المشروع الوطني الفلسطيني بين مفاعيل الأزمة والتفكك

ماجد كيالي - عنوان المقال: المشروع الوطني الفلسطيني بين مفاعيل الأزمة والتفكك



– تدهور البنى السياسية الجمعية

– نفاد خياري التسوية والمقاومة
– أفول المشروع الوطني
– مشكلات شاملة وحلول قاصرة

لا تسير المشاريع الوطنية من النوع التاريخي في اتجاه مستقيم، فمن البديهي أن تواجه هذه المشاريع عددا من المطبّات والمنعطفات ومسارات الصعود والهبوط أو الأزمات والانتكاسات والتراجع (بحسب المصطلحات السياسية)، كما يمكن أن تشهد هزائم وتصدعات وانهيارات.

ولعل الحقيقة المرة التي ينبغي الاعتراف بها صراحة اليوم بجرأة ودون مواربة، هي أن حال الساحة الفلسطينية، على صعيد القضية والشعب والحركة الوطنية، تكاد تقارب حد الانهيار أو التفككّ الذي يشمل بنى هذه الساحة أي المنظمة والسلطة والفصائل، بدليل تراجع مكانتها التأطيرية والتمثيلية والقيادية في المجتمع، وبواقع التضاؤل الكبير في دورها، وخبوّ قدرتها على المضي في مشروعها الوطني، إن بالنسبة لبناء الكيان الفلسطيني أو بالنسبة لمشروعها كحركة تحرر وطني، في مواجهة مختلف تجليات المشروع الإسرائيلي.


تدهور البنى السياسية الجمعية
ومن مظاهر التآكل والتفكك وعلامات الانهيار الحاصلة يمكن أن نذكر حال الاختلاف والاقتتال والانقسام في الساحة الفلسطينية، وغياب الإجماع الوطني، وتهميش المؤسسات الشرعية، وانحسار المجال المجتمعي للعمل السياسي الفلسطيني، وانحصاره في مجرد طبقة سياسية مهيمنة (في الضفة وفي غزة وفي الخارج).

"
لا تستطيع القيادة (أي قيادة المنظمة والسلطة وفتح) الادعاء بنجاح مشروعها التسووي التفاوضي، ومع ذلك فهي تصر على المضي فيه إلى النهاية باعتباره الخيار الوحيد المتاح لها
"

وقد بينت الانتخابات التشريعية عام 2006 ضمور الفصائل، وتمحور الاستقطاب الشعبي لصالح فتح وحماس، الأولى بحكم دورها الوطني التاريخي ونفوذها السلطوي، والثانية بحكم خطابها الديني وشبكة الجمعيات والخدمات التي تقدمها في المجتمع الفلسطيني.

إضافة إلى ذلك فقد تلاشى تماما دور المنظمات الشعبية الجمعية، فلم نعد نسمع عن اتحادات الطلاب والعمال والكتّاب والمرأة، وهي اتحادات لعبت دورا كبيرا في الستينيات والسبعينيات في نهوض الوضع الفلسطيني وتشكيل هوية الفلسطينيين، وشكلت إطارا وسطا بين المجتمع المدني والوسط السياسي.

أيضا لم تعد ثمة إطارات ومنظمات تشريعية، فقد غاب تماما دور المجلس الوطني (ومعه المجلس المركزي)، بعد أن تآكل دور المنظمة لصالح السلطة، من دون أن تنجح هذه في إثبات ذاتها كمؤسسة جامعة للفلسطينيين، حتى داخل الأرض المحتلة، على الأقل.

فالمجلس التشريعي لا يجتمع لأسباب ذاتية وموضوعية، ومؤسسات السلطة تعمل كمؤسسات فصائل.

وعلى الصعيد الوطني العام لم يعد ثمة وجود لمؤسسات جامعة من مثل مركز الأبحاث ومركز التخطيط.

وما يفاقم خطورة كل ما تقدم اعتماد (أو ارتهان) الحركة الوطنية الفلسطينية (في مواردها السياسية والمالية) على الخارج وعلى المعطيات العربية والدولية، أكثر من اعتمادها على شعبها.


نفاد خياري التسوية والمقاومة
ومن مظاهر التآكل والتدهور والتفكك أيضا، يمكن أن نذكر انسداد الأفق أمام التسوية والمقاومة، أمام السلطة والمعارضة، أمام مشروع التحرير وأمام مشروع الدولة في الضفة والقطاع، أمام فتح وأمام حماس.

كما يمكن أن نذكر انعدام البدائل السياسية والخيارات الوطنية في الساحة الفلسطينية لدى مختلف الأطراف على تباينها لدى دعاة التسوية ودعاة المقاومة.

هكذا لا تستطيع القيادة (أي قيادة المنظمة والسلطة وفتح) الادعاء بنجاح مشروعها التسووي التفاوضي، ومع ذلك فهي تصر على المضي فيه إلى النهاية باعتباره الخيار الوحيد المتاح لها.

ولا يمكن تفسير ذلك فقط بارتهان هذه القيادة للمعطيات الدولية والإقليمية والعربية التي لا تسمح أصلا بمغادرة المعادلة التفاوضية، ولا بحكم أن هذه القيادة بوضعيتها كسلطة باتت معنية بتأمين الموارد اللازمة لتأمين مقومات الحياة في الإقليم الذي تديره، (وهي موارد تأتي أساسا مما تسمى "الدول المانحة" أو "الدول الراعية لعملية السلام")، وإنما يمكن تفسير ذلك أيضا بواقع تكوّن فئات معيّنة في الطبقة السياسية السائدة تستمد مصالحها وامتيازاتها ومكانتها من استمرار العملية التفاوضية على علاتها، لا سيما في ظروف ترهل الحركة الوطنية الفلسطينية، وتحولها عن طبيعتها كحركة تحرر وطني إلى سلطة تحت الاحتلال.

