غياب العرب عن العراق


undefined
 
يعزى تصاعد التنافس الإقليمي لملء الفراغ في العراق بعد الانسحاب الأميركي، لا سيما الإيراني التركي، إلى استفادة هذه الدول طيلة السنين السابقة من حقبة الاحتلال لتطوير وتحسين أوراقها وشروطها في الملف العراقي، في وقت اكتفى فيه العرب بالتفرج واللامبالاة وعدم لعب أي دور فعال تجاه ما يجري في العراق، وتركه يواجه مصيره لوحده أعزل بعد أن دمّر الاحتلال مقومات دولته وحل قواته المسلحة.
 
لقد أدى العراق عبر تاريخه وبسبب حجم ثرواته المادية والبشرية وموقعه الإستراتيجي، وظيفتين: الأولى كان فيها حجر الزاوية في توازن واستقرار معادلة توازن القوة الإقليمية المعقدة، فكلما كان العراق قويا متماسكا توازنت المنطقة ما بين شرق جبال زاغروس وما بين العمق العربي غربها، وكلما كان ضعيفا واهنا أصبح منطقة تخلخل في الضغط ومسرحا لأطماع الشعوب المحيطة وممرا لاندفاعات إقليمية صوب العمق العربي. الوظيفة الثانية التي يؤديها العراق هي تأمين الأمن القومي العربي، حيث شكل على الدوام مصدا وجناحا شرقيا للوطن العربي، وعقد الثمانينيات ليس بعيدا عندما خاض العراق حربا طويلة وقاسية لمنع وإجهاض المشروع الإيراني لتصدير الثورة.
 

"
لم يعد الوضع في العراق -والمفتوح على كافة الاحتمالات- شأنا محليا خاصا بالعراق بقدر ما هو شأن عربي وإقليمي ودولي
"

استعدادات منضدة الرمل


تشهد منطقة الشرق الأوسط عموما والمنطقة العربية خصوصا سباقا محموما لرسم مسرح جديد للعمليات، حيث تجري الاستعدادات على قدم وساق لترتيب وتهيئة خارطة جديدة للمنطقة والتأسيس لسياق ونمط جديد من الصراعات تكون فيه خطوط التقسيم قائمة على أسس دينية وطائفية وعرقية بدلا من الصراعات الأيديولوجية التي سادت حقبة الحرب الباردة. ومنذ عام تقريبا تشهد المنطقة بصورة درامية لا يمكن أن نعزوها للصدفة انهيار أنظمة سياسية وقيام أخرى بديلة ذات صبغة إسلامية معينة تمتد من المغرب العربي إلى مشرقه، نموذجه تركيا التي تحث الخطى لاستعادة مجالها الحيوي القديم بعد أن أغلقت بوجهها أبواب الاتحاد الأوربي الذي أصبح أكثر مسيحية من أن يقبل في عضويته دولة إسلامية.
 
في المقابل تتحشد أطراف أخرى تتزعمها إيران التي تعمل على إقامة إمبراطورية، يكون الخليج العربي فيها بحيرة فارسية تحيط بها شعوب تؤمن بولاية الفقيه.
 
دفعت حمى هذه التطورات والاستعدادات ملف العراق مرة أخرى إلى السطح، فموقع العراق في خارطة الصراع الجديدة سيكون هو خط الجبهة الأول والساتر الأمامي الذي يفصل بين محاور الصراع، لعدة اعتبارات لعل في مقدمتها موقعه الجغرافي الذي يمتد مع إيران بطول 1350 كم، وكذلك خاصيته الديمغرافية المركبة والتي تم إنضاجها تحت الاحتلال، حيث تم تقسيم البلاد على أسس طائفية وعنصرية لكي تنسجم في المحصلة النهائية مع ما يجري إعداده على مستوى المنطقة برمتها.
 
وستكون مخرجات ونتائج الصراع الحالي في العراق بمثابة مدخلات وبيضة القبان لترجيح كفة ميزان هذا الطرف أو ذاك، فلم يعد الوضع في العراق -والمفتوح على كافة الاحتمالات- شأنا محليا خاصا بالعراق بقدر ما هو شأن عربي وإقليمي ودولي. وتعد تصريحات قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، التي اعتبر فيها العراق واقعا تحت الهيمنة الإيرانية والرد التركي المباشر على لسان رئيس الوزراء أردوغان في أن تركيا لن تقف مكتوفة اليدين تجاه ما يجري في العراق، بمثابة إيذان وتدشين لولوج العراق حقبة النفوذ الإيراني والتنافس التركي لا سيما بعد رحيل القوات الأميركية، حيث ستقاتل إيران الغرب وأميركا بآخر جندي عراقي. من جهتها ستحاول تركيا وأميركا قص المحور الإيراني الممتد إلى خاصرة إسرائيل من خلال استعادة العراق، فأين يقف العرب اليوم من كل ذلك.
 

