نجاد وبني صدر.. أزمات ومآلات

نجاد وبني صدر.. أزمات ومآلات



مقدمات متشابهة
اختلاف جوهري
نهاية مفتوحة


مع استمرار تصاعد التوتر بين الرئيس الإيراني أحمدي نجاد والمرشد الأعلى للثورة علي خامنئى خلال الآونة الأخيرة، تتداعى التكهنات بشأن تأزم الأمور بين حليفي الأمس إلى الحد الذي ينذر بإمكانية تكرار ذات السيناريو الذي حدث قبل عقود ثلاثة خلت مع الدكتور أبو الحسن بني صدر، أول رئيس منتخب لإيران بعد الثورة الإسلامية عام 1979.

وإذا كانت القراءة المتأنية ومن منظور مقارن للخلاف الحاصل بين نجاد ونظام ولاية الفقيه بقيادة خامنئي حاليا، ومن قبلها بثلاثين عاما بين بني صدر والإمام الخميني، إنما تميط اللثام عن نقاط تشابه عديدة بين مقدمات التجربتين خصوصا فيما يتصل ببواعث الصراع بين الرئيس والمرشد كما أدواته وتطوره فإن خبرات التاريخ تؤكد أن المقدمات المتشابهة قد لا تفضي بالضرورة وفي أحيان كثيرة إلى نفس النتائج أو ذات المآلات.

مقدمات متشابهة
تلاقت تجربتا بني صدر ونجاد في الاصطدام بركائز نظام ولاية الفقيه، بقيادة المرشد الأعلى للثورة، في مواضع شتى، أبرزها:

"
واجه كل من بني صدر ونجاد تحديات جمة حينما سولت لهما نفساهما فرض تصورهما لمباشرة مهامهما الرئاسية عند تعيين بعض الشخصيات في مناصب عليا
"

أزمة مباشرة الصلاحيات: فقد واجه كل من بني صدر ونجاد تحديات جمة حينما سولت لهما نفساهما فرض تصورهما لمباشرة مهامهما الرئاسية، فلقد جوبه الأول منذ البداية بعاصفة سياسية ودينية ودعائية مناهضة له في البرلمان والإعلام والحوزة الدينية، إذ رفض البرلمان مرشحيه لمنصب رئيس الوزراء وفرض عليه الخميني محمد علي رجائي، المحسوب على التيار الديني رئيسا للحكومة، كما رفضت مطالبه بحل مجلس الثورة ومجلس القضاء الأعلى وتشكيل حكومة جديدة، وتم تقليص صلاحيات بني صدر تدريجيا، فنزعت منه قيادة الجيش إثر موقفه من الصراع العراقي الإيراني، حتى وافق الخميني على طلب البرلمان بعزله.

وواجه نجاد أزمة مشابهة، على خلفية رغبته في تعيين بعض خلصائه في مناصب مهمة على غير رغبة المرشد خامنئي ومن دون موافقة البرلمان، ثم سعيه للإطاحة بوزراء مهمين ومقربين من خامنئي ودمج ثماني وزارات وعزل ثلاثة من كبار المسؤولين، وذلك توخيا من نجاد لإعادة تشكيل النخبة السياسية بما يتماشى وتطلعاته السياسية.

تحول العلاقة مع المرشد: يشكل رضاء المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية على الرئيس سندا مهما لشرعية ذلك الأخير، وقد شهدت علاقات كل من بني صدر ونجاد بالمرشد تحولات مهمة، إذ بدأت حميمية وتفاهمية لكنها تدهورت بعد ذلك إلى مستوى الصراع والصدام.

فمن جهته، كان بني صدر لفترة طويلة بما فيها الأشهر الأولى من رئاسته لإيران، يحظى بثقة الخميني ودعمه، لكن سرعان ما نشبت الخلافات بين بني صدر ورجال الدين المحيطين بالمرشد ممن كانوا يعارضون أفكاره وتوجهاته الليبرالية واتهموه بإثارة الفرقة والانقسام لينتهي صراع القوة بين الجانبين بانتصار الفريق الثاني، الذي أطاح ببني صدر في مايو/ أيار من عام 1981.

