في رثاء السودان… والعرب

العنوان: في رثاء السودان... والعرب

 

أكبر ما يواجه العرب اليوم، كأمّة ٍ منهكة ٍ من التحديات، المتواصلة والتي لا تكاد تنقطع أو تتوقف، إنما هو التاريخ ُ، وليس أيّ قوة ٍ أخرى. إنه َيشْخَصُِ أمامهم بنفسه ِ، مثل َ معلم ٍ غاضب ٍ، أزعجه التلاميذ الكسالى الذين لم ينجزوا واجباتهم المنزلية أبدا ً، وكأنه ظل لوقت طويل يتكلم لغة لم يتعلموها قط، أو هم نسوا أبجديتها في زحام الصراع مع الأمم، ولكنه يعيد تذكيرهم الآن وحسب، وللمرة الأخيرة فقط، بالآية القرآنية العظيمة (تلك أمة قد خلت). ولأن الأمم التي لا تتعلم أبجديات التاريخ، تتفرق أيدي سبأ، أو ُتمزّق شرّ ممزق ٍ، فإنها تستحق المراثي لا أكثر

.

وفي التاسع من يناير القادم، حين ينشطر السودان شمالا ً وجنوبا ً، قد يستحق العرب ُ مرثية من هذا النوع، شرط أن تليق بمكانتهم في التاريخ، يصدح ُ فيها منشدٌ أعمى مثل هوميروس الإغريقي، بأن الأبطال يسقطون صرعى واحدا ً دون آخر، وفي ميدان دون حرب.

إنهم يتآكلون كما لو أن السمّ تغلغل في أجسادهم. وتلك، قصة أمّة، صنعها حلم محمد (صلى الله عليه وسلم)، ومزقها جشع وطمع واستهتار السلاطين. ولأن الأمم كما يخبرنا التاريخ، لها آجال مثل البشر، فقد تجد نفسها في أي وقت على قارعة طريق الموت والزوال، وكأنها أكلت زهرة اللوتس، ونسيت فكرة العودة إلى ديارها.

ولذلك، لن يكون التاسع من يناير يوما ً سودانيا ً استثنائيا ً، خاصا ً بالسودانيين وحدهم، وإنما هو يوم من أيام العرب الجديدة التي يُهزمون فيها دون قتال؛ وتتساقط فيها دولهم تحت أوهى الضربات. إن كل ما يقال في الأدبيات السياسية عن (التحديات) و(المخاطر) و(الصعاب) التي تواجه العرب، مثل تحدي الديمقراطية والتنمية إلخ.. إلخ- على أهميتها وأسئلتها الصعبة، ومع الاعتراف بشرعيتها كمطالب ملحّة، ليس هو جوهر التحدي، فهذه كلها تظل أقل راهنية من التحدي الأعظم الذي يشخص الآن بقامته، ويتأهب للمنازلة.

 إنه تحدي التاريخ الذي سيطل برأسه، ليقول لتلاميذه الذين لم يتعلموا الدرس، ها أنا ذا أيها الكسالى أمامكم في ساعة الامتحان. ولأنه ليس يوما ً سودانيا ً خاصا ً بأهل الجنوب السعداء بالانفصال، أو الشماليين التعساء الحائرين بما يتوجب فعله في اليوم التالي للانفصال، بل هو يوم عربي، ليست مسألة جنوب السودان فيه، سوى تفصيل صغير في مأساة شكسبيرية لأمة ٍ ُيعيدها الغرب ُ حتف أنفها إلى عصر ما قبل محمدص(صلى الله عليه وسلم)، قبائل َ متخاصمة حول الماء والنار والكلأ، فيما هي تغرق في النقاش حول أتفه التفاصيل؛ فإن التاريخ –صباح التاسع من يناير القادم- سوف يشخص ُ بكل جبروته، أمام أمة ٍ عزلاء إلا من ذكرياتها وأحلامها. وآنئذ ٍ ستبلغ المأساة ذروتها العاطفية. 

