تركيا وإيران.. الخصوم الأصدقاء

تركيا وإيران.. الخصوم الأصدقاء


 

على مدى عقود عديدة، نجحت كل من تركيا وإيران في تأسيس شراكة إستراتيجية قوية استطاعا من خلالها رفع حجم التبادل التجاري بينهما إلى أكثر من 10 مليار دولار مع طموح بزيادتها إلى 30 مليارا بحلول عام 2015، فضلا عن تجاوز عدد من الأزمات والمنحنيات الخطيرة التي تمخضت عن التباين في التعاطي مع بعض التطورات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط.

وفي الواقع، فإن هذه الشراكة الإستراتيجية تكتسب أهمية خاصة لدى الطرفين، فإيران بالنسبة لتركيا قوة إقليمية مهمة لا يمكن تجاهلها، أو بالأحرى "خصم لا يمكن معاداته"، لأن ذلك فيه تهديدا لمصالح تركيا الساعية إلى لعب دور محوري في معظم الملفات الساخنة في منطقة الشرق الأوسط، من خلال انتهاج ما تسمى بسياسة "تصفير الأزمات"، و"التحالفات المفتوحة" القائمة على بناء قنوات تواصل مع كل القوى الموجودة في المنطقة بدءًا من إسرائيل مرورا بسوريا ومصر والسعودية وانتهاءً بإيران وكل من "حزب الله" اللبناني وحركة "حماس" الفلسطينية.
 
كذلك تبدو تركيا بالنسبة لإيران "خصما لا يمكن معاداته" لأنها أولا عضو في حلف الناتو وحليف مهم لإسرائيل والغرب، بما يعني أن "احتواءها" هو أفضل وسيلة للتفاعل معها، لأن غير ذلك يعني الدخول في صراعات غير متوازنة معها، ولأنها ثانيا تعتبر ظهيرا إقليميا مهما استطاعت إيران من خلاله، في بعض الفترات، تقليص حدة الضغوط الدولية والإقليمية المفروضة عليها بسبب طموحاتها النووية والإقليمية، وهو ما بدا جليا بشكل خاص في المساعي التي بذلتها أنقرة بهدف التوصل لتسوية سلمية لأزمة الملف النووي الإيراني، حيث وقعت يوم 17 مايو/أيار 2010 على "الاتفاق النووي الثلاثي" مع كل من إيران والبرازيل، وفي اعتراضها على فرض عقوبات جديدة على إيران من داخل مجلس الأمن.
 
ذلك لا يعني أن تركيا تؤيد السياسة التي تنتهجها إيران في أزمة ملفها النووي، وإنما يعني أنها ترغب في التوصل إلى تسوية سلمية لهذه الأزمة لأن غير ذلك ينتج تهديدات مباشرة على مصالحها وأمنها القومي، كما أنه لا ينفي أن تركيا ورغم اعتراضها على العقوبات التي فرضها مجلس الأمن بموجب القرار 1929 الصادر في يونيو/حزيران 2010، فإنها كانت إحدى أهم الدول التي نفذت بنوده، وهو ما انعكس في قيام السلطات التركية بتفتيش أكثر من طائرة إيرانية للاشتباه في احتوائها على شحنات أسلحة، ونجاحها فعلا في ضبط شحنات أسلحة كانت متجهة إلى سوريا، حسب ما أكد وزير الخارجية التركي أحمد داود أغلو في 5 أغسطس/آب الحالي.
 

"
تقاعس النظام السوري عن تنفيذ الوعود التي أعلن التزامه بها مع المبعوثين الأتراك، دفع أنقرة إلى تغيير لهجتها باتجاه توجيه رسائل تهديد متعددة
"

لكن جاءت الأزمة الداخلية التي تشهدها سوريا بعد أن امتدت إليها موجات "التسونامي الثوري" التي تجتاح الدول العربية في الوقت الحالي، لتحدث شرخا عميقا في العلاقات بين أنقرة وطهران. فرغم اتفاق الطرفين، مع بداية اندلاع الأزمة، على أن بقاء نظام الرئيس السوري بشار الأسد يعد مصلحة عليا بالنسبة لهما، وعلى أن وقوع سوريا في مستنقع حرب أهلية، في حالة سقوط النظام، يمثل "خيارا كارثيا"، فإنهما اختلفا حول أسلوب التعامل مع هذه الأزمة.