أما نجاد، وبعد تقارب وتفاهم واضحين مع خامنئي منذ العام 2005وصلا إلى حد دعم الأخير له إبان أزمة الانتخابات الرئاسية التي أجريت في العام 2009، فقد احتدم الصراع بينهما إثر سعي الأول لتوسيع سلطاته بغير تنسيق مسبق مع الأخير وعلى نحو لا يتماشى وأسس نظام ولاية الفقيه، علاوة على تبني نجاد مشروعا لإعادة هيكلة النظام الإيراني انطوى على حملات دعائية مناهضة للمرشد.

تآكل الشعبية: شهدت شعبية كل من نجاد وبني صدر تحولا من الصعود إلى الهبوط على خلفية توتر علاقاتهما بالمرشد الأعلى. ولقد كان بني صدر في البداية يحظى بدعم الخميني ودعاة الليبرالية والديمقراطية. وما إن بدأت علاقاته بالمرشد ورجال الحوزة الدينية تعرف طريقها للتوتر، حتى بدأت شعبيته وشرعيته في التآكل، مما أفضى إلى عزله في نهاية المطاف.

"
شهدت شعبية كل من نجاد وبني صدر تحولا من الصعود إلى الهبوط على خلفية توتر علاقاتهما بالمرشد الأعلى تجاه بعض القضايا
"

وبدوره، ظل نجاد محتفظا برصيد من الشعبية داخل أوساط سياسية ودينية إيرانية محافظة حتى فترة ليست ببعيدة، بيد أنه بدأ يفقد دعم دوائر مهمة في إيران على المستوى الشعبي والرسمي والديني بعد أن تفاقم التوتر بينه وبين المرشد والبرلمان والقضاء ومجلس صيانة الدستور، امتد إلى صفوف الأجهزة الأمنية المؤثرة كالباسيج والحرس الثوري اللذين حذرا من "مخطط" يعده فريق نجاد ضد الولي الفقيه خامنئي، واصفين فريق نجاد "بالمنحرف"، ومتهمينه بالانتماء إلى منظمة مجاهدي خلق ومنظمات أخرى معادية للنظام، حتى هددا بإقالته واعتقاله بسبب علاقاته بصهره رحيم مشائي.

اختلاف جوهري
برغم ما بينهما من جوانب تلاق، لم تخل تجربتا بني صدر ونجاد في الاصطدام بالمرشد ونظام ولاية الفقيه من ملامح اختلاف مهمة، لعل أبرزها المرجعية السياسية والفكرية, فمن حيث الأهداف، تجاوزت تطلعات بني صدر رغبات نجاد المحدودة في تعظيم صلاحياته والاحتفاظ بالسلطة لتتضمن توسيع صلاحيات كافة الأجهزة المنتخبة على حساب الصلاحيات الواسعة للمرشد وبعض المؤسسات والمجالس الدينية غير المنتخبة شعبيا ضمن دولة مدنية تعددية, وذلك في إطار برنامج شامل للإصلاح السياسي الليبرالي.

وبخصوص الآليات، وبينما اعتمد نجاد على أسلوب الصراع على السلطة والحقائب الوزارية والعمل على إرساء دعائم دينية ثيوقراطية تبرر وتشرعن نهمه للمزيد من السلطة، تبني بني صدر رؤية سياسية مدنية ليبرالية متكاملة للتغيير والإصلاح.

غير أن توجهاته الليبرالية تلك اصطدمت بالنهج الثيوقراطي للخميني وحاشيته من رجال الحوزة الدينية الذين لعبوا دورا مهما في إشعال وقيادة الثورة ومن بعد ذلك في تعظيم دور رجال الدين في العملية السياسية.

"
توجهات بني صدر الليبرالية اصطدمت بالنهج الثيوقراطي للخميني وحاشيته, أما نجاد فقد اصطدم بالمرشد بسبب رغبته في إعادة إنتاج الحكم الثيوقراطى وفقا لأسانيد وركائز دينية مغايرة 
"

