في رثاء العظماء

العنوان: في رثاء العظماء



عندما يرحل العظماء تنقص الأرض من أطرافها، وتنطفئ منارة كبرى كانت ترسل إشعاعات خيرها ونورها في ربوع العالمين. عندما يرحل العظماء تنفطر لذهابهم القلوب، لكونهم حماة الأمة وركنها الركين، وصمام أمن قيمها ومبادئها التي ترتفع بها إلى مصاف الأمم الخالدة ذات الإسهامات الكبرى في حياة البشرية.

لا نرثي اليوم رجلا عاديا أو شخصا عابرا أو حتى أحد رموز الأمة المترامية من المحيط إلى المحيط..

نقف اليوم بمشاعر عميقة تشتعل فيها الحسرة والألم في موقع رثاء رجل بأمة.. رجل أحيا شعبه الذي افترسته وحوش التغريب والتحلل القيمي والعقدي في حقبة الحداثة الزائفة، وعمل ليل نهار لخدمة قضايا أمته التي تآمر عليها القريب والبعيد، في زمن التبعية والهوان والردة عن المبادئ الناصعة والمعاني الجميلة.

"
أربكان واحد من العظماء الذين أنجبتهم تركيا في القرن العشرين، ووهبتهم شمائل وحبتهم بقدرات وطاقات متميزة ارتقت بهم إلى قمة المجد وذرى العمل والتضحية والعطاء
"

نجم الدين أربكان أحد هؤلاء العظماء الذين أنجبتهم تركيا في القرن العشرين، ووهبتهم شمائل وحبتهم بقدرات وطاقات متميزة ارتقت بهم إلى قمة المجد وذرى العمل والتضحية والعطاء.

نجم الدين أربكان رجل ليس ككل الرجال، ورمز ليس ككل الرموز، فما تركه الرجل الفذّ بين دفتي كتاب حياته الذي تتقاطر من صفحاته المضيئة كل صور العطاء والإبداع، يضعه -حتما ودون جدال- في المرتبة الأسمى التي لا يجاوره فيها إلا نفر قليل من علماء ومفكري وقادة الأمة، بالغي التفرد والتميز والإبداع، في العصر الحديث.

ربما لا يعرف الكثيرون سيرة حياة أربكان الذي شكل نموذجا للإصرار والمواجهة والتحدي في كل الميادين وفي مختلف الأوقات، أو يدركون بعضا من العناوين العريضة التي بزغت في مرحلة ما من مراحل حياة الرجل التي تختزن في صحائف أعماله مدونات كتبت بمداد الذهب والمجد والفخار، على إيقاع مراحل وعهود زمنية عصفت بها التحديات وسرت فيها المؤامرات سريان النار في الهشيم.

لقد مثل أربكان مدرسة فكرية كبرى متكاملة الأبعاد والزوايا، وموسوعة سياسية شاملة طبعت بصماتها المؤثرة في كل مكان، وتركت آثارها العميقة في حياة تركيا والأمة جمعاء.

لا تنبع أهمية ودور ومكانة أربكان فقط من مواقعه الهامة التي تقلدها في تركيا كنائب لرئيس الحكومة، ومن ثم رئيسا لها، أو زعامته التاريخية للحركة الإسلامية التركية في فترة تاريخية حرجة من عمر تركيا وظروفها الداخلية التي استعلى فيها العسكر على كل مفردات وتفاصيل الحياة المدنية وشؤون المجتمع، بل إن اربكان اكتسب أهميته ومكانته أكثر ما يكون كقائد ومفكر إسلامي على مستوى العالم العربي والإسلامي ككل، لا يؤمن بالقطرية المحلية، ويدافع عن حقوق وقضايا الشعوب وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ويتصدى للطغيان الدولي، ويملك رؤى وحلولا ومشروعا حضاريا تتجاوز عناصره ومكوناته وتأثيراته تركيا إلى آفاق العالمين العربي والإسلامي الرحبة والساحة الدولية الأكثر اتساعا.

تجربة أربكان ليست كأي تجربة.. إنها تجربة فريدة واجهت مصاعب وعقبات لا حصر لها، وأعادت رسم وتشكيل الخريطة التركية إثر عقود عجاف من البغي العلماني الذي وأد الدين والقيم الإسلامية، وحارب النور والفضيلة، وبث معاني الميوعة والسقوط في بنية وزوايا المجتمع التركي.

