إسرائيل في مواجهة الحرية العربية

العنوان: إسرائيل في مواجهة الحرية العربية



بنية إسرائيلية متأقلمة مع الأنظمة
من هاجس الأنظمة إلى هاجس الشعوب

من كان يصدق أن تتخوف إسرائيل من سقوط أنظمة كانت قد اتخذتها عدوها التاريخي إلى حدود الأشهر الأخيرة؟ إن كان الأمر واضحا في الحالة المصرية، فكيف نفهم خشيتها من زوال النظام البعثي "الأسدي" في سوريا ونظام "الثورة" القذافية في ليبيا وهما اللذان مثلا لزمن ليس بالقصير شق الممانعة العربية المعادي للدولة العبرية؟ من كان ينتظر موقفا أميركيا من حدود 1967 ولو منقوصا؟

فتح معبر رفح يعد أول تجسيد لجاذبية الحراك الشعبي العربي الذي وضع إسرائيل ومعها أنظمة مثل إيران والسعودية وسوريا والأردن وليبيا في خندق واحد لتواجه الشعوب والحرية على الضفة الأخرى.

بنية إسرائيلية متأقلمة مع الأنظمة
أعتقد أن لب المأزق الإسرائيلي يتمثل في أن هذه الدولة تشكلت للتعامل مع أنظمة ودول أكثر منه للتعامل مع الشعوب والكيانات غير الرسمية. هذا ما يفسر التوجس الإسرائيلي الحالي الذي يجب أن يفهم في سياق تاريخ تشكل إسرائيل كمشروع وككيان سياسي وكوطن لمجموعة سكانية تدعي تميزها.

فمن حيث بنيته يمكن القول إن هذا الكيان رسخ نفسه على أساس التعامل مع أنظمة ودول قائمة في حين أهمل جانب التعامل مع المعطى الشعبي والمجتمعي على أرض الواقع، وكان مدفوعا في ذلك بأيديولوجية الصهيونية العنصرية وبإستراتيجية عملها.

"
رسخ الكيان الصهيوني نفسه على أساس التعامل مع أنظمة ودول قائمة في حين أهمل جانب التعامل مع المعطى الشعبي والمجتمعي على أرض الواقع
"

فقد حرص زعماء الصهيونية العالمية كما هو معلوم منذ نهاية القرن التاسع عشر على الاتصال بالدول الاستعمارية آنذاك وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وحتى الباب العالي ممثلا في السلطان عبد الحميد الثاني.

تواصلت هذه الاتصالات مع جمعية الاتحاد والترقي خلال الحرب العالمية الأولى وحتى مع زعماء القومية العربية المتحالفين مع الشريف حسين. لكن بالطبع دون الحصول على مبتغاهم في كل مرة.

بعد سنة 1948، تواصل الرهان الإسرائيلي كما نعلم على التعامل مع الدول الكبرى من خلال مغازلة الولايات المتحدة وهي القوة الأبرز التي حسمت مصير الحرب العالمية الثانية.

أما على الصعيد العربي، وبما أن رد الفعل المباشر على قيام دولة إسرائيل تمثل في تحرك الدول العربية المشرقية العسكري المحتشم والفاشل، فقد بدأت القيادة الإسرائيلية تكيف نفسها لمواجهة العرب كأنظمة أولا.

في هذا الإطار وضعت إسرائيل إستراتيجية ترتكز بدرجة أولى على الضغط العسكري والدبلوماسي والإعلامي على الدول العربية. وهي سياسة أعطت أكلها خاصة في إطار الحرب الباردة وما كانت تلعبه إسرائيل كقاعدة متقدمة للمعسكر الغربي.

مقابل ذلك لم يكن لإسرائيل تاريخيا أي إستراتيجية لمواجهة خصمهم العربي على اعتباره عمقا شعبيا وجماهيريا. وقد بدا ذلك واضحا منذ البداية من خلال اتباع سياسة أكثر عنفا.

فإن اقتصر الأمر على الضغط في حالة النظام العربي الرسمي وحتى الحرب أحيانا، فإن السياسة الإسرائيلية لمواجهة المعطى الجماهيري كانت أشد قسوة.

هذا ما يفسر أن تاريخ إسرائيل في هذا الصنف من المواجهات هو في كلمة تاريخ مجازر وجرائم دير ياسين وصبرا وشاتيلا وانتفاضة الحجارة والحرب الأخيرة على لبنان وحرب غزة وغيرها أقوى دليل على ذلك.

نتائج هذا التمشي الإسرائيلي المركز على التعامل مع الأنظمة والمتأقلم مع تناقضات المشرفين على القرار السياسي، وما يقابله من تهميش البعد الشعبي، أعطى نتائج متعارضة تفسر إلى حد كبير الاضطراب الإسرائيلي الحالي.

ويمكننا أن نلخص ذلك بالقول بأن تاريخ مواجهة إسرائيل مع الأنظمة هو تاريخ النجاحات، أما تاريخ تعاملها مع المعطى غير الرسمي والشعبي فهو تاريخ العنف والفشل. فقد كسبت إسرائيل كل مواجهاتها العسكرية مع العرب، بما فيها حرب 1973 بما أنها لم تؤثر كثيرا في هذا الكيان. تحصلت إسرائيل كذلك على الصلح وعلى الأراضي وعلى التطبيع وعلى التبادل التجاري.

