حول "أخونة" الإعلام المصري

حول أخونة الإعلام المصري - الكاتب: فراس أبو هلال
undefined

 
من بين القضايا الكثيرة الساخنة التي تعج بها الساحة السياسة المصرية، تأخذ قضية الحريات الإعلامية حيزا هاما من النقاش والأخذ والرد منذ استلام الرئيس مرسي لموقعه في قصر الرئاسة، وخصوصا بعد بعض الأحداث التي فسرت من المعارضة على أنها مؤشرات على خطة حثيثة لـ"أخونة" الإعلام وتقييد الحريات والعودة بالزمن إلى ما قبل ثورة يناير.
 

اتهامات الأخونة بات معروفا أنها استندت إلى تعيينات مجلس الشورى ذي الأغلبية الإخوانية والسلفية لرؤساء تحرير الصحف والمجلات القومية الجدد، إضافة إلى تكليف نقابي إخواني معروف هو صلاح عبد المقصود بوزارة الإعلام.

الواضح أن ظاهر القرارات التي تثير المخاوف حول حرية الإعلام يوحي برغبة لدى النظام الجديد الذي يقوده الرئيس مرسي في السيطرة على الإعلام، ولكن الأساس الذي بنيت عليه المخاوف هو أساس باطل

كما بنت المعارضة مخاوفها على الحريات على بعض الدعاوى القضائية التي قدمت ضد صحفيين بتهم تتعلق بإهانة الرئيس والتحريض على قلب النظام، ناهيك عن مصادرة صحيفة الدستور وإغلاق قناة الفراعين بقرارات إدارية دون العودة إلى القضاء.

والواضح أن ظاهر هذه القرارات التي تثير المخاوف يوحي برغبة لدى النظام الجديد الذي يقوده الرئيس مرسي في السيطرة على الإعلام وتدجينه وتكميم الأفواه المعارضة، ولكن الأساس الذي بنيت عليه المخاوف هو أساس باطل، لأنه انطلق في غالب الأحيان من مقارنة غير موضوعية بين نظام مبارك ونظام مرسي، على الرغم من أن المقارنة بين النظامين متهافتة تماما بالنظر إلى أن محمد مرسي جاء بانتخابات حرة نزيهة عبر الصناديق التي قد تذهب به في الانتخابات القادمة، بينما قام نظام مبارك على دولة أمنية اعتمدت تزوير الانتخابات الرئاسية والبرلمانية طريقا للاحتفاظ بالسلطة واغتصابها.

ومن الضروري التأكيد ابتداءً على أن أي محاولة لتكميم الأفواه وتجيير الإعلام القومي في مصر لصالح حزب الرئيس أو أيديولوجيته -أيا كان هذا الرئيس- لا يمكن أن يكتب لها النجاح بعد ثورة يناير، لأن الشعب الذي أسقط نظام مبارك وأنهى حكم العسكر بعد أكثر من ستة عقود من سيطرته المطلقة على البلاد لا يمكن أن يسمح بظهور سلطة مستبدة جديدة، وسيقطع الطريق على أية محاولة لاستنساخ تجربة الفرعون من جديد، ومن هنا تأتي أهمية اليقظة لدى الحركات الشبابية والثورية التي تمثل حارسا للثورة من أي انحراف، شريطة الحرص على عدم التورط في اتباع منهج المناكفة السياسية كما هو الحال لدى معظم قوى المعارضة المصرية.

ولكن اليقظة الثورية وحدها لا تكفي، إذ لا بد من البدء في سن القوانين المنظمة للإعلام بشكل يضمن التزام هذا الإعلام بأخلاقيات المهنة، وانحيازه لمصالح الشعب لا مصالح الحاكم، دون أن يترك الأمر لرغبات الرئيس أو مبادراته، بحيث يصبح أي رئيس للبلاد مضطرا للعمل وفق قوانين عصرية تنظم الإعلام وتضمن حريته واستقلاله.

