احتراب حول المحكمة الدولية في رقبة القضاء اللبناني

قاسم عز الدين



يحق لذوي الحق الخاص من أقرباء ضحايا الجرائم السياسية في لبنان أن يلجؤوا إلى المحاكم الدولية إذا فقدوا الثقة في القضاء اللبناني.

ويحق لذوي الحق الخاص من المتهمين اللبنانيين أن يرفضوا الخضوع للقضاء الدولي وألا يعترفوا بغير القضاء اللبناني، لكن لا يحق للقضاء اللبناني أن يتنازل عن صلاحيته للقضاء الدولي أو لأي سلطة أخرى في التحقيق وفي الادعاء وفي الدفاع عن المتهمين اللبنانيين وفي المحاكمة.

فالقضاء هو ثالث أركان مؤسسات الدولة يتحتم عليه أن يحتفظ بصلاحيته في كل الأحوال والظروف، ويتحتم عليه أيضاً الحرص على الاستقلال عن السلطة السياسية اللبنانية وعن باقي السلطات السياسية والقضائية الإقليمية والدولية.

فهو من حيث تكوين فلسفة القضاء ينبغي أن يكون سلطة مستقلة عن باقي السلطات المحلية والدولية تمثل الحق العام ولا يملك صلاحية التنازل عنها لأي جهة كانت هنا أو هناك.

فهذه السلطة مستمدة من قرار اللبنانيين في استقلال دولتهم عن سلطة الانتداب الدولي، وارتضائهم القضاء اللبناني بمقاضاتهم والحكم فيما بينهم. وهو قرار لا تستطيع السلطة السياسية أو المؤسسة القضائية في لبنان أو في أي مكان آخر أن تمسّه ما لم يقرر اللبنانيون إلغاء استقلال دولتهم.

"
يتحمل القضاء اللبناني مسؤولية شرخ اللبنانيين وانقسامهم إلى فريقين متضادين حول صدقية المحكمة الدولية بسبب تنازله عن واجبات لا يحق له أن يتنازل عنها
"

والقول بأن المحكمة الدولية بشكلها الراهن ضرورة بسبب عجز القضاء اللبناني عن النظر في قضية إجرام سياسي بحجم اغتيال الرئيس الحريري عذر أقبح من ذنب. فقضية إجرام سياسي بحجم اغتيال الرئيس الحريري زلزال يفرض على السلطة السياسية وعلى المؤسسة القضائية صحوة ضمير في أسباب عجز القضاء والعمل على تجاوزها لا حرق القضاء ورش الملح على أنقاضه.

والحقيقة أن عجز القضاء اللبناني أضخم وأعمق من العجز عن النظر في قضايا الجرائم السياسية الكبرى أو الأقل كبراً.

وأسباب هذا العجز الفاضح بديهية أهمها أن السلطة السياسية هي ولي النعَم في تعيين أتباعها في مؤسسة القضاء لخدمة مآربها ومصالحها الخاصة، وأن مؤسسة القضاء ارتضت لنفسها الاستتباع للسلطة السياسية والخضوع لاعتداءاتها بالتسلط على سلطة تمثّل الحق العام غير القابل لتفويض السلطة السياسية أو مؤسسة القضاء بحق التصرّف.

إنما بدل صحوة الضمير التي تفرض على السلطة السياسية وعلى أتباعها في المؤسسة القضائية الانتقال خطوة نحو استقلال السلطة القضائية، حرمتها السلطة السياسية بمساعدة أتباعها في المؤسسة القضائية، من أبسط واجباتها في المشاركة بالتحقيق الدولي وفي الادعاء.

وزيادة في الفجور وضعت السلطة السياسية مؤسسة القضاء اللبناني تحت سلطة الانتداب الدولي في التحقيق وفي الادعاء وفي المحاكمة.

الانتداب لم يُلغِ صلاحيات القضاء اللبناني فحسب، بل ألغى كذلك الحق العام الذي ينبغي أن يمثله القضاء اللبناني باسم اللبنانيين في المحافل الدولية.

