بين إبل نجاد وخنازير أوباما

العنوان: الرعاة العرب.. بين إبل نجاد وخنازير أوباما


 
• رغم أن الخلاف بين السنة وبين الشيعة عمرُه أكثر من ألف عام، ورغم أن أتباع المذهبين طوال التاريخ، وعلى ما بينهما من خلاف يتعاورُه مدٌّ وجزر تسهمُ مجريات السياسة فيه بقسط لا تخطئه العين، لم يصل الأمر بينهما قط إلى حدِّ القطيعة الكاملة، وظلاَّ على ما بينهما من خلاف يداً واحدة على العدو المشترك الذي يهدد أمن دولتهم التي ظلت واحدة في معظم فترات التاريخ، سواءً أكان هذا العدو من اليهود أو من النصارى أو من غيرهم.
 
لكن الأمر بدأ ينحو نحواً جديداً منذ الغزو الأميركي للعراق، وبعد أن ألجأت الخسائر المادية والبشرية للأميركان وحلفائهم، في أفغانستان وفي العراق، إلى اتخاذ تدابير جديدة يتعاظم فيها دور أجهزة المخابرات التي تعمل غالبا تحت رايات مدنية، علمية أو بحثية أو فكرية، عُرفت تلك التدابير لاحقاً باسم سياسة الفوضى البناءة، فكان واحدا من أخطر أدوار تلك السياسة العملُ الدؤوب على تسعير الخلاف بين السنة والشيعة، وهو أمر لا تخفى ثمراتُه الكبيرة والرخيصة، حيث لا يُضطرُّ الأميركان إلى المغامرة بجيوشهم ولا بأسلحتهم، بل يُحوِّلُون عدوَّهم المشترك إلى "ديكين" يتصارعان، ثم يتخذون مقاعد "المشجعين" وهم على يقينٍ أن أحد الديكين سوف يُجهِزُ على الآخر، وأن الفائز منهما سوف يكون منهكا بحيث لا يحتاجُ الإجهازُ عليه إلى كبير عناء.

"
غالباً ما تخرج نتائج الأنشطة العلمية، إن كان تنظيمها في منطقة سنية، نذيراً بخطر التمدد الشيعي وإيصاءً بالتدابير الملائمة للحد من ذلك الخطر، وإن تم تنظيمها في مناطق شيعية، تُثمر بدورها عن نذير بخطر التآمر السني
"

• فبالإضافة إلى جهود الدبلوماسية الأميركية المكشوفة في تخويف العرب من المشروع النووي الإيراني، وهي جهودٌ –مع أهميتها– لا تستطيع ضمان ألاَّ تُفلح إيران في طمأنة جيرانها العرب إلى حسن نواياها تجاههم، خصوصاً وأن الدبلوماسية الإيرانية أفلحت في تحقيق الكثير من النجاحات في بعض الدول العربية والأفريقية، فإن الأميركان وحلفاءهم عمدُوا إلى استثمار الحماس الديني لدى العناصر المتطرفة من الجانبين –السنة والشيعة– من خلال أنشطة تبدو بريئةً في ظاهرها، مثل "حلقات علمية، سمنارات، أوراق عمل، محاضرات" تبحثُ جذور الخلاف بين السنة والشيعة، أو تبحث بعض تجليات ذلك الخلاف، تُنظمُ كلها بتشجيع مباشر ، وتمويل أحيانا من مؤسسات "علمية" أميركية أو غربية، يُدعى إلى المشاركة والإسهام فيها دائما بعض قصار النظر ممن يتم وصفهم بأنهم علماء أو فقهاء أو باحثون، من السنة أو من الشيعة، وغالباً ما تخرج نتائج تلك الأنشطة "العلمية"، إن كان تنظيمها في منطقة سنية، نذيراً بخطر التمدد الشيعي وإيصاءً بالتدابير الملائمة للحد من ذلك الخطر، وإن تم تنظيم تلك الفاعليات في مناطق شيعية، تُثمرُ بدورها عن  نذير بخطر التآمر السنِّي.

