. ويبدو أن ذلك راجع من جهة أولى لضغط المشاكل اليومية وتحدي إدارة المرحلة الانتقالية ومن جهة أخرى لتأخر حصول التوافقات حول مواضيع الاختلاف. فتحديد موعد الانتخابات وشكلها والاتفاق حول القانون الانتخابي ليست مواضيع مجردة خاضعة لتحديدات اعتباطية، وإنما تؤطرها اعتبارات سياسية تنافسية بحتة.

أما بالنسبة للموعد فلا شك أن الترويكا حريصة بالفعل على الإسراع في الانتخابات تجنبا لمزيد من الخسائر بعد ظهور الأثر السيئ للحملات الإعلامية المضادة وعدم استجابة أحزاب المعارضة للمشاركة في حكومة وحدة وطنية، فضلا عما هو متوقع من صعوبات اقتصادية واجتماعية وحتى أمنية ستتصاعد خلال السنة القادمة، وبالتالي هناك حاجة من وجهة نظرها إلى العمل على تجنب تأثير ذلك على أصوات الناخبين.

في المقابل تنطق المعارضة بازدواجية في الخطاب، فهي من جهة تدين الحكومة والترويكا للتباطؤ في الدعوة إلى الانتخابات ومن جهة أخرى تعطل السير إلى المحطة الانتخابية بما تثيره من قضايا مفتعلة بل وتخلص في حوارها إلى المناداة للانتخابات نهاية الخريف القادم.

وأما فيما يخص التزامن بين الانتخابات الرئاسية والتشريعية، فإن أحزاب المعارضة ترفضه وتطالب بتقديم الرئاسية على البرلمانية، بناء على تقدير مفاده أن المرشح الأوفر حظا للفوز بالرئاسة سيكون بين احتمالين: فهو إما أن يكون مرشحا عن توافق واسع قريب من الإجماع (غالبا سيكون المرشح غير إسلامي) بما لا يجعل نتيجة التصويت تبدو انتصارا للترويكا وخاصة لحركة النهضة، وإما أن يأتي في صورة ترشيح شخص من حركة النهضة تجتمع الأحزاب الرئيسية الأخرى على منافس له، فإذا ما فاز فإن ذلك سيكون تمهيدا لفوز آخر في الانتخابات التشريعية وإذا ما خسر فقدت حركة النهضة كل فرصها في بناء تحالفات جديدة وفرضت عليها عزلة سياسية واسعة أثناء الانتخابات وبعدها.

طبعا التركيز هنا على حركة النهضة باعتبارها المنافس الأكبر في الساحة السياسية التونسية. أما عن الترويكا فتفكر في الموضوع بشكل مختلف لأنها قد تقرر دخول الانتخابات في جبهة انتخابية واسعة وفي حزمة توافقية واحدة تمهيدا لحكومة ائتلافية تجدد تجربة التوافق بين هذه الأحزاب في المستقبل. تبقى كذلك المسائل الفنية محددة لهذا الخيار أو ذاك فهل ستستطيع هيئة الانتخابات دعوة الناخبين أربع مرات إلى التصويت في سنة واحدة؟ دورتان للرئاسية ودورة للتشريعية ودورة فيما بعد للبلدية.

تبقى ضمن مسألة الانتخابات قضية القانون الانتخابي الذي سيثير من الخلاف أكثر حتى مما يثيره الدستور حيث تكون التوافقات أصعب بالنظر إلى أن شكل هذا القانون يحدد بنسبة مئوية هامة من نتائج الاقتراع. وقد كانت الأحزاب السياسية بين خيارين في المصادقة على القانون الانتخابي الذي حكم انتخابات المجلس التأسيسي: قانون أكبر البواقي أو قانون أكبر المتوسطات. في النهاية اعتمد قانون أكبر البواقي وهو القانون الذي حكم منذ البداية على العملية الانتخابية باستحالة فوز أي حزب بالأغلبية المطلقة، وقد كان ذلك مقصودا في حد ذاته للحد من فرص فوز حركة النهضة وانفرادها بالأغلبية المطلقة بما يمكنها من تشكيل حكومتها دون الحاجة لتوافقات حزبية ويفتح أمامها الطريق لصياغة دستور بحسب وجهة نظرها الخاصة.

