الجزيرة كانت هناك

العنوان: الجزيرة كانت هناك



هناك كليشيه جاهزة ومملة، ينطقها الذين تزعجهم رؤية ما يجري في العالم العربي معكوسا في وسائل إعلام لا ترتدي الزيِّ الموحد للإعلام العربي: أجندة! كل وسيلة إعلامية لا ترتدي ذلك الزيِّ الموحد تقع تحت طائلة هذه التهمة الجاهزة المقصود بها إفقاد وسيلة الإعلام المعنية المصداقية والمهنية والتأثير -بالتالي- في الرأي العام، وتصويرها أداةً خبيثةً لخدمة أغراض خفيّة.

ومثلما تجري "شيطنة" دول أو زعماء سياسيين أو شخوص في الحياة العامة، ويعاد إنتاج صورهم في الغرف المظلمة على النحو الذي يخدم غرضاً آنيّاً لجهة ما (غالباً ما تكون متنفّذة) تجري أيضا "شيطنة" وسائل إعلام بالقول إن لها "أجندة" خفيّة. ولعل أكثر وسيلة إعلامية عربية لوحوا لها بتهمة "الأجندة"، ذات الرنين المريب والمشبوه، هي قناة "الجزيرة".

"
لو عددنا البلدان العربية التي منعت بثَّ قناة "الجزيرة" من أرضها أو أوقفت عمل مراسليها أو عرقلت نشاطها، لما بقي تقريباً بلد عربي لم يفعل ذلك, وهذا دليل بسيط على غياب الأجندة الخفية
"

لو عددنا البلدان العربية التي منعت بثَّ قناة "الجزيرة" من أرضها أو أوقفت عمل مراسليها أو عرقلت نشاطها، على نحو أو آخر، لما بقي، تقريبا، بلد عربي لم يفعل ذلك. وهذا دليل بسيط، في رأيي، على غياب الأجندة الخفية.

فلو كانت هناك مثل هذه الأجندة لما حظيت القناة بما يشبه الإجماع في عالم عربي رسمي لا يعرف، تقريباً، الإجماع على شيء اللهم سوى ما تشهده اجتماعات وزراء الداخلية العرب السيئة الصيت والسمعة. فقد قيل إن أكثر اجتماعات الوزراء العرب، المنبثقة من جامعة الدول العربية، انسجاماً، بل إجماعاً هي اجتماعات هؤلاء الوزراء الذين يحكمون الخناق على أعناق أناسهم.

يمكن أن تكون لوسيلة إعلامية ما "أجندة" ضد دولة، أو محور بعينه. هذا يحصل بالتأكيد، ولكن يصعب أن تكون لها "أجندة" ضد اثنتين وعشرين دولة لا يربط بينها سوى انعدام شرعية نظمها وتأبيد حكامها على عروش مرصَّعة بالقمع والفساد وأنين المواطنين.

هكذا رأينا "الجزيرة" تُمنع، أو يعرقل بثّها، أو يقيَّد عمل مراسليها، في معظم الدول العربية إن لم يكن كلها. وليس هناك محك للمنع أو التقييد مثل اللحظات التي يتحرك فيها المواطنون العرب في الشوارع مطالبين بحقوق إنسانية أو معيشية، أو محتجّين على انضواء دولهم في تحالفات سياسية معاكسة لآمالهم وتطلعاتهم.

هذه اللحظات في عمر شقاء المواطن العربي مع نظامه كثيرة ويصعب حصرها غير أن أبرزها ما جرى في الدول التي قرر مواطنوها خلع نير الاستبداد من رقابهم ومحاولة تولي مصائرهم بأيديهم. المثال التونسي حاضر، هنا، بقوة. صحيح أن "الجزيرة"، التي لم يكن لها حق التحرك الحرّ في الشارع التونسي، ليست هي التي أطلقت شرارة التغيير، وصحيح أنها لم تلعب دوراً في تأطير الحراك وتنظيم الجموع، وهذه أدوار، بطبيعة الحال، لا تدَّعيها القناة، فضلاً عن أنها ليست من صلب عملها ولا مطلوبة منها، ولكن وجود منبر يصل إليه الصوت والصورة تمكن مشاهدته على نطاق واسع مثل "الجزيرة" ساعد المنتفضين التونسيين على مواصلة انتفاضتهم.