جسدت حياة أربكان كل أشكال القوة والعزم والصبر والثبات والصمود في وجه المحن والتحديات، فما إن يؤسس حزبا لإحياء قيم المجتمع ويغلقه العسكر ظلما وعدوانا حتى يؤسس حزبا آخر، وما إن يحارب في اتجاه حتى ينشط ويجتهد في اتجاه آخر دون كلل أو ملل.. وهكذا في متوالية رائعة من الإصرار العجيب الذي تفاعل بين ضلوع شخصية فريدة لا تأبه بالباطل وانتفاخ كيانه الهش ومؤسساته الباغية، ولا ترتعد من سطوة قرارته الجائرة وسياساته الرعناء.

لا تقتصر حياة أربكان على المواقف الصلبة والقدرات الفكرية والسياسية الباهرة، بل إن رجل الفكر والسياسة امتلك مرونة دبلوماسية مدهشة صقلتها المحن والخطوب والتجارب والخبرات، ليشكل شخصية بديعة ذات ملامح ومكونات متكاملة تُوّجت بكاريزما ذاتية وحضور لافت لا يختلف في جدارتها وأهليتها أحد.

"
من الصعب رثاء قامة كبرى كقامة أربكان الذي أفنى حياته في سبيل نصرة دينه ودعوته وإعلاء شأن شعبه وأمته، وأعطى القضية الفلسطينية الكثير الكثير
"

لذا، لم يكن مستغربا أن تفتح جبهات الحرب على الرجل نيرانها من كل حدب وصوب، وأن يكون قرار إقصائه حاضرا على الدوام في كل المراحل والمحطات.

من الصعب رثاء قامة كبرى كقامة أربكان الذي أفنى حياته في سبيل نصرة دينه ودعوته وإعلاء شأن شعبه وأمته، وأعطى القضية الفلسطينية الكثير الكثير.

حين نتحدث عن علاقة أربكان بالقضية الفلسطينية نتحدث عن علاقة عضوية عقدية مصيرية لا انفصام لها، وحالة من حالات التجذر العميق في الوعي الفكري والثقافي والسياسي الذي يتأسس على رؤية شمولية ذات آفاق رحبة تدرك أبعاد الصراع وحقيقة الاحتلال الصهيوني ومخططات عزل الأمة عن قلبها النابض (فلسطين)، وتعي أن العمل لفلسطين وإنقاذها من براثن "النازيين الجدد" ينبغي أن يستغرق العمل والجهد والتفكير، وأن من يتصدى لقضية فلسطين يجب أن يعطي بلا حدود من لحمه ودمه ووقته وراحته، وألا يخفض سقف تضحياته وعطاءاته مهما بلغ الثمن ومهما كانت الظروف.

لم تصرفه تحديات الواقع التركي القاسية يومًا عن قضية فلسطين، رغم كثافة التشابكات والتعقيدات التي لفّت الحياة السياسية التركية المبتلاة بفجور وتدخل العسكر حامي حمى العلمانية في مواجهة الإسلاميين وأهل التغيير.

عاشت القضية الفلسطينية في روحه وعقله ووجدانه، فكان لها سندا وداعما وظهيرا ونصيرا أينما حل أو ارتحل، حتى غدت صنو القضايا التركية، ولحنا شديّا تعزف حروفه وتطرب لأنغامه كافة قطاعات وشرائح الشعب التركي.

ما زلت أذكر كيف كنا نتابع كفلسطينيين أربكان في محطاته المختلفة، وخصوصا في عِقدي الثمانينيات والتسعينيات، لحظة بلحظة وموقفا موقفا، وقلوبنا تضرع إلى الله بالدعاء أن يوفقه لتقلّد زمام الحكم والتأثير، وأن يُجري على يديه صلاح الواقع التركي والسياسة التركية كمقدمة طبيعية وأرضية موضوعية للانطلاق الفاعل على مستوى الأمة، وتفكيك أزماتها قدر الإمكان، وكبح أو على الأقل تخفيف حال التبعية والانحطاط الذي غرقت فيه الأمة بفعل سياسات أنظمتها الفاسدة التي وضعتها في مؤخرة الركب الحضاري وذيل القافلة الإنسانية.