وفي هذا السياق يتحمل القضاء اللبناني مسؤولية شرخ اللبنانيين وانقسامهم إلى فريقين متضادين حول صدقية المحكمة الدولية بسبب تنازله عن واجبات لا يحق له أن يتنازل عنها.

ويتحمل إلى جانب هذه المسؤولية كل ما يحصل من احتراب بارد أو ساخن بين الجماعات المؤيدة والمناهِضة لانتداب المحكمة الدولية.

فالجماعات في لبنان تحترب دوماً ما بقيت السلطة السياسية تتسلط على مؤسسات الدولة، لكن أمر التسلّط على مؤسسة القضاء تجاوز السلطة السياسية إلى الانتداب الدولي.

وفي هذا الأمر كشفت المؤسسة القضائية عن هول تبعيتها لا إلى السلطة السياسية فحسب، بل إلى سلطة الانتداب الدولي. وعلى هذا بات على كل لبناني أن يتعلم نظريات القوانين الدولية وأصول المحاكمات، والمحاكم الخاصة وما هب ودب في يوغسلافيا ورواندا، وأن يتفق مع جاره وأخيه أو يختلف.

وبما أن المصائب لا تأتي فرادى، فقد زاد الطين بلة الخبراء والمحللون والمعلقون والقانونيون في الشرح والتأويل والتفسير كأنهم في مهرجان زجلي لا ينتهي.

فقد أفاضوا في الشيء وعكسه، وفي المواد القانونية وضدها، وفي الحجج والحجج المقابلة، لكنهم تجنّبوا الأساس الأهم وهو أن القضاء اللبناني لا يملك صلاحية التنازل عن الحق العام في المحافل الدولية، ولا يملك صلاحية الخضوع لسلطة الانتداب الدولي ولا للسلطة السياسية في التنازل عن أبسط واجباته في التحقيق وفي الادعاء وفي الدفاع عن المتهمين من اللبنانيين وفي المحاكمة.

وتجنّبوا كذلك أهم الأهم وهو أن مسؤولية الجسم القضائي والحقوقي والجمعيات والخبراء والمحامين، تتعدى ردود الفعل البدائية في التفسير والشرح والتحليل والتعليق. فهي مسؤولية تفترض تشكيل قوة ضاغطة للدفاع عن استقلال السلطة القضائية في مواجهة تسلَط السلطة السياسية وسلطة الانتداب الدولي، وفي مواجهة مؤسسة القضاء التي ارتضت أن تتحوّل إلى علبة بريد وألعوبة من ورق.

وفي هذا الأمر لم يرتقِ الجسم القضائي والحقوقي والقانوني في لبنان، في وعيه المهني ومسؤوليته المعنوية، إلى رقي أمثاله في تونس وفي مصر وفي ليبيا وغيرها. فأولئك الغرّ الميامين تحملوا مسؤولية مقاومة تسلّط السلطات السياسية دفاعاً عن استقلال السلطة القضائية، وذاقوا مرارة القمع والتنكيل والسجن والنفي ولم يفرّطوا أو يتهاونوا على الرغم أن شراسة السلطات الاستبدادية لم تبلغ حد إعادة الانتداب الدولي إلى السلطة القضائية كما أعادته السلطة في لبنان.

"
المحكمة الدولية تؤدي وظيفة سياسية منوطة بها على أكمل وجه من الانحياز والعدائية في خدمة إستراتيجيات ومصالح دول "المجتمع الدولي"، شأنها في ذلك شأن باقي المؤسسات الدولية الأخرى
"

والقول بضرورة المحكمة الدولية بشكلها الراهن لأن العدالة تحقق الاستقرار، هو أيضاً عذر أقبح من ذنب، لأن العدالة بحد ذاتها لا تحقق الاستقرار، إنما يتحقق الاستقرار بأدوات وآليات العدالة الخاصة بها لا بأدوات وآليات غيرها.