 
إذ رأت تركيا أن الأسلوب الأمثل هو انخراط النظام السوري في عملية إصلاح حقيقية يستطيع من خلالها استيعاب مطالب المحتجين ومن ثم تجنب خطر السقوط، وعلى ضوء ذلك، أرسلت أنقرة مبعوثيها إلى دمشق لحث الأخيرة على اتخاذ خطوات جدية في هذا السياق.
 
لكن تقاعس النظام السوري عن تنفيذ الوعود التي أعلن التزامه بها مع المبعوثين الأتراك، فضلا عن مواصلته انتهاج السياسة القمعية في مواجهة المحتجين، دفع أنقرة إلى تغيير لهجتها باتجاه توجيه رسائل تهديد متعددة إليه تفيد برفع الغطاء عنه في المحافل الدولية وعدم الوقوف حجر عثرة أمام أي توجه دولي لفرض عقوبات دولية أو ممارسة ضغوط أكثر شدة على دمشق.
 
هذا التغير الملحوظ في الموقف التركي يمكن تفسيره في ضوء المخاوف التي تنتاب أنقرة إزاء التداعيات المحتملة للأزمة السورية على الداخل التركي، وأهمها تصاعد حدة الاحتقان المذهبي بين السنة والشيعة، فضلا عن تدفق عدد كبير من اللاجئين السوريين الذين تجاوزوا 10 آلاف سوري عبر الحدود بين الدولتين التي تمتد إلى حوالي 800 كيلومتر مربع، وهو عدد مرشح للتزايد خصوصا في ظل عدم وجود تأشيرات دخول بين الطرفين وانخفاض عدد المراكز الحدودية الموجودة.
 
المشكلة هنا لا تكمن في تدفق اللاجئين فحسب، بل، وربما يكون ذلك هو الأهم، في تدعيم احتمالات نفاذ عدد من عناصر "حزب العمال الكردستاني" السوري إلى الأراضي التركية، بما يعنيه ذلك من إمكانية حدوث اضطرابات أمنية داخل تركيا لا سيما في ظل استمرار تمسك الفرع السوري من الحزب بالنهج المتشدد، وهو ما يمكن أن يلقى صدى داخل الحركة القومية التركية.
 
فضلا عن أن احتمال دعم مطالب الأكراد السوريين بالحصول على حكم ذاتي على غرار أكراد العراق يحظى باهتمام خاص من جانب أكراد تركيا، وهو "خط أحمر" بالنسبة لأنقرة.
 
اللافت أيضا أن طهران اعتبرت بدورها ما يحدث في سوريا "شأنا إيرانيا"، إذ أسقطت على الأزمة من البداية بعدا "تآمريا" واعتبرت أنها أول المستهدفين منها، من خلال تصويرها على أنها "مؤامرة افتعلتها بعض القوى الكبرى لتفكيك محور الممانعة" الذي تقوده من خلال ضرب الاستقرار في "قناة التواصل" بين طهران وحلفائها الإقليميين بهدف تقليم أظافرها الإقليمية واحتواء طموحاتها في لعب دور مهم في المنطقة.
 
وعلى ضوء ذلك وجهت إيران انتقادات حادة للمطالب التي طرحها المحتجون السوريون واعتبرتها "فتنة مدعومة من الخارج" وحثت النظام السوري على تشديد أداته القمعية في مواجهتهم.
 

