غزو الصومال وغياب الوعي العربي

العنوان: غزو الصومال وغياب الوعي العربي



أهداف الحملة الكينية
التداعيات المحلية والإقليمية
الصومال والربيع العربي

يبدو أن العرب على مستوى النظم الحاكمة والشعوب قد نسوا أو تناسوا أمر الصومال التي التحقت ببيت العرب عام 1974. لقد اختزلت صورة الصومال بتراثها الحضاري وتاريخها النضالي المشهود إلى مجرد مدركات سلبية تعبر عن مشاهد الحروب والنزاعات الأهلية، ومآسي المجاعة واللاجئين، وجرائم القراصنة والمغامرين.

ولعل حكماء العرب وساستهم قد يئسوا من مرض الصومال العضال، فتركوا أمر علاجه لقوى إقليمية ودولية طامحة وربما عابثة تسعى لتحقيق مصالحها وفرض أجنداتها، التي قد تفضي في نهاية المطاف إلى إعادة الصياغة الجيوإستراتيجية لإقليم شرق أفريقيا بشكل عام.

ففي 16 أكتوبر/تشرين الأول 2011 قامت كينيا بغزو أراضي جنوب الصومال عسكريا لتعقب قوات الشباب المجاهدين، وهو ما يعد انتهاكا لسيادة الصومال، وفقا لمبادئ القانون الدولي. وإذا تركنا جانبا موقف الحكومة الانتقالية في مقديشو التي عبرت عن تأييدها للعملية الكينية في الوقت الذي عارض فيه الرئيس شريف شيخ أحمد الغزو الكيني لبلاده فإن موقف الجامعة العربية يدعو إلى إثارة أكثر من علامة استفهام واحدة.

فالعرب الذين أبدوا، على غير استحياء، تفهمهم للغزو الإثيوبي للصومال عام 2006 قد تجاهلوا بالمرة الغزو الثاني لأراضي دولة عربية من قبل القوات الكينية وكأنهم كما يقول المثل العامي "جعلوا أذنا من طين وأخرى من عجين".

"
قرار التدخل الكيني عسكريا في الصومال يمثل نقطة تحول فارقة في تاريخ كينيا منذ الاستقلال, فرغم أن الجيش الكيني يعد ثاني أكبر جيش (بعد إثيوبيا) في منطقة شرق أفريقيا فإنه لم يقم قط بأي عملية عسكرية خارج أراضيه
"

أهداف الحملة الكينية
من اللافت للانتباه حقا أن قرار التدخل الكيني عسكريا في الصومال يمثل نقطة تحول فارقة في تاريخ كينيا منذ الاستقلال. فرغم أن الجيش الكيني يعد ثاني أكبر جيش (بعد إثيوبيا) في منطقة شرق أفريقيا لم يقم قط بأي عملية عسكرية خارج أراضيه.

وتسعى الحكومة الكينية من وراء هذه الحملة التي أطلقت عليها اسم "Linda Nchi" وتعنى باللغة السواحلية "حماية الأمة" إلى إقامة منطقة عازلة بطول 100 كلم داخل الأراضي الصومالية المتاخمة للحدود الكينية، وذلك بهدف منع الشباب المجاهدين والقراصنة من العمل في هذه المناطق والعبور إلى الأراضي الكينية.

يعني ذلك أن الهدف الإستراتيجي المباشر للحملة الكينية يتمثل في السيطرة على مرفأ كيسمايو الذي يشكل شريان الحياة لمقاتلي الشباب، وربما يوفر لهم حلقة اتصال كذلك ببعض أفراد القراصنة.

على أن أهمية مدينة كيسمايو تتعدى ذلك، فهي تمثل قاعدة إبرار وتموين للقوات العسكرية ومركزا للاتصالات والمراقبة البحرية، فضلا عن إمكانية استخدامها مركزا لعمليات الإغاثة الدولية في منطقة جوبالاند الصومالية.

ومع ذلك لا تعني السيطرة على كيسمايو التخلص من الأخطار الأمنية التي تواجه كينيا ودول الجوار الأخرى، فالسواحل الصومالية طويلة وتغطي نحو(1800 كلم) حيث تتجه شمالا إلى أن يلتقي خليج عدن مع البحر الأحمر.

ورغم أن سكان المناطق المتاخمة للحدود الكينية من الصوماليين لا يؤيدون الشباب المجاهدين فإنهم يفتقرون إلى القدرات الأمنية والعسكرية التي تدفع بمعارضتهم إلى حد المقاومة المسلحة. وعليه فإن الحملة الكينية قد تعمل على تأسيس جماعات مسلحة تعمل بالوكالة لصالحها في نطاق المنطقة العازلة المزمع إقامتها داخل الصومال.