فمن يأخذ حقه بيده على سبيل المثال يحقق العدالة لكنه لا يحقق الاستقرار بل يساهم في نشر الفوضى، ومن يستأجر عصابة أمنية محلية أو دولية لتحقيق العدالة لا يحقق الاستقرار بل يحقق شريعة الغاب. فأدوات تحقيق العدالة التي تحقق الاستقرار في لبنان هي سلطة القضاء اللبناني دون غيرها، وآلياتها هي في إثبات جدارة ونزاهة سلطة القضاء اللبناني في التحقيق وفي الادعاء وفي الدفاع والمحاكمة.

ولا تغيّر المعاهدات الدولية من جوهر هذا الأمر شيئاً في المحافل الدولية والإقليمية، بل على العكس من ذلك تفرض على السلطة القضائية اللبنانية المزيد من الحرص على استقلال القضاء عن السلطة السياسية وعن الانتداب الدولي والذهاب إلى أقصى حد من المشاركة في التحقيق وفي مراقبة هذا التحقيق وتصويب مساراته، وفي تقديم الأدلة والقرائن وفي الادعاء والقرار الظني، وأيضاً في الدفاع عن المتهمين من اللبنانيين وفي المحاكمة.

والقضاء الدولي مؤسسة دولية مثل باقي المؤسسات الدولية المالية والغذائية والصحية والإنسانية… إلخ. شرُ لا بدّ منه في أحيان كثيرة وليس من الحكمة تلافي شرورها بدفن الرؤوس في الرمال. لكن التسبيح بحمد "الشرعية الدولية" ذروة السذاجة. فالمؤسسات الدولية ومن ضمنها القضاء الدولي، تؤدي وظيفة سياسية في سياق إستراتيجيات وسياسات ومصالح دول "الشرعية الدولية".

وقد أنشأت هذه الدول محكمة خاصة بلبنان لكي تذهب أبعد من مؤسسات القضاء الدولية العادية في مرام دول "الشرعية الدولية" للقضاء على المقاومة.

وهذه المحكمة الخاصة تخضع لسلطة سياسية في مجلس الأمن تحت الفصل السابع، وهي تحقق في جرائم سياسية صنّفتها "بجرائم ضد الإنسانية" تهدد السلم العالمي. واستعانت بخبراء تحقيق ومستشارين في أجهزة مخابرات دول الحلف الأطلسي وإسرائيل دون بقية خبراء وأجهزة دول العالم. وبعد أن ملأت جرّة التحقيق والقرار الظني في وجهة إستراتيجية دول "الشرعية الدولية" لمكافحة الإرهاب، بات يسهل على فاخوري قضاة المحكمة أن يركّب أذن الجرة حيث يطيب له.

وعلى الرغم من كل ذلك لا غرابة من انحياز المحكمة الدولية في توظيف القضاء الدولي ضمن سياق إستراتيجيات دول "المجتمع الدولي" من أجل "قيَم نبيلة" هي "السلام" في الشرق الأوسط وتحقيق العدالة والاستقرار كما نذوق ونعلم.

إنما الغرابة في تنازل القضاء اللبناني عن مسؤوليته في التوازن السياسي الضروري لعدالة التحقيق والادعاء والمحاكمة، والضروري بالتالي للاستقرار في لبنان. والغرابة في تسبيحه بحمد مهنية وملائكية محققين وقضاة دول الحلف الأطلسي، دون توازنهم السياسي في إطار المحكمة مع شياطين دول أخرى من المحققين والمستشارين والقضاة.

المحكمة الدولية تؤدي وظيفة سياسية منوطة بها على أكمل وجه من الانحياز والعدائية في خدمة إستراتيجيات ومصالح دول "المجتمع الدولي"، شأنها في ذلك شأن باقي المؤسسات الدولية الأخرى.

والتنديد بانحيازها وعدم صدقيتها ليس بمستوى آليات المعركة السياسية القانونية التي تخوضها تمهيداً لحرب عسكرية في لبنان أو أوسع. ولا الشرح والتفسير والتحليل وسوق الحجج، بمستوى آليات المعركة.