"
ولأن الأمم كما يخبرنا التاريخ، لها آجال مثل البشر، فقد تجد نفسها في أي وقت على قارعة طريق الموت والزوال، وكأنها أكلت زهرة اللوتس، ونسيت فكرة العودة إلى وديارها
"

ليس هذا التاريخ مجرد صفحات صفراء يكتبها منتصرون، كما يقال عادة في بعض المؤلفات الإنشائية وحسب، وإنما هو كائن حيّ له ُخدعه المرّوعة. ومن بين ُخدع التاريخ الكبرى، أن العرب وبعد نحو ستين عاما ً من النضال لتحطيم حدود سايكس-بيكو الاستعمارية، وبعد عقود طويلة من رفض فكرة التجزئة، ومواصلة التمسك بمشروع الوحدة العربية مع صعود دور عبد الناصر وأفكار ثورة يوليو 1952 ، وبعد سنوات طويلة وقوافل من الشهداء، وأطنان من الأدبيات السياسية الوحدوية كذلك، وكلها تنضح بالإصرار على تحقيق حلم الدولة-الأمة، وجدوا أنفسهم أخيرا ً، وهم يؤسسون دولا ً للأمة، بدلا ً من تأسيس دولة الأمة، ويقومون بحراسة حدود سايكس-بيكو نفسها، بدلا ً من تحطيمها، وكل ذلك بدعاوى مواجهة الأخطار.

لكن أكبر خدعة التي سنتعرّف عليها بعد التاسع من يناير القادم، أن العرب وبعد عقود من النضال، ضد الدولة القُطرية التجزيئية التي ضاقوا ذرعا ً بها، وبمصائبها وجرائمها وأخطائها وسخافاتها، يجدون أنفسهم مضطرّين أو مرغمين، وهم يحاولون عبثا ً حمايتها من التمزق، فهل فات الأوان؟ وبات التمزيق قدرا ً؟
 
لقد أصبح الصومال صومالات، والسودان في طريقه ليصبح سودانات، بينما يغرق اليمن في فوضى صراعات ودعوات انفصالية، لا تتردد في الحديث عن أربع يمنات. أما العراق، وهو يودع العقد الأول من الألفيّة الثالثة  مُضرّجا ً بالدم من رأسه حتى أخمص قدميه؛ فإنه يتجه إلى تحقيق ما نص عليه دستوره، فهو عراق فيدرالي، أي عراق معترف ٍ سلفا ً بمصيره، وتحوّله لا محالة إلى دويلات مدن، يتقاطر عليها السفراء والقناصل ومدراء الشركات الكبرى، حتى من دون المرور بروتوكوليا ً بالعاصمة. 

ومع ذلك، فذروة الخداع سوف تتكشّف، عندما يتيقن العرب أن مكائد السياسات الدولية، ستفرض عليهم أن يقبلوا، طائعين أو مرغمين، بحدود جديدة ما بعد سايكس-بيكو، أي أن يقبلوا بنشوء دول أخرى من قلب دولهم الوطنية؛ بل وأن يتعهدوا باحترام حدودها وتقديسها، وإنْ لزم الأمر ُ حراستها من أي اختراق ٍ أو تعديل. أي أن يمتنعوا عن مجرد التفكير بتكرار حماقة صدام حسين في الكويت، لأن حدود الكويت، وكل كويت عربية، هي من الآن فصاعدا ً حدود مقدسة لا يجوز تحت أي ظرف أو دعاوى، المسّ بها أو التفكير باجتيازها.