"
الساسة العراقيون عبارة عن لاعبين ثانويين ومجرد "كومبارس" على المسرح السياسي العراقي، وممثلين للدول التي تمتد جذورهم السياسية والدينية والقومية معها
"

خارطة الاصطفافات العراقية

منذ البداية غابت هوية العراق العربية عن مشهد عراق ما بعد الاحتلال، حيث لم تتضمن ديباجة الدستور العراقي النافذ بعد الاحتلال أية إشارة إلى هوية العراق وإنما ورد تعريفه بالباب الأول (على أنه بلد القوميات والطوائف والمذاهب)، وهكذا يكون الاحتلال قد أسس وفي أخطر وثيقة سياسية مبدأ المحاصصة الطائفية والعنصرية التي تحكم الطبقة السياسية -ومنذ تسع سنوات- العراق بموجبها، حيث يتم النظر إلى العراق وفق هذا المبدأ على أنه مجموعة غنائم يتم توزيعها على شكل حصص لهذه القومية أو تلك الطائفة كل حسب نسبته.
 
ولعل أخطر ما في خارطة العراق السياسية هو تفشي أحزاب الإسلام السياسي على المشهد، حيث تحالفت معظم هذه الأحزاب والشخصيات والمرجعيات مع إدارة الاحتلال في محطات مبكرة سبقت تاريخ الغزو 2003. وبسبب من خلفيتها العقائدية والحزبية فإنه يمكن تصنيف ولاءاتها إلى ثلاثة أقسام: أولا الولاء التام لإيران، الولاء التام لأميركا، وثالثا ذوي الولاء المزدوج، إضافة لكثير من الأحزاب المرتبطة بهذه الدولة أو تلك، والصفة المشتركة لجميع هذه الأحزاب أن ولاءها لطائفتها ومرجعيتها يسبق ولاءها للعراق.
 
وهذا يفسر استمرار العنف المزمن في العراق وتكرار حالة الفشل والعجز عن تحقيق أي تقدم على مسار الخدمات والأمن والاستقرار رغم تعاقب خمسة حكومات احتلالية، كما أن هذه الأحزاب تعتاش وتستمد شعبيتها من خلال التعبئة والشحن الطائفي والعنصري، والاستقواء بهذه الدولة أو تلك على شركائها في العملية السياسية، الأمر الذي أسس حقيقة مفادها أن هؤلاء الساسة العراقيين عبارة عن لاعبين ثانويين ومجرد "كومبارس" على المسرح السياسي العراقي وممثلين للدول التي تمتد جذورهم السياسية والدينية والقومية معها، لذلك تراهم كثيرا ما يلجؤون لهذه الدول لحل مشاكلهم.
 
من هنا يمكن تفسير تزايد حدة الخلافات في الآونة الأخيرة إلى حد التصفيات والاعتقالات ما بين شركاء الأمس، إلى حد إعلان بعضهم أقاليم ذات صبغة مذهبية معينة في بعض المحافظات لقطع الطريق على استمرارية المحور الإيراني وتواصله الجغرافي، غير عابئين بخطورة مثل هذه الدعوات على وحدة العراق، فللأمر علاقة طردية ما بين طبيعة الاصطفافات العراقية المحلية وما بين تزايد وتيرة الاصطفافات وحدّة التصعيدات وحرب التصريحات والمناورات على المستوى الإقليمي، للانسجام مع خارطة الصراع الكبرى التي يجري الإعداد لها واستكمال ملامحها النهائية وتحديد هوية أطرافها من لاعبين رئيسيين وثانويين، حيث لا مكان للمحايدين فيها.
 

"
إذا كانت هناك مشاريع توسعية لإيران وتركيا، وهناك مشروع لإسرائيل، وثوابت لسياسة أميركا، فما ثوابت العرب ومشروعهم في العراق؟
"

هل ثمة فرصة للعرب؟

من الواضح أن خيارات العرب في العراق أصبحت محدودة مقارنة بالنفوذ الإيراني الواسع والدور التركي المتنامي، وعلى الرغم من ظهور بعض الإشارات الواضحة على ندم العرب المتأخر (كلمة الفريق ضاحي خلفان رئيس شرطة دبي، وكلمة الأمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات، في مؤتمر الأمن الوطني والإقليمي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي عقد في البحرين بتاريخ 22 يناير/كانون الثاني 2012)، إلا أنها تبقى إشارات محدودة وغير رسمية ودون مستوى الطموح والتحديات.
 
وفي ظل صخب قرع طبول الحرب، على صناع القرار العرب أن لا يتوهموا أن هذه الطبول قد تسفر عن ضرب إيران عسكريا، لأنه بهذا الصدد تجدر الإشارة إلى حقيقتين: الأولى أن بقاء إيران قوية بالحدود المطلوبة يعتبر حاجة إستراتيجية للسياسة الخارجية الأميركية التي تحتاج دائما إلى (صناعة عدو) كي يكون فزاعة لحلب أموال الخليج وتخويف أوروبا والسيطرة على الرأي العام الأميركي وتوجيهه، وبالتالي فإن ضرب إيران يعني غياب "التهديد".
 