هناك وسائل اتصال حديثة تحايلت على سيف الرقابة والمنع المباشرين استخدمها المنتفضون في تونس لإيصال رسائلهم وتجميع صفوفهم منها الإنترنت (وتحديدا شبكات التواصل الاجتماعي "فيسبوك") والهاتف المحمول. هذه الأدوات التكنولوجية التي حاول نظام بن علي إخضاع محتواها لرقابة شديدة (ولكن من غير جدوى) تحوّلت إلى ساحات رأي وحشد وتأطير، وهي على الأغلب التي انطلقت من "عالمها الافتراضي" شرارات الغضب الأولى، ولكن لم يكن ممكناً لها وحدها القدرة على إشاعة وبث أخبار الانتفاضة إلى مختلف الأوساط التونسية (العربية والعالمية استطراداً) لو لم تلق مساندة كبيرة من قناة "الجزيرة".

لم تفعل "الجزيرة" سوى ما يمكن أن تفعله أي وسيلة إعلامية مهنية أخرى حيال حدث كهذا. فالخبر والصورة هما قوام الوسيلة الإعلامية البصرية، من دونهما لا حياة لها. وأي وسيلة إعلامية بصرية مهنية، بل تنافسية، كانت ستفعل ما فعلته قناة "الجزيرة" في الحدث التونسي المفصلي، ما لم تكن لها "أجندة" حقيقية.

"
لم تفعل "الجزيرة" سوى ما يمكن أن تفعله أي وسيلة إعلامية مهنية أخرى حيال الحدث التونسي, وأي وسيلة إعلامية بصرية مهنية، بل تنافسية، كانت ستفعل ما فعلته قناة "الجزيرة" ما لم تكن لها "أجندة" حقيقية
"

ألم تفعل هذا قناة "سي أن أن" في الحرب الأميركية الأولى على العراق ومن سبقها الإعلامي ذاك، من تواجدها في قلب الميدان، في اللحظة المناسبة صنعت شهرتها؟ ليست قناة "سي أن أن"، كما نعرف، عربية، إنها قناة أميركية ولكنَّ "حسَّها المهني" والتقاطها للحظة مفصلية في تاريخ المنطقة، بل العالم، حوَّلها بين عشيّة وضحاها من قناة شبه محلية إلى قناة عالمية. هناك لحظات فارقة في تاريخ البشرية من يتواجد فيها، ومن يتمكن من التقاط ذبذباتها، سيكون بمقدوره صنع علامته المسجلة.

وها هي قناة "الجزيرة" أمام المنع مرة ثانية. وفي لحظة مفصلية كبرى في الحياة العربية. فقد قرر النظام المصري المترنح تحت ضربات الثورة الشعبية توقيف بثَّ القناة وإلغاء تصاريحها. إنه يحاول الإفادة (من دون جدوى كما نأمل) الإفادة من الدرس التونسي، وأقدم على ما لم يقدم عليه نظام بن علي الموصوف بقبضته الحديدية على وسائل الاتصال.

فقد أوقف النظام المصري خدمة الهواتف المحمولة، وعطلَّ شبكة الإنترنت، ولكن الغضب المصري المتراكم عقوداً طويلة، غضب الجِمال ذات الصبر الوطيد، على حد وصف أحد الأصدقاء الصحافيين المصريين، وجد له مسارب تنظيمية أخرى بعضها تقليدي تماما كحمل رسائل باليد، في إحياء حديث ومبتكر لدور ساعي البريد. غير أن النظام المترنح الذي حاول فعل المستحيل لإعاقة عمل الصحافة والصحافيين (بما في ذلك اعتقالهم وضربهم) لم ينجح في تحويل كتلة المتظاهرين الثائرين المتراصّة الصفوف إلى جزر معزولة.

