لا للمواقف الرمادية في السياق السوري

لا للمواقف الرمادية في السياق السوري - الكاتب: أسامة أبو أرشيد



أسابيع قليلة بعيد انطلاق الاحتجاجات الشعبية في سوريا منتصف شهر مارس/آذار الماضي تلقيت اتصالا هاتفيا من التلفزيون السوري يطلبون مني فيه التعليق على "المؤامرة" التي تتعرض لها سوريا.

وكمداخلة جانبية سريعة، فقد كانت تربطني بالتلفزيون السوري علاقات طيبة، إذ كنت دائم الظهور على شاشتهم منذ مطلع عام 2003، كمحلل سياسي لا أكثر ولا أقل. حينها كان التلفزيون السوري يتبنى سقفا عاليا في معارضة الغزو الأميركي/البريطاني للعراق، كما أن خطابه الداعم للقضية الفلسطينية و"الممانعة" العربية كان متميزا.

وليس صحيحا ما اتهمني به بعض شخصيات المعارضة السورية في الولايات المتحدة من أنني كنت أعمل مع التلفزيون السوري وأحصل على راتب منه، بل ووصل الأمر بأحدهم أن يعرض علي تمويلا بديلا عن تلفزيون النظام السوري إن قطعت علاقاتي معه!

"
كانت علاقتي بالتلفزيون السوري كما هي علاقتي بالجزيرة أو العالم أو الحوار أو أبو ظبي, وما كنت أقوله على أي من تلك القنوات كنت أقوله على شاشة التلفزيون السوري
"

حينها، كانت علاقتي بالتلفزيون السوري كما هي علاقتي بالجزيرة أو العالم أو الحوار أو أبو ظبي.. إلخ. وما كنت أقوله على أي من تلك القنوات كنت أقوله على شاشة التلفزيون السوري.

أما حديث الراتب فلا أصل له ولا قيمة، فكل محلل أو معلق يظهر على أي فضائية يأخذ "إكرامية" تقل عن 150 دولارا في سقفها الأعلى، وبالمناسبة، فإن التلفزيون السوري يدفع أقل من ذلك بكثير.

ورغم أن علاقتي كانت طيبة مع تلفزيون سوريا، وعلى الرغم من أنني لم أتورط يوما في مدح أو دعم أي نظام عربي بشكل عام، وفاسد بشكل خاص، ونظام سوريا على رأس القائمة، فإنني رفضت أكثر من دعوة لزيارة سوريا، ولم أقبل لنفسي يوما أن أكون شاهد زور على إجرام أي نظام عربي.

بل إنه حتى لمّا دعيت للجلوس مع الرئيس بشار الأسد في زيارته التي كانت مقررة إلى نيويورك في عام 2003 أو 2004، لا أذكر بالضبط، عزمت أن أكلمه في موضوع حقوق الإنسان والمعتقلين والمبعدين السوريين، ولكن شاء الله ألا يأتي الأسد بسبب الضغوط الأميركية حينها وألا يتم ذلك اللقاء.

على أي حال، كانت هذه الخلفية مهمة لتوضيح سبب اتصال التلفزيون السوري بي للتعليق على "المؤامرة" التي تتعرض لها سوريا. ولكن إجاباتي هذه المرة كانت مختلفة، فقد اعتذرت بأدب عن التعليق على شاشتهم، ذلك أنني لا أستطيع أن أدعم موقف نظام قمعي ومجرم ضد شعبه التائق للحرية والكرامة.

كما أخبرت محدثي على الجانب الآخر من الهاتف بأنني لو علقت على شاشتهم فإنني سأتحدث بقناعاتي وما يمليه علي ضميري، وأنا إن فعلت ذلك، فإن رقابا قد تطير في التلفزيون السوري، أو على الأقل ستقطع أرزاق وتصادر حريات. ولكن الرجل أصر، وقال لنتحدث إذن عن تغطية الإعلام الأميركي للاحتجاجات في سوريا، ووافقت محرجا، على شرط ألا يتوسع الموضوع أكثر من ذلك.

وفعلا بدأ الحوار من تلك الزاوية، ولكن يبدو أن تفاصيل ذلك النقاش السابق لم تصل المذيع السوري الذي كان على الهواء مباشرة، وفوجئت به يسألني عن موقف الجالية العربية من "المؤامرة الأميركية/الصهيونية" التي تتعرض لها سوريا. وحينها لم أجد بدا من أتحدث بقناعاتي وما يمليه علي ضميري وواجبي، ولكن بلغة مخففة وحذرة، ذلك حتى لا أتسبب في قطع أعناق أو أرزاق موظفين مساكين في الغالب، لا حول لهم ولا قوة.