"
بدأت إيران في انتهاج سياسة جديدة تقوم على فرض ضغوط على تركيا لإقناعها بضرورة تخفيف لهجتها المتشددة تجاه النظام السوري، واستخدمت في هذا السياق "الفزاعة الكردية"
"

هذا الموقف الإيراني يبدو منطقيا إلى حد كبير، ليس فقط لأن النظام السوري الحالي يوفر غطاءً عربيا لتحركات إيران في الإقليم، ويمثل "جسر التواصل" مع الحلفاء الإقليميين، بل لأن سقوطه كفيل بتوجيه ضربات مؤلمة لطموحات طهران، خصوصا أن الأخيرة تبدو غير مستعدة للتعامل مع البدائل المطروحة للحلول محله، لا سيما أن علاقاتها الوثيقة مع النظام السوري ودعمها القوي له في مواجهة قوى المعارضة، ساهم في زيادة مساحة الخلافات بين إيران وهذه القوى التي لا تبدي ارتياحا، من البداية، تجاه السقوف الإستراتيجية التي يفرضها التحالف بين إيران وسوريا.

 
هذا الأمر تحديدا يبدو مختلفا في حالة تركيا. فرغم أنها كانت من أشد المتحمسين لبقاء النظام الحالي، فإنها بدت أكثر استعدادا من إيران لمواجهة احتمالات سقوطه. فمع اندلاع موجة الاحتجاجات الأخيرة، احتضنت أنقرة قادة وكوادر العديد من القوى السياسية السورية، وسمحت لهم بتنظيم مؤتمرات وطنية في إسطنبول وأنطاليا للاتفاق على خريطة طريق للأزمة السورية، وهو ما أدى إلى حدوث فتور في علاقاتها مع كل من دمشق وطهران.
 
في هذه اللحظة تحديدا، بدأت إيران في انتهاج سياسة جديدة تقوم على فرض ضغوط على تركيا لإقناعها بضرورة تخفيف لهجتها المتشددة تجاه النظام السوري، واستخدمت في هذا السياق "الفزاعة الكردية" من خلال توجيه تحذيرات إلى أنقرة باحتمال أن تجد نفسها في مواجهة الأكراد السوريين والأتراك في آن واحد في حال سقوط النظام السوري.
 
وقد بدت الهجمات المتتالية التي شنتها قوات الحرس الثوري الإيراني على مواقع تابعة لحزب "بيجاك" الكردي داخل الأراضي العراقية، في أواخر يوليو/تموز الماضي، رسالة واضحة لأنقرة مفادها أن إيران تمارس دورا مهما في مواجهة المشكلة الكردية التي تؤرق أنقرة، وأنها يمكن أن تغير موقفها في حالة استمرار تشدد أنقرة مع دمشق.
 
مع ذلك، لم ترغب طهران في قطع خطوط التواصل مع أنقرة، لأن ذلك كفيل بخسارتها كظهير إقليمي مهم ومن ثم إرباك حساباتها الإقليمية، في الوقت الذي تتحسن فيه العلاقات بين تركيا وإسرائيل بعد التلميحات التي أطلقتها الأخيرة والتي تفيد باحتمال إقدامها على تقديم اعتذار لأنقرة عن مهاجمة قواتها "أسطول الحرية" في مايو/أيار 2010، والذي أسفر عن مصرع تسعة أتراك، وفي ظل التسريبات الإعلامية التي تتحدث عن وساطة أميركية يقودها الرئيس الأميركي باراك أوباما شخصيا لتحسين العلاقات بين الطرفين.
 
كما بدا أن ثمة حرصا من جانب طهران على انتظار ما ستؤول إليه نتائج الانتخابات التشريعية التركية التي أجريت يوم 12 يونيو/حزيران الماضي، اعتمادا على إمكانية أن تؤدي إلى إحداث تغيير في سياسة تركيا تجاه الأزمة السورية، في ضوء وجود اعتقاد مفاده أن جزءا من تشدد أنقرة حيال نظام الأسد مرتبط بحسابات داخلية تخص حزب العدالة والتنمية، وأن عملية مراجعة تبدو محتملة في تعامل أنقرة مع الوضع القائم على حدودها الجنوبية في المرحلة التالية، وهي قراءة اكتسبت وجاهة خاصة مع الوضع في الاعتبار التهدئة الملحوظة في الخطاب التركي من الأزمة خلال فترة الانتخابات.
 
لكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، إذ لم يخرج حزب العدالة والتنمية من الانتخابات فائزا للمرة الثالثة على التوالي وبنسبة تزيد عن تلك التي حققها في انتخابات عام 2007 فحسب، بل إن التطورات التي أعقبت ذلك، خصوصا الأزمة التي سببتها استقالة الجنرالات الأربعة الكبار في الجيش، أنتجت تداعيات هامة سوف تتجاوز بدرجة كبيرة حدود العلاقة بين السلطتين المدنية والعسكرية، وتمتد إلى سياسة تركيا الخارجية وطموحاتها في الإقليم.
 
إذ إن نجاح حكومة الحزب في حسم "المعركة الأشرس" مع الجيش لصالحها يطرح دلالتين مهمتين: الأولى أن ثمة دورا جديدا فرضته الأزمة الأخيرة على الجيش، إذ لم يعد في إمكانه القيام بانقلاب عسكري أو التدخل في السياسة بحجة حماية "العلمانية الأتاتوركية" كما كان يحدث في الماضي. والثانية أن السلطة المدنية أصبحت لها اليد العليا في تحديد وجهة الدولة وضبط تفاعلاتها مع تطورات محيطها الخارجي.
 

"
المجتمع الدولي يطمح في أن تمارس تركيا دورا أكثر قوة في تطورات الإقليم بهدف فرض حالة من الأهمية والزخم على "نموذجها السياسي" باعتباره الأنسب للدول العربية
"
من هنا يبدو المناخ العام داخليا وخارجيا أكثر ملاءمة أمام الحزب من أجل تنفيذ رؤاه وأطروحاته، وتعتبر الأزمة السورية المحك الرئيسي لاختبار قدرة الحزب على تحقيق ذلك، وهو ما يرجح استمرار سياسته المتشددة تجاهها، وقد عززت الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو إلى دمشق ولقاؤه مع الرئيس السوري بشار الأسد الذي دام حوالي 6 ساعات في 9 أغسطس/آب الحالي هذا الاحتمال، حيث حددت أنقرة مهلة جديدة لدمشق تتلخص في عدة أيام ستراقب خلالها السلوك السوري، ملوحة باتخاذ تدابير عديدة إذا لم يتم وقف العنف.
   
إيران قرأت هذه التطورات بدقة وحذر شديدين لاعتبارين: الأول، أنها تعني فرض مزيد من الضغوط على النظام السوري لإجراء إصلاحات حقيقية، لا سيما بعد أن دفعت العمليات القمعية التي ينتهجها إزاء المحتجين بعض القوى الدولية والإقليمية إلى تغيير موقفها باتجاه إبداء رد أكثر تشددا تجاه هذا النظام.
 

والثاني، أنها تؤشر إلى أن التحرك التركي الجديد سوف يحظى بدعم من جانب المجتمع الدولي في المرحلة القادمة، والذي يبدو أنه لا يسعى فقط إلى الحصول على تأييد تركيا لفرض مزيد من الضغوط على نظام الأسد، وإنما، وربما يكون ذلك هو الأهم، يطمح في أن تمارس تركيا دورا أكثر قوة في تطورات الإقليم بهدف فرض حالة من الأهمية والزخم على "نموذجها السياسي" باعتباره الأنسب للدول العربية التي تشهد موجات من التغيير والإصلاح الديمقراطي، لا سيما بعد "الانتصار التاريخي" الذي حققته الحكومة التركية على الجيش، وهي اعتبارات في مجملها يمكن أن تجعل من تركيا "خصم إيران القادم".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.