في المقابل عرفت الفشل تلو الآخر، ولو بشكل نسبي أحيانا، جراء مواجهتها للمعطى الشعبي. فالمجازر المرتكبة في حق القرى والبلدات الفلسطينية لم تقتلع الإنسان الفلسطيني من أرضه بالرغم من وجود الملايين من اللاجئين.

"
اعتبرت إسرائيل ميزة العالم العربي الأولى هي وجود دولة قوية ومجتمع ضعيف, وبناء عليه كيفت سياستها العربية مع هذا التشخيص الأكاديمي
"

تجسد الفشل كذلك من خلال الحيرة الإسرائيلية لإيجاد سياسة خاصة بعرب 1948. فشل إسرائيل كان صارخا عند مواجهة أطفال الحجارة وانتفاضتهم التي أعطت العالم صورة سوداء عن إسرائيل.

تكرر الفشل من خلال العجز التام على إدارة شؤون غزة وخروجها مجبرة منها. نفس الوضع آلت إليه مواجهة إسرائيل لمقاومي حزب الله والذي كشف الستار عن جيش مرتبك ومعنويات جنود منهارة في مواجهة عناصر شعبية تؤمن بقضيتها وتحارب باسم نفسها وليس باسم نظام.

لقد استفادت إسرائيل أيما استفادة من نظريات أنثروبولوجيا العالم العربي والتي اعتبرت ميزة العالم العربي الأولى هي وجود دولة قوية ومجتمع ضعيف. وبناء عليه كيفت سياستها العربية مع هذا التشخيص الأكاديمي.

من هاجس الأنظمة إلى هاجس الشعوب
من هنا نفهم كل التردد الإسرائيلي الحالي وتلك الحسرة على خسارة أنظمة عدوة كانت في المتناول وكان من السهل الانتصار عليها لكن مع المحافظة على وجودها طالما استمرت قطيعتها مع شعوبها سواء باسم الثورة أو باسم الواقعية السياسية المهادنة.

لقد كان تواصل الاستبداد العربي ضمانا لتأكيد وتفعيل التفوق الإسرائيلي. هكذا كان توجه الإسرائيليين متناغما مع تركيبة الكيان ومع مشروعه التأسيسي كما رأينا. لكن في المقابل العربي الرسمي كانت هناك عديد العناصر التي هيئت الأرضية لهذا التفوق. والحديث عن الجانب الرسمي غايته هنا التمييز بين الأنظمة والمستوى العربي الشعبي الذي بقي خارج دائرة نفوذ السياسة الإسرائيلية وربما مثل عقدتها الرئيسة.

خلال الحقبة الماضية (أقول الماضية هنا استباقا لمصير الحراك الثوري العربي الحالي وربما تفاؤلا به) استفادت إسرائيل أيما استفادة من غياب الحريات وكذلك من افتقاد الأنظمة العربية، سواء المواجهة لها أو المتعاونة معها أو تلك المختفية وراء الحياد الواقعي، لشرعية تبرر وجودها على رأس السلطة.

"
استفادت إسرائيل من غياب الحريات وكذلك من افتقاد الأنظمة العربية لشرعية تبرر وجودها على رأس السلطة, في تلميع صورتها الديمقراطية وفي التغطية على طبيعتها الاستعمارية
"

غياب الشرعية هذا يقابله على الجانب الإسرائيلي تداول ديمقراطي ساهم في تلميع صورته وفي التغطية على طبيعته الاستعمارية. لهذا تتوجس هذه الدولة من إمكانية التأسيس لحرية عربية شعبية قد تنتهي إلى ممارسة ديمقراطية تلغي ذلك التمايز المصطنع بين شعب يهودي حديث ومنفتح ومجموعات عربية اعتبرت غير مؤهلة لتولي مصيرها بنفسها.

مثل غياب الحريات وغياب المشاركة السياسية في العالم العربي عنصر ضعف للطرف العربي الرسمي نفسه في مواجهة إسرائيل.

إذ لم يكن للأنظمة العربية أي امتداد شعبي ومجتمعي تستند إليه ما عدا ما تيسر من حلقات عشائرية أو طائفية أو جهوية موجهة بالأساس لترسيخ الانفراد بالحكم.

هذا ما سهل بالطبع مراقبتها والتحكم في مصيرها من طرف القوى العظمى المساندة لإسرائيل. لقد كان مصير نظام صدام حسين ونظام القذافي دليلا على فشل تلك الإستراتيجية المعتمدة على شعار الثورة على الخارج مع توظيف رمزية فلسطين ولكن بهدفه تدجين المجتمع المحلي.

الجديد الذي قد ترسخه الثورات العربية المتتابعة، والتي نأمل أن تسير في اتجاه عصر الحرية الحقيقية، أنها قلبت موازين القوى لصالح الشارع والشعب على حساب القصر وساكنيه.