وقتها، قلت إني أتحدث كصديق ومحب لسوريا، وأناشد الرئيس بشار، الشاب والمثقف، ألا يسمح للاحتجاجات بأن تخرج عن نطاق السيطرة وتتحول إلى حمامات دم ومجازر على النمط الليبي حينها، وبأنه أولى الناس باستباق أي تصعيد بإجراء إصلاحات جوهرية وحقيقية تلبي تطلعات ورغبات شعبه.

كان المذيع السوري، يقاطعني من الجانب الآخر، زاعما أنه لا توجد احتجاجات في سوريا، وأن ذلك كله ضخ إعلامي معاد، وأن القوات الأمنية والعسكرية السورية تكافح قوى "إرهابية" روعت المدنيين المسالمين، وأن الرئيس قد أعلن حزمة من الإصلاحات، ولكن لابد من أن تعطى هذه المبادرات الرئاسية الوقت الكافي لتتجسد عمليا.

وكان جوابي هو أننا لا نريد أن نفجع بسوريا، أو أن يحدث فيها تدخل أجنبي أو صهيوني لا قدر الله، ذلك أن التدخل العسكري الغربي في ليبيا كان قد بدأ يتشكل حينها.

"
أراد السوريون من ظهوري على شاشتهم أن يؤكدوا وجود "مؤامرة" غربية إسرائيلية على سوريا، ولكني كنت أكثر إصرارا على ألا ألوث سمعتي ولساني بدعم "مافيا" حكم إجرامية
"

ومع إصرار محاوري من الطرف الآخر على أن ما يجري في سوريا "مؤامرة" خارجية عليها، وأظنهم أرادوا من ظهوري أن يقولوا إن "محللا سياسيا" مقيما في واشنطن يؤكد وجود "مؤامرة" غربية إسرائيلية على سوريا، فإني كنت أكثر إصرارا على ألا ألوث سمعتي ولساني بدعم "مافيا" حكم إجرامية ضد شعب أعزل وعزيز كالشعب السوري العريق.

ولذلك، وتحت إصرار الرجل على انتزاع عبارة مؤيدة لنظام الأسد من فمي عنوة، قلت له إن الجميع -وعلى رأسهم شعب سوريا العظيم- يؤيد خطاب الممانعة والكرامة السورية عندما يتعلق الأمر بمواقف سوريا القومية، ولكن المحتجين اليوم لا يتظاهرون احتجاجا على مواقف الكرامة السورية، وإنما يتظاهرون لأنهم يريدون كرامتهم هم كبشر ومواطنين في بلادهم، وإنه إذا خيرنا بين "سوريا العروبة" و"سوريا الوطنية" فإننا سنختار الوقوف إلى جانب "سوريا الوطنية" وشعبها، وثقتنا أن شعب سوريا ليس أقل غيرة على قضايا أمته، وهكذا أُنْهِيَتْ المقابلة.

قدمت بهذه القصة التي مر عليها أكثر من شهرين ونصف الآن، ذلك أن أوضاع سوريا قد ازدادت قتامة اليوم. وإذا كانت الدماء حينئذ وقت الحوار التلفزيوني بعدُ قليلة، فإن مستوى القتل وسفك الدماء قد ارتفع منسوبهما اليوم إلى مستويات مفجعة.

وإذا كان لدى النظام حينها خط رجعة يمكن أن يعول عليه، فإني أظنه الآن يقترب، إن لم يكن دخل أصلا مرحلة اللاعودة. وإذا كان احتمال حدوث تدخل خارجي في سوريا حينها ضئيلا، فإن احتمالاته تزايدت اليوم، بل واحتمال تقسيم سوريا -لا قدر الله- في تصاعد مستمر.

فمع كل جريمة جديدة يرتكبها النظام، في حماة أو حلب أو درعا أو اللاذقية أو بانياس أو جسر الشغور أو معرة النعمان… إلخ.. مع كل مجزرة وجريمة أخرى تتصاعد احتمالات تدويل الشأن السوري وشرذمة سوريا، ذلك أن سوريا الدولة والشعب، لا النظام، تمثلا عمقا إستراتيجياً للأمة العربية، وبالتالي فإن شرذمتها وتمييعها مطلب غربي إسرائيلي بامتياز.

نعم، نظام الأسد لم يُبِنْ فقط عن نفس طائفي أَقَلَوِيٍ بغيض وحقير، كما أنه لم يُبِنْ عن عقلية إجرامية ودموية وحشية فحسب، بل إنه أبان أيضا عن زيف دعاوى "الممانعة" التي كان يصم بها أسماعنا.