ومن غير الحكمة الانسحاب من معركة المحكمة الدولية حتى إذا لم يسلَم المتهمون أنفسهم رهائن إلى مجلس الأمن سيّد المحكمة الدولية، بل تقتضي الحكمة تخفيف السجال الداخلي العقيم حول المحكمة الدولية وتحويله إلى حوار مجد حول استقلال السلطة القضائية في لبنان.

"
المحكمة الدولية اليوم هي حصان طراودة "الشرعية الدولية" للقضاء على المقاومة، فالاحتراب حول هذه المحكمة تمهيد لحرب على لبنان لنزع سلاح المقاومة وربما أبعد من لبنان
"

وفي مقابل آليات عمل المحكمة الدولية ينبغي إنشاء آليات عمل مواجهة:
أ- على الصعيد الرسمي لا بد من تحرير سلطة القضاء اللبناني من وصاية سلطة الانتداب الدولي ومن وصاية السلطة السياسية اللبنانية على السواء.

فإعادة تأهيل السلطة القضائية لا تتم بالشرح والتحليل والحجج القانونية، بل من خلال أداء دورها المستقل وتحملها مسؤولية الحرص على استقلالها في استكمال التحقيق الدولي، وفي التحقيق بالأدلة والقرائن، وفي محاكمة شهود الزور، وفي الاستعانة بخبرات ومستشارين من البلدان العربية والإسلامية والهند والسند وأميركا الجنوبية ومنشقين عن ملائكة دول الحلف الأطلسي.

وعلى الصعيد الرسمي ينبغي أيضا رهن مساهمة لبنان في تمويل المحكمة بحق التوازن السياسي وحفظ الحق العام، فلا واجبات دون حقوق. وينبغي كذلك حفظ حق السلطة القضائية اللبنانية في الادعاء والدفاع عن المتهمين اللبنانيين الرافضين لتسليم أنفسهم رهائن إلى أجهزة مخابرات دول مجلس الأمن.

ب- وعلى الصعيد المدني والشعبي يتحمل الجسم القضائي والقانوني والحقوقي مسؤولية الارتقاء من التحليل والمحاضرات إلى تشكيل قوة ضاغطة للدفاع عن تحرر السلطة القضائية من وصاية السلطة السياسية وسلطة الانتداب الدولي.

وإلى جانب ذلك ينبغي العمل على تنظيم هيئة دفاع من المحامين المرموقين دولياً الراغبين في التطوع للدفاع عن المتهمين المتغيبين. فهذا التقليد كان سارياً في محاكم الدول الاستعمارية التي تحوّل بعضها إلى محاكمة المحكمة نفسها ومَن وراءها، وشدّ من عزيمة كل من يكافح الظلم والاضطهاد.

وفي موازاة محكمة دول "المجتمع الدولي" في لاهاي ينبغي إنشاء محكمة موازية في لاهاي تمثّل المجتمع الدولي المدني من القضاة العالميين والقانونيين والحقوقيين لمحاكمة إسرائيل والقضاء الدولي المنحاز.

وينبغي أن تكون هذه المحكمة سياسية قانونية، مقابل محكمة لاهاي السياسية القانونية وبمستواها في تقديم الأدلة والبراهين واحترام أصول المحاكمات، على غرار محكمة برتراند راسيل ومحكمة بروكسيل التي حاكمت جرائم العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 لا على غرار خطابات بعض المحاكم الشعبية العربية.

فالطاقات وفيرة في كل بلدان العالم وهي معنية بمواجهة زيف "الشرعية الدولية"، ولكنها تحتاج إلى مبادرة لبنانية لإنشاء آليات عمل.

قبيل احتلال بيروت عام 82 وصل الاحتراب في داخل العاصمة إلى ذروة بات معها الغزو الإسرائيلي المخلّص الوحيد من سلاح المقاومة الفلسطينية.

والمحكمة الدولية اليوم هي حصان طراودة "الشرعية الدولية" للقضاء على المقاومة. فالاحتراب حول هذه المحكمة تمهيد لحرب على لبنان لنزع سلاح المقاومة وربما أبعد من لبنان. وهذا الاحتراب وتداعياته اللاحقة في رقبة القضاء اللبناني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.