وعلى صعيد آخر فإن الدافع المباشر للحملة الكينية والذي روجت له وسائل الإعلام الكينية تمثل في ملاحقة العناصر الأجنبية التي قامت باختطاف السائحين وعمال الإغاثة داخل الأراضي الكينية، إذ أدت هذه الأحداث إلى تأثيرات سلبية على صناعة السياحة في كينيا. ومن المعلوم أن قطاع السياحة يشكل مصدرا هاما من مصادر الدخل القومي في كينيا.

على أن ذلك لا يخفي الأهداف السياسية التي تبرر العملية الكينية، فمع تكرار انتهاكات مقاتلي الشباب والقراصنة لحرمة الأراضي الكينية وعبورهم إليها ساد إدراك عام بين المواطنين الكينيين بأن حكومتهم عاجزة وتفتقد القدرة على توظيف إمكانياتها العسكرية في الدفاع عن الوطن. وعليه رأى الساسة وصانعو القرار في نيروبي أهمية التأكيد على الإرادة السياسية وقدرتهم على حماية الأمة، وهو ما جعلهم يطلقون هذا الاسم على حملتهم العسكرية داخل الصومال.

التداعيات المحلية والإقليمية
إن دخول كينيا باعتبارها فاعلا عسكريا جديدا في الصراع الصومالي سوف يزيد الأمور تعقيدا ويصبح التدخل الكيني جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل، ولعل دروس الماضي القريب تؤكد ما نقول.

فالتدخلات الأجنبية الأخرى في الصومال قد أثبتت فشلا ذريعا، بما في ذلك التدخل الأميركي الذي استمر نحو عامين في الصومال وانتهى بفضيحة إسقاط الـ"بلاك هوك" الأميركية عام 1994 في مقديشو، والتدخل الإثيوبي في الصومال خلال 2006-2009 والذي كشف عن خيبة أمل العملاق الإثيوبي. وقد يكون من الأفضل للكينيين إنهاء المهمة بأسرع وقت والعودة إلى ممارسة دور دبلوماسي وسياسي لحل الأزمة الصومالية.

"
على القيادة الكينية اليوم أن تتوقع الأسوأ في مجال أمنها الوطني والإقليمي, ولعل ذلك يكون نتاجا طبيعيا لقرارها التدخل في نمط معقد من الصراع كالذي تشهده الصومال منذ عام 1991
"

إن الغزو الكيني غير الشرعي للصومال يطرح الكثير من التساؤلات حول التوقيت والدوافع والأهداف الحقيقية، فالعملية الكينية تهدد نجاح جهود التسوية السلمية الإقليمية للأزمة الصومالية ولاسيما جهود الهيئة الحكومة للتنمية (إيغاد) وجماعة شرق أفريقيا التي أقرت المبادرة الإقليمية السياسية والتي شكلت أساسا لاجتماع مجموعة الاتصال الدولية حول الصومال الذي عقد في 29 سبتمبر/أيلول 2011 في الدانمارك.

وإذا تمكنت كينيا من إقامة المنطقة العازلة داخل الصومال فإن تحولا هاما يكون قد حدث على الساحة الإقليمية، وذلك من ناحيتين أولاهما أن كينيا كان ينظر إليها دائما باعتبارها تفضل الدبلوماسية والاقتراب غير العسكري في الأزمة الصومالية. ولكن مع وجود موطئ قدم لها داخل الصومال يصبح النهج السلمي الذي تبنته كينيا تجاه الصومال أمرا تجاوزته الأحداث وأضحى في ذمة التاريخ. ولعل تداعيات ذلك تكمن في أن الأطراف الصومالية المتحاربة قد تجد في كينيا عدوا وهدفا مشروعا لهجماتها، وهو ما يفضي إلى آثار أمنية بعيدة المدى.

أما التحول الثاني فإنه يرتبط بتكلفة الحرب، فإذا كان الاعتبار الاقتصادي ولاسيما حماية قطاع السياحة في كينيا قد مثل أحد أهداف الغزو الكيني للصومال كما أوضحنا فإن تكلفة الحملة تزداد مع تقدم القوات الكينية على الأرض وقيامها بتأمين منطقة النفوذ والسيطرة داخل الأراضي الصومالية. ومع الأخذ بعين الاعتبار زيادة حدة التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة وانخفاض قيمة العملة الكينية سوف يصبح لزاما على الحكومة الكينية أن تراجع عوائدها ومواردها الاقتصادية من أجل سداد كلفة العملية العسكرية.

إن على القيادة الكينية اليوم أن تتوقع الأسوأ في مجال أمنها الوطني والإقليمي. ولعل ذلك يكون نتاجا طبيعيا لقرارها التدخل في نمط معقد من الصراع كالذي تشهده الصومال منذ العام 1991. فثمة احتمال جدي لقيام الشباب بمهاجمة المصالح الكينية في الداخل والخارج وحتى على ساحة القتال في مواجهة القوات الكينية الغازية.

وما من شك في أن الشباب المجاهدين يمتلكون المقدرة على تنفيذ ضربات موجعة للخصم كما حدث داخل الصومال وفي كمبالا عاصمة أوغندة.