 
• اهتداء الأميركان إلى نجاعة العزف على أوتار الفتنة الدينية عوضاً عن "الفتنة السياسية"، شكَّل بالنسبة إليهم فتحا عبقريا، حيث السياسة في تحوُّلٍ دائم، ولا ضمان لاستقرار أيّ موقف سياسي ، تحالفا كان أو تدابرا، ما دامت المصالح هي الحكم الأعلى صوتا، والمصالح لا تستقرّ على حال، بينما الدِّين –في الشرق خصوصا– ثابتٌ لا يتحوَّل، وميزان لا يُوزن، فالعداءُ المبنيّ على موقفٍ ديني إذاً هو عداء يزيد ولا ينقص، وهو –فوق ذلك– عداء يمكِن إلباسُه رداء القداسة، فيتحول إلى "جهادٍ" وحرب مقدسة، ولكن.. ماذا عن الموقف الديني للمسلمين تجاه اليهود؟ وماذا عن موقفهم تجاه النصارى؟

• ها هنا مشكلٌ لا بد من القفز فوقَه بذكاءٍ توصل إليه مفكرو "الفوضى البناءة": فالمسلمون جميعاً، سنة وشيعة، ينظرون إلى اليهود –إسرائيل– باعتبارهم العدو الأعظم والأول لهم، وهؤلاءِ المسلمون أنفسهم ينظرون إلى الغرب النصراني باعتباره حامي إسرائيل الأول، أي شريكها في العداوة والكيد، فكيف يمكن، إذا، تحويلُ كل هذا العداء المبدئي إلى عداءٍ بين السنة والشيعة؟ ومن ثم "تحييد" الطائفتين، ولو تكتيكيا، تجاه اليهود والنصارى باعتبارهما المغتصب الحقيقي لأرض المسلمين والمغاير الديني الحقيقي لهم.
 
• ليس من السهل حشدُ المسلمين عبر قادتهم الدينيين التقليديين في هذا الاتجاه المزدوج: اتجاه تحويل العداء الديني لدى كل من الطائفتين تجاه الأخرى، وفي الوقت ذاته تحييد الطائفتين أو إحداهما تجاه اليهود والنصارى واعتبار معاداتهما أمرا يمكنُه الانتظار.. ليس من السهل إقناع علماء المسلمين المعتدلين في الطائفتين، والذين يشكلون أغلبية، بشحن الطائفتين إلى حد الحرب بينما العدو الحقيقي لهما آمنٌ وربما حليف لإحدى الطائفتين أو كليهما!!
 
• الحلُّ لمثل هذا الإشكال جاء توليفةً من عدة عناصر:
أولا: لا بد من "إسالة دماء" بين الطائفتين، يبتدر سلسلة من الثأرات، التي يشحنها ويذكيها الازدراء الديني والتكفير، وهذا تمثل بوضوحٍ في سلسلة عمليات "انتحارية" مجهولة المنشأ، في العراق خصوصاً، ظل الإعلام الغربي يرجِّح –بحيادٍ مصطنع– أنها من تدبير القاعدة "في حال كون الضحايا أو معظمهم من الشيعة أو إذا استهدفت العملية دار عبادةٍ شيعي"، كما ظل ذات الإعلام الغربي يرجح نسبة العمليات المشابهة التي تستهدف دور عبادة أو تجمعات سنية إلى "انتحاري شيعي".
 