القانون الانتخابي ليس محايدا في العملية الانتخابية، ولأن كل الأحزاب تعرف ذلك فالمتوقع أن يحدث نقاشه تصدعا حادا في المشهد السياسي التونسي

السيد عياض بن عاشور صرح بذلك صراحة واعترف بأنه هو من كان وراء تبني هذا القانون مراعاة للاعتبارات السابقة. وبالفعل لو اعتمد أكبر المتوسطات لحصلت حركة النهضة على أكثر من 60% من مقاعد المجلس التأسيسي في حين أنها لم تحصل إلا على 41% وفقا لقانون أكبر البواقي.

لذلك فالقانون الانتخابي ليس محايدا في العملية الانتخابية، ولأن كل الأحزاب تعرف ذلك فالمتوقع أن يحدث نقاشه تصدعا حادا في المشهد السياسي التونسي. ربما كان بالإمكان إيجاد حلول وسط في القضايا الخلافية السابقة بل ربما كان يسع حركة النهضة التنازل في مسائل الدستور والهيئات لكن هل ستقبل التفريط في حظوظها الانتخابية؟ يبدو الأمر صعبا ومستشكلا وبمنطق الحسابات السياسية، لا يحتوي "حسبة كاملة" بالتعبير الشعبي التونسي.

– القضية الثانية التي تضمنها بيان الترويكا الحاكمة في تونس تتعلق بتشكيل الهيئات المستقلة: هيئة الإعلام وهيئة الاتصال السمعي البصري وهيئة القضاء. جاء في بيان الترويكا الدعوة إلى تفعيل المرسومين 115 و116 الخاصين بهيئتي الإعلام والاتصال اللذين ينصان في خصوص تشكيل الهيئتين على أن تمثلا مختلف المتدخلين في مجالي الإعلام والاتصال، وعلى أن لا تتدخل الحكومة في هذا الموضوع لا بالتعيين ولا حتى بالاقتراح.

احترازات الحكومة على تفعيل المرسوم 115 مبنية على شرط حصول تطهير للمجال الإعلامي بكشف القائمة السوداء للإعلاميين الفاسدين والمتعاونين مع النظام السابق، ثم بإيجاد طريقة أعدل لتمثيل مختلف الفئات المجتمعية في هذه اللجان خاصة أن هذا المجال تسيطر عليه المعارضة وقوى الثورة المضادة بل توظفه باستمرار لمعاركها السياسية.

كما أن الملفت أن الترويكا دعت إلى تفعيل المرسوم 116 الخاص بهيئة الاتصال وفق الفصل 47 الذي ينص على أنه "بصفة وقتية وفي انتظار إرساء المؤسسات التشريعية والتنفيذية على أساس الدستور الجديد، يقع تعيين رئيس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري وأعضائها من بين الشخصيات المستقلة المشهود لها بالخبرة والكفاءة في الميدان من قبل رئيس الجمهورية المؤقت بالتنسيق مع الهيئة الوطنية المستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال وفقا لنفس المعايير والمواصفات المنصوص عليها بالفصل 7 أعلاه". وقد طلبت منظمة "مراسلون بلا حدود" في بيان موجه للحكومة توضيحات تتعلق بهذه المسألة فيما يبدو أنه محاولة للقفز على فقرة الأحكام الانتقالية الواردة بنص المرسوم والاستعداد لدخول معركة جديدة حول تعيين هذه الهيئة.

بالنسبة للهيئة الوقتية للقضاء الأمر أيضا مستشكل بداية لأن مشروعا في هذا الخصوص عرض على المجلس التأسيسي ورفضه في يوليو/تموز الماضي مما اضطر وزير العدل مترئسا المجلس الأعلى للقضاء القديم أن يتخذ كل الإجراءات المتعلقة بحركة نقل القضاة وبعض التعيينات الوظيفية في غياب هيئة قضائية دستورية ولو مؤقتة، وقد صدرت هذه القرارات بالرائد الرسمي (الجريدة الرسمية) وأصبحت غير قابلة للرد. إعادة طرح موضوع الهيئة المؤقتة للقضاء الآن ليس له أي أثر، وليست هناك أي مهام يمكن أن تقوم بها الهيئة قبل الانتهاء من صياغة الدستور وتشكيل هيئة قضائية دستورية.
إذن قضية إطلاق هذه الهيئات لن يمثل حلا لقضايا خلافية بل إعلانا لبداية معارك جديدة تشق الأحزاب والنخب السياسية.