وفي آخر نفس من أنفاس بقائه غير المضمون في السلطة قرر نظام مبارك الانتقام من قناة "الجزيرة" التي حاولت، بقدر ما تستطيع، أن تتوازن في نقل صورة ما يجري وأن تدقق في الأخبار والصور المتلاحقة التي تنقلها من الميدان. لقد سمعت مدير مكتب الجزيرة في القاهرة يقول، في الأيام الأولى للانتفاضة، إنَّ تغطية مكتبهم واقعة بين شقيّ رحى. فمن جهة يتهمها النظام بالتحريض ومن جهة أخرى يتهمها بعض النشطاء في الميدان بـ"بيع القضية".

لم تخترع قناة "الجزيرة" الثورة المصرية. ولم تصنعها. ولم تفبرك تلك الحشود التي قررت تحدي سلطة الأب والابن. كل ما فعلته هو التواجد بين صفوف الشباب الثائرين الذين قرروا، بلا تراجع ولا مهادنة، العمل على تغيير نظام يربض على صدورهم ثلاثين عاما وكاد أن يسدَّ أفق الأمل أمامهم. ماذا تفعل قناة إخبارية، في حدث كهذا، غير أن تنقل الخبر والصورة؟ ماذا تفعل سوى أن تعكس مشهد ما يجري على الأرض؟ قد يتحدث البعض عن غياب المصادر الرسمية المصرية من تغطيات "الجزيرة"، ولكن أين هي تلك المصادر؟

أين هي الحكومة في كافة وزارتها وناطقيها؟ كيف يمكن لأي قناة إخبارية أن تقدم رأي الحكومة وموقفها في غياب هذه الحكومة التام عن الأحداث؟

نظام مبارك المترنح لا يريد نقل خبر أو صورة. يريد تلفيقاً للحقائق. يريد أن يقول الصحافيون إن كل شيء تمام. لا شيء يدعو إلى القلق. الأمور تحت السيطرة!

لقد سمعت، على إحدى القنوات المصرية الخاصة (التي ظلت تبث برامج تسلية وطبخ وديكور في عزِّ اشتعال الثورة المصرية) رجل أعمال شهيراً هو نجيب ساويرس يطلب من المواطنين المصريين، بتهدج وانفعال، أن لا يشاهدوا قناة "الجزيرة" والاكتفاء بقنواتهم المحلية، إضافة إلى قناة إخبارية عربية معينة (لن أسميها تاركاً معرفة اسمها لحصافة القراء). هذه هي القنوات التي عليكم مشاهدتها لتعرفوا "الحقيقة" وليس "قناة الفتنة".

"
لم يطق نظام مبارك المترنح تدفق الصور والأخبار من الشارع الثائر, فقرر منع "الجزيرة" من العمل وسحب تراخيصها وإيقاف مراسليها
"

ولكن ما هو مضمون تلك القنوات، بما فيها تلك القناة غير المصرية التي سماها رجل الأعمال الكبير نجيب ساويرس؟ إنه الإمعان في النكران. في القول إن الأمر عارض ولا يعتم حتى تنجلي الغمة ويصح الصحيح. إنه التهويل من أمر الفوضى والفلتان والتركيز عليهما ونسيان الأسباب التي دفعت جموع الشعب المصري (وليس شبابه فقط) إلى الشوارع هاتفين بصوت واحد وبقلب واحد: الشعب يريد إسقاط النظام.

لم يطق نظام مبارك المترنح، الذي لم يبق منه سوى برج "ماسبيرو" (مقر التلفزيون المصري)، تدفق الصور والأخبار من الشارع الثائر. فذلك لا يساعده في التقاط أنفاسه المنهكة وإعادة تنظيم صفوفه التي تشتت تحت ضربات الشعب الثائر. فقرر منع "الجزيرة" من العمل وسحب تراخيصها وإيقاف مراسليها. لكن "الجزيرة" التي حازت ثقة الجموع الثائرة لم تتأثر كثيراً. واصلت عملها في حرية أكبر. صار المتظاهرون مراسلوها. النشطاء محللوها. يأتيها بالأخبار من لم تزودِ، على تعبير بيت الشعر الشهير.

خلاصة القول إن من يكون هناك، من يكون بين الناس، من يرى الحدث وهو يتكوَّن في رحم اللحظة هو من ينال قصب السبق المهني والجماهيري والتنافسي أيضا. و"الجزيرة" كانت هناك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.