"
ظلت المخابرات الأميركية والموساد تُذكي فتيل العداوة بين الشيعة والسنة في العراق، فتوغِر صدور الطائفتين إحداهما تجاه الأُخرى، فيجتهد قصار النظر من القادة الدينيين في الطائفتين في استدعاء الخلاف الديني وتكفير "العدو" أولاً، حتى يمكن إباحة دمه
"

وجود عناصر المخابرات الأميركية والموساد بالعراق في أعقاب احتلال العراق أطلق أيديهم في تدابير متنوعة تُنتج ما يبدو "عمليات انتحارية"، يكفي، مثلاً، تفخيخ سيارة يقودها سني، ومتابعة مسارها، أو ربما حتى بتوجيه سائقها بالسير بطريقٍ بعينها لدواعٍ أمنية (حيث كان الجنود الأميركان ينصبون نقاط التفتيش في كل طرقات العراق)، ومن ثم متابعة مسارها ثم تفجيرها عن ُبعدٍ  حين تُحاذي موقعاً أو تجمعاً شيعيا، ثم.. ها هُو ذا انتحاري سني يقوم بتفجير حسينية شيعية، وقل مثل ذلك عن العمليات التي تستهدف السنة!!

 
هذا مثالٌ من آلاف الأمثلة التي ظلت المخابرات الأميركية والموساد تُذكي بها فتيل العداوة بين الشيعة والسنة، فتوغِرُ صدور الطائفتين إحداهما تجاه الأُخرى، فيجتهدُ قصار النظر من القادة الدينيين في الطائفتين في استدعاءِ الخلاف الديني وتكفير "العدو" أولاً، حتى يُمكن إباحة دمه، خصوصا والدماءُ لم تجف!!

 
ثانياً: التركيز على العناصر المتطرفة، المتواضعة الفقه، لدى الطائفتين، مع التركيز أكثر على أمثال هؤلاء لدى الطائفة السنية الأكبر حجماً والأقوى، والعمل على تقديم أفرادها إعلامياً "كعلماء" وفقهاء، والسماح لهم بالتمدد الإعلامي (وكمثال على ذلك، أعرف شخصاً مغموراً ممن يكتبون في بعض الصحف العربية، أفرد سلسلة مقالات هتافية في التحذير من تمدد الخطر الشيعي في الدولة التي ينتمي إليها، واجتهد اجتهاداً كبيرا في ما أسماه "فضح فساد عقائد الروافض" و الإزراء بهم، تلقى اتصالاً عقب سلسلة كتاباته تلك من فضائية أميركية شهيرة، تنطلق من دولة عربية محتلة، تطلب استضافته في برنامج يناقش محتوى مقالاته تلك، فشلتُ –حين استشارني في الأمر– في إقناعه بأن للفضائية تلك أجندة تختلف عن أجندته الشخصية).
 
فأمثال هؤلاء، رغم أنهم لا يمثلون التوجه الفقهي العام لدى الطائفة التي ينتمون إليها، وليسوا بذوي وزنٍ في مضمار العلم أو الفقه أو القيادة الدينية، فإن التكريس الإعلامي المتعمد لهم يمكن أن يسفر عن تسويقهم كعلماء حقيقيين، يفلحون على التأثير خصوصاً في أوساط الشباب الذين يسهل إبهارُهم إعلاميا.
 
وتفلحُ دائما حساسية قضية الخلاف السني الشيعي في إحراج الكثيرين من علماء المذهب السني الحقيقيين وذوي الفقه، حيث يكون أي حديثٍ لهم عن حقيقة المخطط اليهودي الأميركي في إثارة الفتنة بين المذهبين، حديثا قابلاً للتأويل بـ"تعاطف" صاحبه مع "الروافض"، وربما اتهامه بالتشيُّع، هذا من قبل المتنطعين في المؤسسة الدينية السنية، بينما يكون الرجل عُرضة من جانبٍ آخر إلى "ارتياب" المؤسسة السياسية في بلده، حيث تدخُّل علماء الدين في السياسة تجاوزٌ خطير!!.. وهكذا يلوذُ معظم العلماء الذين كان ينبغي عليهم مواجهة هذا المخطط الخبيث بالصمت إيثارا للسلامة، ويقيناً بأن لا تأثير لصوته بين آلاف الأصوات المهرجة المهتاجة.
 
