يوم ضبطت الجزيرة وأخواتها نظم الخوف مرتبكة

يوم ضبطت الجزيرة نظم الخوف مرتبكة الكاتب: غازي دحمان
undefined


شكرا للجزيرة
الإنترنت الجندي المجهول
أوان الثورات الرخيصة

على مدار ثلاثة عقود من الزمن جرى في العالم العربي تعطيل الحراك السياسي، ليصار بعد ذلك إلى تفكيك مكوناته وإجهاض تعبيراته الواحدة تلو الأخرى، وقيل في وصف ذلك إن السياسة ذهبت إلى موات لا انبعاث بعده.

وجرى ذلك عبر تعاطي النخب التي ركبت السلطة في العالم العربي مع السياسة، باعتبارها وسيلة للهيمنة على البلاد والعباد، وأداة مشرعنة لنهب الثروات وتحويل الأوطان إلى مزارع لعائلات بعينها تلتهم منها ما تشاء، وتبقي الفتات لبقية الرعية، شرط إبداء الثناء والحمد!.

اليوم، ضبطت الفئات الحاكمة العربية وهي مرتبكة أمام أنماط جديدة من التعبير والنشاط السياسي، توفرها الموجة التكنولوجية الثالثة، التي أتاحت للأفراد أدوات ووسائل رخيصة، تمنحهم القدرة على أن تفلت من تحت سيطرة الحاكم ذهنيا وجسديا وفي نفس الآن، أتاحت أدوات هذه الموجة الفرصة لكشف فضائح هذه الفئات وعرتها من لبوس القداسة الذي طالما حاولت أن تتلفع به تحت شعارات زجلية، لقد تغيرت شروط اللعبة وبيئتها أيضا، إنه زمن الجزيرة وأخواتها.

"
أثبتت الجزيرة انتهاء عصر مؤسسات التعمية الإعلامية لحساب التوعية، وكذا انتهاء عهد الإعلام الأمني لمصلحة إعلام ملاحقة الفساد, إنه عصر تغطية الأحداث وليس التغطية عليها
"

شكرا للجزيرة

إذا كان لثوار تونس أن يشكروا قناة الجزيرة مرة لأنها كانت رفيقتهم في التطلع إلى الخلاص من ربقة الاستبداد، فللكثير من المهتمين بالشأن العربي أن يشكروها مرات، لأنها كانت وسيلتهم لفهم ما يدور في تونس.

ذلك أن التعرف على السياسة في تونس لم يكن متاحا، شأنها في ذلك شأن بقية الأنظمة العربية المغلقة التي تود أن يستقر في ذهن مواطنيها، حتى ولو بالتزوير والتزييف، أنها أنظمة وطنية من نمط خاص، مختبئة وراء أرقام ومؤشرات عن إنجازاتها التنموية والوطنية، دون إتاحة إمكانية التحقق من صدق هذه المؤشرات التي طالما كانت تزخر بطاقات تنازعية هائلة، فأين كل تلك الأوهام من واقع ينز جوعا وفقرا وتهميشا؟

إن التغطية الإخبارية التي قدمتها الجزيرة إلى الجمهور العربي والتونسي في شكل خاص ساهمت إلى حد كبير في تسريع وتيرة الأحداث التي توجت بمغادرة أول رئيس عربي لبلاده تحت وطأة الضغط الشعبي، كما أن تغطيتها تميزت بالموضوعية وشملت وجهات نظر مختلفة.

لقد أثبتت الجزيرة انتهاء عصر مؤسسات التعمية الإعلامية لحساب التوعية، وكذا انتهاء عهد الإعلام الأمني لمصلحة إعلام ملاحقة الفساد والتربص بالحكومات. إنه عصر تغطية الأحداث وليس التغطية عليها.

وقد أشار الباحث في جامعة جورج واشنطن "مارك لينك" إلى أنه يجب التركيز على التطور الذي طرأ على فضاء الإعلام العربي في العقد الماضي، حيث أصبح لبعض المحطات التلفزيونية، كقناة الجزيرة، دور تغييري في البيئة العربية للمعلومات، عن طريق تقويض قدرة الأنظمة الاستبدادية على السيطرة على مصادر المعلومات والصور والأفكار والآراء.

ورأى الباحث الأميركي أن الأحداث الضخمة في تونس التي نقلتها قناة الجزيرة بأسلوب خاص "عنت كلا من اللبنانيين والأردنيين واليمنيين والمصريين، خصوصا أن التغطية الإعلامية أعدت في السياق العربي الجامع بين هذه الشعوب العربية".