لا شك أنه ما من عاقل إلا وكان يدرك أن خطاب "الممانعة" و"قلعة الصمود" ما هو إلا إحدى مرتكزات شرعية نظام عفن، متهالك، وطائفي، ولكن التقاء المصالح حينها سمح باستمرار علاقات الهدنة بالنسبة للبعض، والتحالف للبعض الآخر.

"
نظام سوريا فاقد للشرعية، وهو لا يقل قذارة عن نظام القذافي أو صالح، أو أنظمة من سبقهم، أو من لا يزالون ينتظرون
"

اليوم -وينبغي أن تقال بصراحة- نحن وصلنا إلى نهاية الطريق. مجرم من يدافع عن نظام قاتل للأطفال ومغتصب للنساء ومشتت شمل الأسر والعائلات. مجرم من يدافع عن قاتل الطفل حمزة أو الطفلة هاجر، ومجرم من لا يزال ينافح عن نظام أَمَّنَ حدود إسرائيل لعقود طويلة ثمّ هاهو يوترها اليوم عبر مجموعة من الشبان الصادقين والبريئين ليقول لأميركا وإسرائيل إن استقرار هذه الأخيرة مرتبط باستقراري في سوريا. (تصريحات ابن خال الرئيس الأسد رامي مخلوف لنيويورك تايمز تؤكد هذا التحليل).

نظام سوريا فاقد للشرعية، وهو لا يقل قذارة عن نظام القذافي أو نظام صالح، أو أنظمة من سبقهم، أو من لا يزالون ينتظرون حتى تصلهم "المقشة" كي تكنسهم وقذاراتهم أجمعين.

نعم، إذا كانت هذه هي سوريا "الصمود" و"الممانعة" فبئسما هي. فسوريا "الوطنية" هي الرصيد الحقيقي للمانعة والصمود العربي. أما الساكتون أو المتواطئون أو المبررون لهذا النظام البغيض، فإن مصيرهم مزابل التاريخ مع هذا النظام العفن.

نتفهم صمت قوى ترتبط بتقاطعات مصالح كبرى للأمة مع هذا النظام العفن، ولكن هذا شيء وأن تدافع عن هذا النظام أو تبرر له فإن هذا أمر آخر. لقد سقط حزب الله وحسن نصر الله من عليائهما الذي اكتسباه عبر مقاومة العدوان الصهيوني إلى درك منخفض بدفاعهما وتبريرهما لهذا النظام المتهالك، وإذا صح أن عناصر من هذا الحزب تشارك النظام في سحق المتظاهرين، فتلك قاصمة للحزب ستقضي على آخر ما تبقى له من مصداقية ومحبة في قلوب الناس.

نعم، لقد أبان حزب الله عن نفس طائفي بغيض، خصوصا ونحن نسمع صريخه وعويله ليل نهار على "شيعة البحرين"، في حين لم يكتف بالصمت على جرائم نظام سوريا "الشيعي" ضد غالبية "الشعب السني"، بل إنه بادر إلى الدفاع عنه!

هذا ما فعلته إيران المتهمة أيضا بالمشاركة في دعم النظام السوري تقنيا وبشريا لقمع المتظاهرين. إنه النفس الطائفي المنحدر أخلاقيا ورساليا، وهو ذات النفس البغيض الذي لوث معارضة البحرين (بتشييع جوهرها وخطابها) ضد نظام "سني" فاسد.

"
إذا صح أن عناصر من حزب الله تشارك النظام في سحق المتظاهرين، فتلك قاصمة للحزب ستقضي على آخر ما تبقى له من مصداقية
"

مرة أخرى، يُكَذِبُ الشعب السوري خرافة "الدونية العربية"، ويؤكد نظامه حقيقة "دونية" أنظمتنا. شعارات المتظاهرين السوريين السلميين المؤكدة على وحدة الشعب السوري والمتسامية على فواصل العرقيات والإثنيات والمذهبيات والأديان، تتصادم مع ذهنية "طائفية" نظامه الحاكم.

إنه تأكيد جديد أن بلادنا وشعوبنا أفضل وأكثر رقيا من دون تلك الطغمات المجرمة الحاكمة. نسأل الله لشعب سوريا، واليمن وليبيا، وكل الشعوب العربية المكتوية بنير ظلم حكامها وأنظمتهم أن تتخلص من تلك العقبة الكؤود في طريق حرياتها وكرامتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.