ثالثاً: عبر تدابير دبلوماسية سياسية مباشرة، منها –كما ذكرنا– العمل المتواصل على تخويف جيران إيران من العرب من المشروع النووي الإيراني وتصويره كأداة مستقبلية لإيران على قهر جيرانها من العرب واحتلال أراضيهم، ومنها أيضاً التخويف مما يسمَّى بالمد الشيعي أو تصدير الثورة الإيرانية إلى الدول المجاورة، ورغم أن الكثير من القيادات العربية لا يشغلها كثيراً أمر "الدين"، ولكن تهديد "الكراسي" واردٌ بشدة حيثما دار حديث عن "تصدير الثورة".
 
• الخطابُ الأميركي الرسمي لا يكف لحظةً عن تخويف العرب من إيران، رغم أن إسرائيل هي الأجدر بأن يخافها العرب، لا إيران، كما أن إسرائيل –في ذات الوقت– هي الأجدر بالخوف من المشروع النووي الإيراني لا العرب، وهي خائفةٌ بالفعل، ولكنها –مباشرةً أو عبر الأميركان– تُريد أن تجعل العرب شركاء لها في هذا الخوف، وشركاء لها في عداوة إيران، بل أتباعاً لها في الحقيقة، والتبعية هي مقامٌ دون الشراكة بكثير، ورغم أننا لا نقلل من شأن الخلافات السياسية ما بين العرب وإيران، ولا من خطر الخلافات المذهبية بين السنة والشيعة الذين تنهضُ إيران ممثلاً لهم باعتبارها الدولة الشيعية الوحيدة على الأرض، رغم هذا، فإننا نرى أن من واجب القيادات الفكرية والفقهية والسياسية العربية أن تميز بدقةٍ بين العدو الإستراتيجي للعرب وللمسلمين، الذي هو بلا خلافٍ ولا شك إسرائيل ثم حلفاؤها، وبين العدو المرحلي "لبعض العرب وليس كلهم" والذي يُمكن في أية لحظة قادمة أن يصبح صديقا، الذي هو إيران.
 

"
الخطاب الأميركي الرسمي لا يكف لحظةً عن تخويف العرب من إيران، رغم أن إسرائيل هي الأجدر بأن يخافها العرب، لا إيران، كما أن إسرائيل –في ذات الوقت– هي الأجدر بالخوف من المشروع النووي الإيراني لا العرب
"

هذه الرؤية الإستراتيجية هي التي عبَّر عنها الملك الأندلسي البصير المعتمد بن عبَّاد، يوم أن خُيِّر بين أن يكون تابعا ذليلاً لملك قشتالة "الفونسو" يركعُ بين يديه لقاء أن يحتفظ بكرسيه، وبين أن يستنجد بملكٍ مسلمٍ هو يوسف بن تاشفين ملك المرابطين، الذي كان خصما يهابُه ويخشى أطماعهُ بممالكهم ملوك الطوائف الأندلسيون.. فاختار المعتمدُ ما أشار به عليه قاضي القضاة "ابن أدهم" معبِّراً عن حكمة اختياره ذاك بالكلمة التي ظلت، على مدى أكثر من نصف قرنٍ، شاهداً على "إستراتيجية" تفكير الرجل: (لأن أرعى إبل ابن تاشفين في مراكش، خيرٌ لي من أن أرعى خنازير الفونسو في قشتالة).
 
• إن أفضل ما يُمكن أن يظفرَ به العرب إن هُم نصروا الأميركان في حربهم ضد إيران، هو أن يرعوا خنازير أوباما في واشنطن "وربما خنازير نتنياهو في تل أبيب"، في حين أن أسوأ ما يمكن أن يتعرضوا له إن هم نصروا إيران في حربها ضد أميركا وإسرائيل هو أن يرعوا إبل نجاد في طهران، فأي الأمرين، يا تُرى، كان المعتمد بن عباد يختار، إن هم خيَّرُوه؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.