لقد أصبحت الجزيرة، على ما يقول موفق حرب، مؤسس فضائية الحرة "تصل اليوم إلى عقول العرب وقلوبهم أكثر من أي وسيلة أخرى في التاريخ العربي المعاصر، متفوقة بذلك على عبد الناصر وأم كلثوم. وهذا التأثير الكبير سلاح ذو حدين، إن أي وسيلة تتمتع بالنفوذ عينه، يمكن أن تستعمل لخدمة الإنسانية أو لدمارها والتأثير سلبا عليها. وهنا فإن الجزيرة وجدت الدور الذي يجب أن تستثمر فيه نفوذها الواسع، وهو نشر الحريات والدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطيات النابعة من المجتمعات في العالم العربي، في سبيل بناء وتحسين الإنسان العربي".

الإنترنت الجندي المجهول

"
ثورة تونس، ليست سوى واحدة من التطبيقات العملية لتأثيرات الموجة التقنية على مجتمعات صنعت أنماطا من الاستجابات السياسية الجمعية، لم يلحظها الحاكم ولا أجهزته
"

في موازاة الدور الكبير للجزيرة، أدت المواقع الإلكترونية دورا هاما في نقل تطورات "ثورة الياسمين" في تونس إلى بقية الدول العربية والإسلامية والعالم، حيث ساهم مستخدمو شبكة الإنترنت، التي شهدت "حربا إلكترونية" بين أنصار الثورة الشعبية وأجهزة النظام، استخدم فيها الطرف الأول سلاح ضرب المواقع الرسمية التابعة للحكومة التونسية، فيما لجأ الطرف الثاني إلى كبح حرية التعبير وملاحقة مدونات المعارضين ومواقعهم ورسائلهم الإلكترونية وقرصنتها.

ولم يبتعد مراقبو الأزمة في تونس عن رصد كل جديد على ساحة "المعارك الإلكترونية". وقد وصف البعض دور الإنترنت بالمحرك الأساسي في التعبئة الجماهيرية لحركة الاحتجاج التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي.

والحال فإن ثورة تونس ليست سوى واحدة من التطبيقات العملية لتأثيرات الموجة التقنية على مجتمعات بدا أن تعرضها لهذه الموجة جعلها تصنع أنماطا من الاستجابات السياسية الجمعية، لم يلحظها الحاكم ولا أجهزته، وربما لم يستطع ضبطها وإدارتها، فهي تتم في فضاءات تقع خارج قدرته على السيطرة عليها، هناك حيث يمكن للفرد أن يتحول إلى رقم أو أي شيء آخر خارج حدود جسده، وهل يرى السجان غير الجسد ليضعه في قفص السجن؟ وهل يستطيع حاكم أن يعتقل رقما!

لقد أثبتت ثورة تونس أن وسائل الاتصالات الحديثة التي وفرها عالم الإنترنت، (الفيسبوك، واليوتيوب، والتويتر) باتت الحزب الأكبر والأرخص تكلفة للأفراد في العالم العربي، والمنتدى الذي يمكن الجميع من المشاركة في إحداث التغييرات الاجتماعية والسياسية المطلوبة والمرغوبة في الآن نفسه، هذا الحزب الذي لن يحتاج لمراعاة القوانين الحزبية وتعقيداتها في العالم العربي، ولا يتطلب اتباع أيديولوجيات بعينها، ولا حاجة لعمليات تأطير وقولبة، أنت كما أنت برومانطيقيتك وبأفكارك العفوية التي سيوضبها حتما انخراطك في هذه الآليات الجديدة من التواصل.

أوان الثورات الرخيصة

"
الاكتشاف الأكبر الذي حققته ثورة تونس تمثل بتراجع الأثمان الحقيقية للثورات، فمن كان يتصور أن ثورة قد تحصل في عالمنا العربي ولن يذهب ضحيتها مئات الألوف، إن لم يكن أكثر؟
"

لعل الاكتشاف الأكبر الذي حققته ثورة تونس تمثل بتراجع الأثمان الحقيقية للثورات، فمن كان يتصور أن ثورة قد تحصل في عالمنا العربي ولن يذهب ضحيتها مئات الألوف، إن لم يكن أكثر؟

ولعل هذا الإدراك هو السبب الأول في تعطيل عملية الحراك العربي وحالة السكونية التي عاشتها المجتمعات العربية، لقد بات العالم وعلى الهواء مباشرة يعد كل حالة قتل يقدم عليها الحاكم، وكل قتيل يقلل فرص نجاة الحاكم.

ألم تضع ثورة تونس رئيس البلاد أمام خيارين أحلاهما مر، إما أن تخضع لأجهزتك وتقتل أكثر وتقلل فرص نجاتك، وإما أن تفر وينفرط عقد النظام بأقل الأثمان عليك وعلينا…إنه أوان الثورات الرخيصة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.