وكم كانت الفرحة والحبور والاستبشار تغزو أفئدتنا مع كل تقدم أو نصر يحرزه ويظفر به أربكان، ومع كل فكرة يطلقها لتوحيد الأمة واستعادة دورها وكيانها، ومع كل موقف يصدح به في وجه الظالمين أو تضامنا مع فلسطين ودفاعا عن أهلها وقضيتها العادلة.

اليوم، تفتقد فلسطين كثيرا "الرجل الأمة" الذي أرعب الصهاينة حينا من الدهر، وزرع بذرة النهوض الواعد لتركيا الحديثة بالمفهوم الحقيقي وليس بالمفهوم العلماني المتخلف الذي يصادم الدين والعقائد والمقدسات، تركيا التي تعزف اليوم على وتر السياسة النظيفة غير الملوثة بأدران الكذب والخداع والتضليل، وتلعب دورا بارزا في تشكيل المشهد السياسي العام في منطقة الشرق الأوسط، وتتحدى الصلف والعنجهية الصهيونية، وتؤازر الشعوب المضطهدة في مشوارها نحو نيل حقوقها المسلوبة وكرامتها المفقودة من أنياب الحكم الجبري لأنظمة القمع والاستبداد.

لقد خرّج أربكان أجيالا من القادة النجباء والمفكرين النبلاء الذين رفعوا راية العزة والكرامة والحرية عاليا، وحملوا على أكتافهم مهمة إعادة بناء تركيا الحضارة والحرية بعيدا عن آفات التعصب العلماني البغيض التي رهنت تركيا -حاضرا ومستقبلا وكيانا- لأجندة غريبة تعاكس روح العصر وقيم الحضارة والانفتاح، وإرساء دورها الريادي والطليعي على مستوى الأمة الإسلامية والعالم أجمع.

الرئيس التركي عبد الله غل ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان يشكلان مثلا رائعا ونموذجا حضاريا رائدا لجيل القادة العظماء الذين أنجبتهم مسيرة أربكان التاريخية على امتداد العقود الماضية، فضلا عن الكثير الكثير من القادة والمفكرين الذين لا يعرفهم الناس ولا تتصدر صورهم وسائل الإعلام.

"
رحل أربكان وغاب عن مشهد الحياة بصمت، وانطوت صفحة جسده الهرِم، لكن فكره المبثوث في تركيا وكافة أرجاء وربوع الأمة ما زال متأججا يافعا يحمل الراية ويقود المسير
"

خسرت تركيا وفلسطين والأمة العربية والإسلامية برحيل أربكان الكثير، وفقدت رمزا من أوفى وأصلب وأكبر وأعظم رموزها في العصر الحديث.. رمز سيشهد له التاريخ في أسفاره المعاصرة بفضل السبق في تغيير وجهة تركيا ومشهدها الثقافي والسياسي ومسارها الحضاري والإنساني، وإعادتها إلى قاطرة الحياة من جديد بعدما أقحِمت قسرا في غيابات الموت والارتكاس الروحي عقودا من الزمن، وإعادة برمجة موقعها الطبيعي وبوصلتها الحية في أحضان أمتها العربية والإسلامية إثر عقود سوداء من الضياع السياسي والحضاري واللهاث وراء السراب.

إذا ما أردت التعرف -بحق- على إنجازات أربكان، فما عليك إلا تفحّص تركيا ومقارنة واقعها ماضيا وحاضرا، ومعاينة الثمار اليانعة التي نضجت في بستانه العامر، ونهلت من معين تجربته الممتدة ورحيق خبرته الواسعة الذي لا ينضب، وها هي تقود الدولة التركية بكل جدارة واقتدار، وتضعها في مكانها اللائق بين الأمم والشعوب.

أربكان جسد حقيقة نجوميته وانتمائه لدينه وشعبه وقضايا أمته ليس عبر اسمه المجرد، بل عبر مسيرة حياته العامرة وتاريخه الحافل الذي لم يعرف يوما معنى التردد والتراجع أو الخور والانكسار.

رحل أربكان وغاب عن مشهد الحياة بصمت، وانطوت صفحة جسده الهرِم، لكن فكره المبثوث في تركيا وكافة أرجاء وربوع الأمة ما زال متأججا يافعا يحمل الراية ويقود المسير إلى حيث المجد والسؤدد والانتصار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.