ورغم تمتع نيروبي وبقية الأراضي الكينية بالأمن النسبي فإن خطورة وجود بعض الخلايا النائمة وأفراد الشباب قد يهدد أمن كينيا واستقرارها في المستقبل المنظور، وهو ما يعني في أحد أبعاده النيل من سمعة كينيا الإقليمية باعتبارها قبلة للسائحين ومركزا للنشاط التجاري والاقتصادي في منطقة شرق أفريقيا.

الصومال والربيع العربي
إن الأسوأ في الغزو الكيني للصومال هو الاستمرار في تنفيذ سيناريو التقسيم والتجزئة للأمة الصومالية العربية، إذ إنه بعد الإطاحة بالشباب من كيسمايو سوف يتأتى لكينيا السيطرة على العملية السياسية في كل من جوبا وغيدو، وهو ما يجعل أمر التقسيم تحصيل حاصل، فالقوات الكينية تحارب معها مليشيات محلية صومالية مثل أزانيا وأهل السنة والجماعة بالإضافة إلى بعض القوات الحكومية الصومالية التي رفعت العلمين الكيني والصومالي.

ويمكن لنا أن تتوقع بكل سهولة ويسر أن الغزو الكيني للصومال سوف يخلق ظروفا جديدة وذرائع على الأرض، ففي ظل الغياب الرسمي العربي والأفريقي ساندت بعض القوى الدولية مباشرة هذه الحملة العسكرية. ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى دور الضربات العسكرية الأميركية من خلال الطائرات من دون طيار التي تنطلق من أحد المطارات الإثيوبية، كما أن البحرية الفرنسية ساهمت بشكل أو بآخر في دعم الحملة الكينية. يعني ذلك أن ثمة توافقا دوليا على توجه المبادرات الخاصة بالصومال صوب دول الجوار الأفريقية وليس العربية.

وما يثير التفكير ويدعو إلى التأمل أن رد الفعل الصومالي الشعبي على الغزو الكيني لم يكن على شاكلة ما حدث في مواجهة الغزو الإثيوبي عام 2006. وربما يعزى ذلك إلى وجود جماعات صومالية كبيرة داخل الصومال وفي كينيا تنظر بكل ود وتقدير إلى الدور الكيني الذي وفر ملاذا آمنا لكثير من العائلات الصومالية، فضلا عن تعاطف هؤلاء الصوماليين مع كينيا في مواجهة تعديات الشباب المجاهدين.

ويبدو أن غياب المظاهرات الشعبية الواسعة المناوئة للغزو الكيني إنما تعكس في أحد أبعادها رفضا صوماليا لسياسات الشباب المجاهدين ومعتقداتهم الفكرية.

"
في ضوء انشغال المجتمعات العربية بترتيب أوضاعها الداخلية بعد ثورات الربيع العربي وتوابعها تحدث بالترافق عملية إعادة هندسة جيوإستراتيجية لمناطق الجوار العربي في القرن الأفريقي وشرق أفريقيا بشكل عام
"

ومن الواضح تماما أنه في ضوء انشغال المجتمعات العربية بترتيب أوضاعها الداخلية بعد ثورات الربيع العربي وتوابعها تحدث بالترافق عملية إعادة هندسة جيوإستراتيجية لمناطق الجوار العربي في القرن الأفريقي وشرق أفريقيا بشكل عام. ولعل أحد الملامح الرئيسية في ذلك انفصال السودان ودخول شماله في نزاعات مع مناطق التوتر في الولايات الانتقالية الثلاثة، ناهيك عن مناطق الشرق ودارفور بالإضافة إلى تفكيك الصومال إلى دويلات تدور في فلك قوى إقليمية غير عربية. وفوق ذلك أضحت إثيوبيا بدعم غربي ودولي واضح قوة إقليمية صاعدة يحسب لها ألف حساب.

لقد آن الأوان لعودة الوعي العربي والاهتمام بالتخطيط العلمي للمستقبل من خلال الوعي بحقيقة المشروعات الإقليمية والدولية الكبرى التي تحاول إعادة صياغة جوارنا الإقليمي بما يحقق مصالح وأهداف أطراف خارجية.

لقد أضحى الأمن العربي في امتداده الأفريقي مستباحا، وهو ما يهدد بشد دول الأطراف الكبرى مثل الصومال والسودان. إن القوات الكينية في الصومال تعطي الفرصة لقوات التدخل السريع التابعة لجماعة شرق أفريقيا بفرض إرادتها الإقليمية، بحيث تصبح هذه القوات نواة لقوات متعددة الجنسيات من داخل الإقليم بهدف مواجهة خطر الشباب وفرض سياسة الأمر الواقع داخل الصومال. فهل ننتظر طويلا حتى يتكرر نفس السيناريو في دولة عربية أخرى؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.