وهنا يأتي عامل الوقت الذي يغفله البعض -ربما من باب المناكفة والمعارضة العبثية- إذ لا يمكن أن يتم إصدار رزمة كاملة من القوانين المتعلقة بتنظيم العمل الإعلامي خلال أيام، خصوصا في ظل احتفاظ الرئيس بسلطات التشريع بسبب حل مجلس الشعب المنتخب. ولعل الطريقة التي اتخذ بها الرئيس مرسي قراره بتغيير قانون العقوبات الذي يسمح بحبس الصحفيين المتهمين بإهانة الرئيس على ذمة التحقيق تحمل دلالة واضحة على رغبة مرسي في الحفاظ على حرية الإعلام من جهة، وتدل من جهة أخرى على أهمية عامل الوقت في إنجاز القوانين التي تحفظ هذه الحريات.

صحيح أن تعطش المصريين لتحقيق مطالب الثورة ومن بينها حرية الإعلام مفهوم ومشروع وضروري في كثير من الأحيان، لكن من الصحيح أيضا أن محمد مرسي قد ورث تركة هائلة من القوانين المتخلفة التي تحتاج إلى تغيير كامل لتحقيق هذه الأهداف، ولا يمكن أن نتوقع أن الرئيس الذي استلم مهامه بشكل حقيقي فقط في 12 أغسطس/آب بعد إقالة المشير طنطاوي والفريق عنان سيستطيع أن يلغي القوانين المقيدة للحريات ويستبدل بها قوانين عصرية بجرة قلم.

ولا يعني احترام عامل الوقت إعطاء فرصة مفتوحة للرئيس لتغيير القوانين، بل لابد من ملاحقته والضغط عليه لإعطاء مؤشرات حقيقة، وتنفيذ خطوات فعلية تدل على أن طريق التغيير قد بدأ، وهنا تأتي أهمية الشفافية في عمل مؤسسة الرئاسة والحكومة، من خلال إطلاع الشعب على الخطوات والمشاريع في هذا المجال.

لابد من تشكيل هيئات مستقلة تنظم عمل الإعلام القومي المطبوع، وهيئات أخرى للإشراف على الإعلام القومي المرئي والمسموع، إضافة إلى هيئة تشرف على الإعلام الخاص

وحسب الأخبار الواردة من القاهرة فإن هناك توجها لدى الرئيس والحكومة بتعديل قوانين جرائم النشر، وإلغاء عقوبة الحبس فيها، واقتصارها على الغرامات المالية التراكمية، باستثناء الجرائم المتعلقة بانتهاك الأعراض والتحريض على الكراهية. كما أن مداولات الجمعية التأسيسية تسير بنفس الاتجاه تقريبا على الرغم من وجود بعض الخلافات بين أعضاء الجمعية كما تسرب من اجتماعاتها. وهذه التوجهات إن كتب لها النجاح تعني أن مشروع الانتقال الديمقراطي في مجال الإعلام يسير على الطريق الصحيح.

ولكن القوانين وحدها لا تكفي، إذ لا بد من حزمة من الإجراءات التي تحصن الإعلام وتضمن استقلاليته، وأهمها تشكيل هيئات مستقلة تنظم عمل الإعلام القومي المطبوع، وهيئات أخرى للإشراف على عمل الإعلام القومي المرئي والمسموع، إضافة إلى هيئة تشرف على الإعلام الخاص بكافة مجالاته.

وهذه الهيئات بحاجة إلى مزيد من الوقت والتشاور أيضا لتحديد طريقة تشكيلها ودورها والقوانين الناظمة لعملها، وهو ما يعني أن على المعارضة المصرية -إن كانت راغبة في لعب دور وطني- أن تتقدم بمقترحاتها بهذا الخصوص وأن تكف عن لعب دور المتفرج المتصيد لأخطاء الرئيس والحكومة، وفي نفس الوقت فإن على الرئيس ومساعديه أن يفتحوا نقاشا وطنيا حول هذه المسألة يتم من خلاله الاستماع إلى القوى السياسية سواء كانت مشاركة في الحكم أو في مقاعد المعارضة، إضافة إلى أصحاب الخبرات الفنية المتخصصة بهدف الوصول إلى آلية تشكيل هذه الهيئات في أسرع وقت ممكن.