أما نجاد، فيستند مسعاه إلى أسس دينية بحتة. فالركيزة الأساسية لمشروعه الرامي لإعادة صياغة الأسس الدينية والسياسية لنظام ولاية الفقيه على نحو يعزز من سلطات الرئيس على حساب المرشد الأعلى، بما يعني إعادة إنتاج الحكم الثيوقراطى وفقا لأسانيد وركائز دينية مغايرة، تتمحور حول فكرة عودة الإمام المهدي الغائب الثاني عشر بعد اثني عشر قرنا من الغياب، والذي سيخلص العالم من الشرور والظلم ويمهد السبيل لسيطرة الإيرانيين بقيادة نجاد على العالم، مما يترتب عليه عند الشيعة الإمامية والاثني عشرية انتهاء دور الولي الفقيه، خصوصا وأن نجاد وصهره مشائي يدعيان بأنهما متصلان مباشرة بالإمام المهدي وهما الأقرب إليه في الوقت الذي عمدت بعض وسائل الإعلام الموالية لهما إلى وصف المرشد بأنه عدو لذلك الإمام. وفي مسعى لإعادة هيكلة الشرعية الدينية للنظام، أسس نجاد وحاشيته هيئة جديدة لرجال الدين موازية للحوزة الدينية وكليات الشريعة.

نهاية مفتوحة
ربما يقودنا التحليل السابق إلى الزعم بأن تجدد التوترات بين نجاد وخامنئي لا يشترط بالضرورة تحولها إلى صراع قد يفضي إلى عزل نجاد أسوة بما حدث مع بني صدر، أو أن يتسع نطاقه ليقوض نظام ولاية الفقيه.

فمن جهة نجاد،لا تزال محاولاته الخجولة والحذرة والمحسوبة لإدخال تغييرات على نظام ولاية الفقيه مقيدة بحرصه على عدم الصدام بالمرشد والأجهزة الأمنية والسياسية والدينية الموالية له والتي انقلبت مؤخرا على نجاد.

وهو الأمر الذي يتيح لنا تفسير خطواته الاستفزازية الأخيرة حيال المرشد من خلال قراءتين: أولاهما، أن تكون محاولات لجس النبض أو استعراض القوة من جانب رئيس طموح في مواجهة مرشد يترنح تحت وطأة ضغوط محلية وإقليمية ودولية متنامية. وثانيتهما، أن النهاية التصالحية والاعتذارية التى ينهي بها نجاد تلك التوترات مع المرشد في كل مرة تنم عن إدراك نجاد الحصيف لموازين القوى بينه وبين المرشد بما يجعل من تصعيد الصدام معه حاليا بمثابة انتحار سياسي لنجاد وأعوانه.

"
على عكس بني صدر، الذي اتخذ نهجا تصادميا واضحا ومتواصلا مع الخميني بعد تفجر الخلافات بينهما، انتهج نجاد نهجا متقلبا ما بين الصعود والهبوط في توتر علاقته بالمرشد
"

فعلى عكس بني صدر، الذي اتخذ نهجا تصادميا واضحا ومتواصلا مع الخميني بعد تفجر الخلافات بينهما على نحو جعله لا يمكث في الرئاسة سوى 17 شهرا فقط، انتهج نجاد نهجا متقلبا ما بين الصعود والهبوط في توتر علاقته بالمرشد مع الحرص على عدم السماح بانزلاقها إلى مستوى الصدام الفعلي.

ففي أعقاب أزمة تعيين مشائى نائبا له ثم مديرا لمكتبه، عاد نجاد وجدد ولاءه التام للمرشد. ومؤخرا، وبعد أن غاب عن مباشرة مهامه الرئاسية طيلة أحد عشر يوما على خلفية أزمة التعيينات الوزارية، عاد نجاد مجددا تبعيته وولاءه للزعيم الأعلى، الذي شكره على دعمه للحكومة كما وصف العلاقات معه بأنها مثل علاقة الأب وابنه، وطلب من الوزراء، بحضور وزير الاستخبارات حيدر مصلحي، دعم المرشد وولاية الفقيه، وذلك بعد أن هدده خامنئي بالإقالة إن أصر على تحديه له وظل مقاطعا للعمل العام.