لنا اليوم مشهد مغاير تماما. هناك مجتمع قوي يقف في وجه دولة ضعيفة وأضعف منها تلك الرموز التي تحكمت فيها مدة عشريات وعشريات. هربٌ الرئيس بن علي وتلمس مبارك الصفح من شعبه هي أبرز علامات انقلاب ميزان القوى هذا.

ربما لن يذهب مد الثورة العربية حد الإطاحة بكل الأنظمة القائمة، لكن من المؤكد أنه نجح في مستويين. يتمثل الأول في نقل الخوف إلى ميدان السلطة والساهرين عليها. "لا خوف بعد اليوم"، هذا الشعار الذي رفعه الشعب في وجه حكامه، جسد تلك النقلة النوعية لمسار الخوف، أي من خوف المجتمع من السلطة إلى خوف السلطة من المجتمع.

هذه بداية الدخول العربي الفعلي للحداثة، أي دخول مجتمعي يقطع مع وصاية الدولة وما كانت تلعبه من دور الوسيط الانتقائي منذ بداية القرن التاسع عشر.

أما المستوى الثاني فيتعلق بإمكانية مراقبة المجتمع لطريقة تسيير دواليب الدولة سياسيا وإداريا وماليا. فحتى الأنظمة التي ستصمد، لسبب أو لآخر، سوف لن تتمتع بنفس ذلك الحيز غير المتناهي من الانفراد بتسيير جهاز الدولة إلى حد امتلاكه وتوريثه.

"
الحراك الحالي سيجعل من كل الأنظمة تراعي موقف شارعها من الخيارات على مستوى السياسة الخارجية خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية
"

تحس الأنظمة اليوم أن الشارع يراقبها ومن شأن هذا أن يكون له تأثير مباشر على سياستها الخارجية. ربما سيحد ذلك من الفساد المالي والإداري الذي مثل ورقة ضغط بيد القوى الدولية على رؤساء مثل بن علي ومبارك وآخرين.

لكن الأهم أن الحراك الحالي سيجعل من كل الأنظمة تراعي موقف شارعها من الخيارات على مستوى السياسة الخارجية خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية نظرا لحضورها النوعي في الوجدان العربي.

لقد كان طرد أول وزير خارجية تونسي بعد الثورة، أحمد ونيس، من طرف موظفي وزارة الخارجية في تونس غير دليل على التمشي الجديد. فبعد أن مدح وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة ميشال آليو ماري رأى أعوان وإطارات الوزارة أنه لم يحترم روح الثورة وشهداءها كما أنه لم يعبر عن إرادة الشعب ووطنيته فأجبروه تبعا لذلك على الاستقالة.

فتح معبر رفح بشكل دائم ومراجعة العديد من الاتفاقيات المصرية مع الجانب الإسرائيلي، توحي كذلك بوجود لاعب جديد ورهان جديد في السياسة الخارجية العربية.

إنه الشعب. هذا الشعب الحركي في مصر وفي الأراضي الفلسطينية وفي الفضاء العربي عموما هو الذي وفر الضغط اللازم والشروط الموضوعية لإتمام المصالحة الفلسطينية.

إسرائيل في ورطة إذن بسبب حتمية مواجهة هذا الواقع غير المتوقع. واقع الحرية والكرامة العربية الذي أوصل الشعب إلى مسرح السياسة الداخلية والخارجية كلاعب جديد.

"
إسرائيل في ورطة بسبب حتمية مواجهة الواقع العربي الجديد غير المتوقع, واقع الحرية والكرامة العربية الذي أوصل الشعب إلى مسرح السياسة كلاعب جديد
"

لكن حجم الورطة الإسرائيلية لا يتوقف عند هذا الحد. فبزوغ فجر إرادة عربية جديدة يتم في فترة ولى فيها زمن الحرب الباردة التي جعلت من إسرائيل قاعدة متقدمة للمعسكر الغربي.

زوال الحرب الباردة غير خارطة الرهانات في العالم. حيث انتقلت المنافسة، ولو بشكل محدود حاليا، من البعد الجيوستراتيجي السياسي والعسكري إلى البعد الاقتصادي.

وتأكد هذا التغير مع بروز القوة الصينية والهندية، كما تأكد هذا الرهان الاقتصادي مع الأزمة المالية الأخيرة. في هذا السياق الجديد سوف تعامل إسرائيل، حتى من طرف الدول الداعمة لها، من خلال وزنها البشري بالأساس. والفارق مع الشعوب العربية على هذا المستوى واضح.

من جهة أخرى ومع تزايد عجز الإنفاق العام في الغرب بسبب الأزمة، لم يعد بمقدور الحكومات الغربية أن تواصل دعمها الاقتصادي المعتاد لإسرائيل إلا بقدر ما يحققه هذا الدعم من مردودية.

هذه إذن ملامح الوضع الجديد الذي لا تمتلك إسرائيل لمجابهته أي وسيلة إلى حد الآن. فالساسة الإسرائيليون واعون بأن فشل التطبيع مع مصر والأردن كان مرده نفور المستوى الشعبي والنخبوي العربي منه. فما العمل اليوم إن أضحى الشعب ونخبه في صدارة القرار؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.