الأمر الثاني هو عدم الاستدراج والوقوع بالفخ الإسرائيلي من جديد، تماما كما حصل في ثمانينيات القرن الماضي، حيث تم ضرب العراق بإيران في حرب طاحنة وقاسية، استمرت ثماني سنين استنزفت قوة الطرفين وصبت نتيجتها النهائية في صالح أمن إسرائيل، ومن الواضح اليوم ومن خلال فرز الخنادق، أنه مطلوب أميركيا وإسرائيليا رأس الإسلام والعروبة بضربة واحدة من خلال زج العرب -مرة أخرى وعلى أسس طائفية هذه المرة- ضد المعسكر الإيراني.
 
إذا فرضت المواجهة على العرب فعليهم أن لا يكونوا وقود الحرب القادمة وعليهم تطوير خياراتهم الذاتية، وخيارهم الوحيد المتاح في هذه المواجهة لتأمين أجنحتهم وأمنهم القومي هو استعادة العراق العربي لدوره ووظيفته التاريخية، وعدم تركه لقمة سائغة ومجالا حيويا لكل من تركيا وإيران.

 
وإذا كانت هناك مشاريع توسعية لإيران وتركيا، وهناك مشروع لإسرائيل وثوابت لسياسة أميركا، فما هي ثوابت العرب ومشروعهم في العراق؟ إن الثوابت والخطوط الحمر العربية في العراق يجب أن تبدأ أولا بعدم المساومة على عروبة العراق أو المساس بوحدته تحت أي مسمى، ومغادرة حالة العزف المنفرد في التعامل مع الشأن العراقي، ووقف حالة السمسرة التي تمارسها الجامعة العربية في التعامل والتطبيع مع حكومة الاحتلال على حساب مشاعر وحقوق الشعب العراقي وقواه الوطنية. وهناك بعض الخطوات الممكنة والمقترحات لتحسين شروط استعادة العرب للمبادأة في العراق، يمكن إجمال بعضها باختصار:
 
أولا- صياغة وتوحيد مشروع عربي موحد تجاه قضية العراق، واعتبار حل مشاكله وقضاياه داخل المنظومة العربية حصريا باعتبارها مرجعيته الإقليمية الرسمية، وعدم فسح المجال لدول الإقليم للتدخل في شؤونه الداخلية.
 
ثانيا- بالنظر لانتهاك سيادة العراق مرارا وتكرارا من قبل تركيا وإيران، سواء بالقصف الجوي لمدنه وقراه أو من خلال زج المليشيات الإيرانية المسلحة داخل العراق، ولصيانة حدوده، بالإمكان تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك التي قد تتيح إرسال قوات عربية لحماية الحدود العراقية من العدوان والتدخل في شؤونه.
 

"
بالنظر لانهيار عملية الاحتلال السياسية وتسارع تصدعها بعد الانسحاب الأميركي، فعلى العرب تسهيل ولادة البديل الوطني السياسي من خلال تحفيز ركائز الحركة الوطنية العراقية
"

ثالثا- بالنظر لانهيار عملية الاحتلال السياسية وتسارع تصدعها بعد الانسحاب الأميركي، فعلى العرب تسهيل ولادة البديل الوطني السياسي من خلال تحفيز ركائز الحركة الوطنية العراقية السياسية والعسكرية والاجتماعية للتبلور وتوفير الظروف المناسبة لها كي تتشكل كمكافئ سياسي وبديل لنظام المحاصصة الطائفية والعنصرية الذي يخدم في المحصلة الأطماع الإقليمية، والسماح لركائز هذه الحركة بالتعبير عن مشروعها وتشجيعها ورعايتها لتوحيد صفوفها في ظل رعاية عربية بدلا من الاستقطابات الإقليمية والدولية.

 
رابعا- استثمار بقاء العراق تحت بنود الفصل السابع لطلب الحماية الدولية للعراق، واستصدار قرارات تردع التدخلات الإقليمية بالشأن العراقي. ونشير بهذا الصدد إلى تصريحات المسؤولين الإيرانيين العلنية على أن العراق تحت السيطرة الإيرانية، والتصريحات التركية للتدخل في الشأن العراقي.
 
لا شك أن العرب قد أيقنوا ولو متأخرين أن استمرار تغييب العراق عن معادلة توازن القوة في المنطقة يعني مزيدا من ضعفهم وكشف جناح أمنهم الشرقي، وأنهم سيكونون فريسة سهلة الابتلاع للأطماع الإقليمية المتنافسة والطامحة في مد نفوذها أبعد من حدود العراق، مما يجعل من استمرار حالة التغافل ودفن الرؤوس في الرمال أشبه بالانتحار البطيء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.