غير أن هاتين القراءتين لا تعنيان بالضرورة أن المرشد هو وحده المتحكم كلية في مآلات الأزمة الإيرانية الحالية، فرغم أن الدستور الإيراني خوله عزل الرئيس بموجب المادة 89 وبعد طلب ثلث نواب البرلمان أو بتوصية من الديوان الأعلى للقضاء، ورغم تهديد المرشد لنجاد بالإقالة، تقف اعتبارات شتى حائلا دون إقدام المرشد على هكذا خطوة، يتصل بعضها بالداخل الإيراني الملتهب سياسيا وإثنيا واقتصاديا في وقت لم تكتمل بعد خيوط التهمة التي يمكن للجميع أن يتقبلوا إقالة نجاد بناء عليها دستوريا، ففي حين اتهم بني صدر بالخيانة والتقاعس عن صد العدوان العراقي، لا يزال نجاد متشددا إلى حد التطرف في تحدي أميركا وإسرائيل، كما لا يتورع عن المضي قدما في تطوير البرنامج النووي والصناعات العسكرية لبلاده برغم الحصار والعقوبات.

وبينما يصر الإصلاحيون على المطالبة بإقالة نجاد على اعتبار أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي منحته ولاية ثانية في العام 2009 كانت تفتقد إلى النزاهة، لا يبدو المرشد والأجهزة الأمنية التابعة له كالحرس الثوري والباسيج والشرطة مستعدين للإصغاء لهذه المطالب لأنهم ليسوا بمنأى عن الشبهات كونهم قد أشرفوا على تلك الانتخابات التي باركها المرشد كما أيدوا نجاد في مواجهة عاصفة "الحركة الخضراء".

وتأتي في هذا السياق أيضا، مخاوف المرشد من أن تفضي إقالته لنجاد إلى انبعاث المطالبات الشعبية والنخبوية الملحة، حتى من داخل التيار المحافظ ورجال الحوزة الدينية، بإدخال إصلاحات سياسية جوهرية على نظام ولاية الفقيه تطال سلطات المرشد والأجهزة الموالية له، وهو ما لا يبدو خامنئي مستعدا لتقبله في الوقت الحالي، ليس فقط لأنه لا يريد زلزالا جديدا يهز جنبات النظام المرتبك أصلا أو صدعا جديدا في البنيان الهش للتيار المحافظ وسط أجواء بالغة الحساسية، خصوصا وأن قرار عزل نجاد سيأتي في سياق مغاير لقرار عزل بني صدر في مهد الثورة، والذي أسفر عن تعزيز موقع المرشد ورجال الدين في نظام ولاية الفقيه فضلا عن إعادة التماسك والانسجام إلى مجلس الثورة.

"
المسؤولون الإيرانيون يؤكدون رغبة القيادة في الإبقاء على نجاد بمنصبه حتى انتهاء ولايته الثانية، راهنين ذلك بحسن أدائه, وإلا سيواجه العزل لعدم أهليته السياسية
"

ولكن لأن المرشد يدرك أن نجاد قد أضحى بمثابة حائط صد وصيغة وسط تضمن بقاء الوضع الراهن على حاله، لاسيما إذا ما تسنى للمرشد وأذرعه الأمنية والدينية والسياسية القوية والوفية في آن محاصرة تطلعاته واحتواء أية تداعيات سلبية قد تنجم عنها.

لذلك، لم يكن من المستغرب أن يبدي خامنئى قبل أيام شيئا من التراجع حيال نجاد، حينما أعلن، بالتوازي مع تسليطه الأجهزة الموالية له لإرهابه وتهديده، رضاءه عن أدائه وطالب الحكومة والبرلمان ورجال الدين بالتعاون حفاظا على تماسك النظام واستقرار البلاد والثورة وحماية الإسلام.

وألقى خامنئي باللائمة في تأجيج الصراعات الداخلية الراهنة على ما أسماه "سيناريوهات قوى الهيمنة لبث الفرقة والانقسام داخل النخبة الإيرانية وإضعاف الاقتصاد الإيراني".

وفي السياق ذاته، جاء تأكيد مسؤولين إيرانيين رغبة القيادة في الإبقاء على نجاد بمنصبه حتى انتهاء ولايته الثانية العام 2013، راهنين ذلك بحسن أدائه وابتعاده عن مشائي والعودة للصراط المستقيم وذلك خلال مهلة تنتهي في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وإلا سيواجه العزل لعدم "أهليته السياسية"، ومن ثم تجرى انتخابات رئاسية مبكرة بالتزامن مع الانتخابات التشريعية المقررة في مارس/ آذار المقبل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.