مثلا ً، إذا ما فكر العراقيون بعد عقود قليلة من الآن، بإعادة البصرة -وهي في طريقها لتصبح ولاية مستقلة عن العراق بكل تأكيد مثلها مثل جنوب السودان- فإن شبح حرب الخليج، سيطل برأسه ليعيد تذكرهم بالمأساة، فالعالم كله سيطلب من العراقيين آنئذ ٍ، احترام حدود البصرة، وكل بصرة عربية أخرى؟

فهل يتوجب على القوميين العرب، أن يواصلوا الترويج  لحلم الوحدة المستحيلة، أم أن عليهم بالضد من ذلك، أن يدافعوا عن سايكس-بيكو، فالأمة بما تبقى لديها من أسباب القوة، يمكنها أن تنخرط في معركة واقعية، بدلا ً من البقاء أسيرة حلم مستحيل؟ على الأرجح، سيكون على القوميين العرب بعد زلزال التاسع من يناير القادم (أي 11 سبتمبر السوداني) أن يواجهوا الواقع لا الحلم، وأن يركزوا نضالهم منذ الآن على مسألة الحفاظ -بكل الوسائل اللازمة- على الدولة الوطنية الراهنة، فهي أقصى ما يمكن الحصول عليه. إن واجب الدفاع عنها، مهما كان رأينا بها وبجرائم حكامها، هو دفاع عن أشلاء أمة فوق مسرح التاريخ، لها حرمة الميت، أن لا ينتهك ولا يدنس ولا يُمثل به. 

"
ذروة الخداع سوف تتكشّف، عندما يتيقن العرب أن مكائد السياسات الدولية، ستفرض عليهم أن يقبلوا، طائعين أو مرغمين، بحدود جديدة ما بعد سايكس-بيكو، أي أن يقبلوا بنشوء دول أخرى من قلب دولهم الوطنية؛ بل وأن يتعهدوا باحترام حدودها وتقديسها
"

ومنعا ً لكل وأي التباس، وهو شائع هذه الأيام في ثقافتنا، فهذه الدولة من وجهة نظري، دولة مجرمة، وهي انتهكت كرامات وأعراض أبناء الأمة، ووقعت في أخطاء لا يمكن غفرانها، لكن تحطيمها ليس هو الحل. لقد أصبح تمزيقها أو تحطيمها، أكبر مصدر من مصادر الخطر. وقد تكون الخطوة الأولى على طريق الحفاظ على ما تبقى، أن يعترف القوميون العرب أن حلم الوحدة كان مجرد حلم ليلة صيف، تراقصت فيه خيالات حالمين، حين لاحت لهم أمة منهكة لديها أهداف، ولكن ليس لديها ما يكفي الأدوات، وإن تجربة التاسع من يناير تستحق وقفة تأمل عميق في اليوم التالي للانفصال، فالمسألة أكبر بكثير من مسألة انفصال إقليم عن بلد، فهذا قد يحصل مع أمم أخرى، ولكنه لا يؤدي إلى زوالها، بينما يبدو، بالنسبة لنا، وكأنه افتتاحية من افتتاحيات بتهوفن الصاعقة، كل نغمة فيها تبعث الرهبة والشعور بالذل وبدنو الأجل.

العرب ُ اليوم، بكل دولهم وقواهم وجماعاتهم السياسية ومفكريهم في قلب مفارقة تاريخية ساخرة، كانت وما تزال متواصلة، يفرض ُ فيها منطق الصراع ومعادلاته، أن يقبلوا بخدع التاريخ بوصفها حقائق، فما تصوروه حدودا ً استعمارية، ليس سوى الحدود الطبيعية والقانونية التي يتوجب الدفاع عنها، وبحيث يصبح البقاء في إطارها وتكريسها، مطلبا ً وطنيا ً يتطلب القتال من أجله.

 
فهل يتوجب على المناضلين ضد الاستعمار القديم بالأمس، أن يدافعوا اليوم عمّا رسمه من حدود، وذلك في مواجهة استعمار جديد، لا يسمح لأمتهم حتى بمجرد العيش داخل دول؛ بل ويطلب منها، بدلا ً من حق العيش داخل دول وطنية حتى وإنْ كانت فاشلة، القبول بحدود بديلة، تجعل منها جماعات ما قبل مجتمعية، أي قبائل تعيش داخل دويلات مدن معزولة ما أشبهها بدويلات الأندلس قبل السقوط الأخير. 