ولئن كان الرئيس مرسي يتحمل المسؤولية الأساسية في ضمان حرية الإعلام وحماية الإعلاميين وتهدئة مخاوفهم المشروعة وغير المشروعة تجاه "أخونة الإعلام"، فإن الإعلاميين وأصحاب الأقلام ونقابة الصحفيين يتحملون جزءا كبيرا من المسؤولية، ليس فقط في الحفاظ على حرية الإعلام واستقلاليته بل وحماية المهنة وأخلاقياتها من السلبيات والمظاهر التي تسيء إليها.

فنقابة الصحفيين وإدارة الفضائيات والصحف مطالبة بمنع تحويل حرية الرأي والتعبير إلى حرية في السب والشتم والقذف والتحريض، وعليها أن تفرق بين النقد وبين نقل الأخبار الكاذبة والشائعات على أنها حقائق، وبهذا تعمل المؤسسات الصحفية كرقيب ذاتي على نفسها، دون أن يتحول هذا الرقيب إلى مكبل ومانع من الإبداع وحرية النقد والرأي والتعبير.

وحين نتحدث عن مسؤولية الوسائل الإعلامية والنقابات، فإننا نضع أمام أعيننا حالة الفوضى الإعلامية التي تعيشها مصر، وهي حالة ربما تكون مفهومة في فترة أعقبت ثورة شعبية رفعت شعار الحرية كثورة يناير، ولكن استمرارها بدون ضوابط سيحول الإعلام إلى سلطة تدمير للمجتمع بدلا من أن يكون سلطة للبناء والرقابة والنقد.

ولعل المراقب لما بثته بعض القنوات المصرية خلال الفترة التي أعقبت ثورة يناير يصاب بالذهول للمستوى الذي وصلت إليه هذه القنوات من التحريض وبث الإشاعات والأكاذيب، كما تكفي قراءة مانشيتات عدد واحد من الصحيفة التي حول رئيس تحريرها للمحاكمة لإصابتك بالغثيان من الكم الهائل الذي تحمله هذه المانشيتات من تحريض وكذب وترويع وإثارة للمخاوف. ويكفي الناظر من بعيد أن يقرأ عددين من هذه الصحيفة ليعتقد أن حربا أهلية ستقوم في مصر خلال الأيام القادمة! لا قدر الله.
تحمل السلطة الحاكمة لبعض المظاهر السلبية الناتجة عن الحريات الإعلامية يبقى أفضل بكثير من تكميم الأفواه والحد من الحريات

والمطالبة بمحاربة هذه المظاهر من قبل أصحاب المهنة لا تعني بحال السعي إلى التضييق على الحريات والإبداع، بل هي محاولة لقطع الطريق على تحويل الفوضى الإعلامية إلى ذريعة لتطبيق بعض القوانين السيئة الصيت من عصر مبارك، وهو ما يجعلنا ندعو في نفس الوقت الرئيس محمد مرسي وحزب الحرية والعدالة والإخوان إلى تدريب أنفسهم على قبول النقد -حتى لو كان حادا-، وعليهم وقد أصبحوا في موقع السلطة أن يتجاوزوا عن أخطاء -وفي بعض الأحيان خطايا- الإعلاميين المعارضين، لأن في ذلك حماية لشعار الحرية الذي رفعته ثورة يناير وقدمت دونه الدماء.

ويبقى القول إن الاتهامات بأخونة الدولة وإن كانت غير منطقية وغير حقيقية ولا تأخذ بعين الاعتبار عامل الوقت اللازم لتغيير القوانين وتشكيل الهيئات الناظمة للعمل الإعلامي، فهي بصورة ما ضرورية للإبقاء على يقظة الرئيس مرسي وحكومته والحفاظ على شعوره الدائم بالمراقبة.

كما أن تحمل السلطة الحاكمة لبعض المظاهر السلبية الناتجة عن الحريات الإعلامية يبقى أفضل بكثير من تكميم الأفواه ومحاولة الحد من الحريات، لأن الحرية ومشاكلها وأخطاءها تبقى أسلم ألف مرة من التقييد ومصائبه التي عانى منها الشعب المصري لعقود طويلة وثار عليها ولا يمكن أن يسمح بعودتها تحت أي سلطة وأي شعار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.