يبدو الجديد في هذا المشهد ليس في إطلاق هذه المبادرة أو تلك وإنما دخول لاعبين جدد /قدامى يحاولون التأثير وتوجيه الحياة السياسية في تونس. سبق أن تحدثت عن إعادة تنظم الثورة المضادة في حزب سياسي استفاد من عدم استيعاب الطبقة السياسية لمقتضيات الديمقراطية الثورية التي تتضمن تحصين الثورة والعدالة الانتقالية وسياسة التطهير، لكن منذ مدة ظهر أيضا لاعب جديد لكنه هذه المرة خارجي.

لا شك أن السياسات الخارجية لبعض الدول قد سقطت أمام انفجار الثورات العربية وخاصة الثورة التونسية لطابعها الفجائي والسريع. وقد بدت حينها رغبة جامحة من هذه الدول في الإسراع بإجراء مراجعات لسياساتها حتى تستطيع أن تتكيف مع تحولات المنطقة. ظهر ذلك من خلال الزيارات المكوكية لتونس العاصمة انطلاقا من عواصم أوروبا القديمة ومن الولايات المتحدة في محاولة للفهم والاستيعاب ثم لإعادة هيكلة سياساتها.

التوجه المحافظ انتصر في السياسة الخارجية الفرنسية وبتنا نرى القناة الفرنسية الناطقة بسياسات فرنسا الخارجية تنتصر لطرف على آخر وتشن الحملات المفضوحة على الحكومة وخاصة حركة النهضة

ورغم أن حكومة محمد الغنوشي التي أدارت المرحلة المؤقتة الأولى بعد سقوط بن علي، كانت مشحونة بوزراء قادمين من نوادي الإطارات التكنوقراط المقيمين بفرنسا الذين رفضهم الشارع التونسي في اعتصام القصبة واحد حيث طالب برفع الوصاية الأجنبية، فقد بدا أن هناك تحولا نسبيا في مواقف بعض الدول التي تربطها بتونس مصالح ضخمة. ظهر استعداد حقيقي لمساندة الثورة ومراجعة شبيهة بتأنيب الضمير بسبب دعم بن علي سابقا، بل ظهر تجاذب بين تيارين في السياسة الخارجية الفرنسية خاصة: تيار واقعي وتيار محافظ.

أما السياسات الخارجية الواقعية فتدعو إلى التعامل مع الثورة ونتائجها مهما كانت والابتعاد عن التدخل المباشر في الشأن التونسي الداخلي، وقد تفاءل الشعب التونسي بهذا التوجه خاصة أنه لا أحد من الأطراف السياسية ينكر وجود مصالح فرنسية في تونس أو يرفض التعاطي معها. لكن في النهاية يبدو أن التوجه المحافظ انتصر في السياسة الخارجية الفرنسية وبتنا نرى القناة الفرنسية الناطقة بسياسات فرنسا الخارجية تنتصر لطرف على آخر وتشن الحملات المفضوحة على الحكومة وخاصة حركة النهضة من خلال سياساتها التحريرية ومن خلال برامجها السياسية.

وتجاوز الأمر ذلك حتى أصبح جزءا هاما من الإعلام الفرنسي يتحرك ككتيبة محاربة في خطة سياسية واضحة تجاه الوضع التونسي الداخلي في تناغم كامل مع فريق سياسي وإعلامي وحقوقي كان دائما يمثل الامتداد الأيديولوجي والثقافي للاستعمار الفرنسي لتونس. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل واجهتنا بعض الصحف المحلية يوما بالتهليل لزيارة سفير فرنسا لجمعية الصحفيين في يوم إضرابهم ومن قبل ذلك كانت التصريحات تصدر من هنا وهناك مدافعة عن تضمين الدستور مبادئ حقوق الإنسان وضاغطة للمحافظة على نمط مجتمعي هو في الحقيقة غير مهدد، وإنما نهايات كل هذا التذكير بالمحافظة على التوازنات السياسية الداخلية كشرط للاستقرار في المستقبل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.