بيد أن ما ُيعرض على العرب، قد يبدو أدهى وأمرّ، فحتى دويلات المدن هذه ، يمكن أن  تصبح حلما ً أمام بشاعة التقطيع والتمثيل بالجثة. إن ما يعرضه ُ كل تاسع من يناير قادم في بغداد أو صنعاء، يمكن أن يصبح ذات يوم، مطلبا  شعبيا ً عارما ً،ً أمام ما هو أقل بكثير منه، أي ما هو أقل من المدينة-الدولة. إنه الدويلة، والأقل منها الكانتون القبلي.

وأغرب ما في خدع التاريخ، وهي تتراءى أمام أنظارنا أن العرب الذين رفعوا رايات النضال ضد حدود سايكس-بيكو الاستعمارية، صار عليهم أن يناضلوا من أجل حدود جديدة وعادلة، للدويلات الناشئة، أي أن يقبعوا داخل تاريخ وأفكار ونظريات وسياسات، تفرض منطقها الوحيد: احترام الحدود، فعلى السودان مثلا ً أن يحترم لا خيار انفصال الجنوب عنه وحسب، وإنما أن يضمن قيام دولة جديدة، تأخذ منه مساحة تقارب مساحة فرنسا.

"
وعندما كان العرب يناضلون ضد المعاهدات الاستعمارية ويسعون إلى إلغائها، كانت هناك قوى عالمية جبارة، تسعى هي الأخرى لإلغاء هذه المعاهدات، ولكن من أجل إبرام معاهدات أخرى بديلة، تأخذ من العرب كل ما حصلوا عليه خلال النضال ضد الاستعمار القديم
"
وعلى العراق أن يواصل إعادة بناء نفسه كعراق فيدرالي، تحترم فيه سيادات "حكوماته المحلية" في الجنوب والغرب والشمال، وصولا ً إلى لحظة الفيدرالية أو الانفصال والتفكك، وأن يضمن هو الآخر، حق أقاليمه في كيانات جديدة، تأخذ منه جغرافيات، بعضها يعادل مساحة هولندا وبلجيكا معا ً ( تعادل مساحة السماوة-المثنى مثلا ً مساحة هولندا). فهل ثمة معنى اليوم، للنضال من أجل الوحدة العربية، أم أن الأولوية لمنع الانهيار الشامل؟ 

ما لم ينتبه إليه العرب في خضم صراعاتهم، دفاعا ً عن حدودهم المقدسة، أن صراعا ً محتدما ً كان يجري في العالم وبعيدا ًعن أنظارهم، محوره الحقيقي تحطيم المعاهدات الاستعمارية القديمة (فرساي وسايكس-بيكو ). وعندما كان العرب يناضلون ضد المعاهدات الاستعمارية ويسعون إلى إلغائها، كانت هناك قوى عالمية جبارة، تسعى هي الأخرى لإلغاء هذه المعاهدات، ولكن من أجل إبرام معاهدات أخرى بديلة، تأخذ من العرب كل ما حصلوا عليه خلال النضال ضد الاستعمار القديم.

ليس هذا قدر العرب وحدهم، بل هو قدر أمم أخرى. لقد تقلصّ الاتحاد السوفياتي (السابق) إلى روسيا الاتحادية، بينما اختفت يوغسلافيا وحلت محلها دولة صربيا الصغيرة. الفارق الوحيد، أن تلك أمم ما تزال صامدة في ميدان الصراع، بينما نحن نتداعى. حين خرجنا لقتال سايكس-بيكو، كانت هناك أمم تجلس إلى طاولة مفاوضات سريّة لتحطيمها، لا من أجلنا، بل من أجل إعادة استعبادنا.

ألا يستحق النموذج السوداني في التمزيق، مرثية إغريقية تليق بشعبٍ سعى بكل الوسائل للحفاظ على وجوده موحدّا ً، ولكن الأدوات لا الأهداف هي التي خذلته في نهاية المطاف. وداعا ً

                      

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.