مقابل ذلك فإن وضع تيار المقاومة ليس أفضل حالا، ذلك أن انسداد أفق التسوية وتراجع خيار حل الدولتين لا يعني انفتاح خيار المقاومة، بدليل تدهور قدرة الحركة الوطنية الفلسطينية على مواجهة عدوها في مجال المقاومة المسلحة وفي مجال المقاومة الشعبية، بواقع وقف المقاومة في القطاع كما في الضفة.

ويجدر بنا لفت الانتباه هنا إلى حقيقة أساسية وهي أن انحسار القدرة على المقاومة المسلحة حصل بسبب التصريف غير المحسوب للطاقة، وتخلف الإدارة، والمزايدات الفصائلية، وعدم الربط بين هذا الشكل من المقاومة ومستوى قدرة الشعب على التحمل، أكثر مما حصل كنتيجة للإجراءات والردود الإسرائيلية على قسوتها.

وهذا ما يفسر أن الإسرائيليين باتوا يرون عام 2009 من أهدأ الأعوام التي مرت عليهم، وأن 2010 لم يشهد سوى عمليات محدودة ومتفرقة من ضمنها العملية التي جاءت قبيل استئناف المفاوضات.

ومثلا، ففي حين أن عام 2002 شهد مصرع 452 إسرائيليا، فقد تناقص هذا العدد بشكل حاد في عام 2003 الذي شهد مصرع حوالي 208 من الإسرائيليين، وظل هذا العدد يتناقص بصورة حادة حتى وصل إلى 30 عام 2006، و13 عام 2007، و36 عام 2008، و11 عام 2009 (هآرتس، 21/12/2009).


"
مثلما أن القيادة التي تنتهج خيار المفاوضة غير قادرة على فرض رؤيتها على إسرائيل بشأن التسوية، فإن المعارضة التي ناهضت المفاوضة والتسوية غير قادرة أيضا على مواصلة خيارها بالمقاومة المسلحة، لا من الداخل ولا من الخارج
"

أفول المشروع الوطني
ويستنتج من ذلك أن المشروع الوطني الفلسطيني لم يستطع أن يطور إمكانياته أو يوسع إنجازاته (لا بالتسوية ولا بالمقاومة)، وليس ذلك فحسب، بل إنه لم يستطع وقف التآكل والضمور في بناه على الأقل.

ولم يخفق المشروع الفلسطيني في مواجهة عدوه فقط، وإنما أخفق حتى في إدارة أوضاعه الداخلية على مستوى الفصائل والكيان وعلى مستوى العلاقة مع المجتمع.

بل إن هذا المشروع خسر المنظمة (منظمة التحرير) ولم يربح الكيان في الضفة والقطاع، بحكم واقع الانقسام وبحكم سيادة علاقات الفساد والهيمنة على المجتمع، تماما مثلما فقد طابعه كحركة تحرر ومقاومة، بدون أن يربح التسوية ولا السلطة (في ظل علاقات الهيمنة والارتهان للسياسات الإسرائيلية).

بمعنى أن ما يجري في الساحة الفلسطينية إنما هو تحصيل حاصل لحال انعدام الفاعلية وغياب المجال المجتمعي وأفول مشروع التحرر الوطني لدى القيادة ولدى المعارضة في آن معا.

وبالمحصلة، فإذا كانت القيادة الفلسطينية (وهي قيادة المنظمة وفتح والسلطة) تسير نحو الخيار التفاوضي فإن الفصائل المعارضة لا تملك شيئا تستطيع تقديمه في مواجهة هذا الخيار، لا على مستوى تفعيل دورها في الصراع ضد إسرائيل، ولا بالنسبة لتعزيز مكانتها لدى شعبها، ولا على مستوى تقديم نموذج أفضل لإدارة أوضاع الشعب الفلسطيني.

ومثلما أن القيادة التي تنتهج خيار المفاوضة غير قادرة على فرض رؤيتها على إسرائيل بشأن التسوية، فإن المعارضة التي ناهضت المفاوضة والتسوية غير قادرة أيضا على مواصلة خيارها بالمقاومة المسلحة، لا من الداخل ولا من الخارج، لا من الضفة ولا من غزة، مما يفيد أن المشروعين المذكورين لا يمتلكان بنفس الدرجة لا الإمكانيات ولا القدرة على التحقق، ولو بالمعنى النسبي.

ومن البديهي في ظل سيادة حال العجز في هذا الخيار أو ذاك، وعلى ضوء حال الانقسام المجانية السائدة، أن تبدو الساحة الفلسطينية في حالة ضياع، بدليل غياب المجال المجتمعي الفلسطيني، وبدليل أن الفلسطينيين لم يخرجوا في مظاهرات تندد بطريق المفاوضة لصالح الكفاح المسلح، ولا في مظاهرات تدعو للمقاومة بالضد من المفاوضة، لا في الضفة ولا في غزة، ولا في مخيمات سوريا ولا في مخيمات لبنان ولا في مخيمات الأردن، لا ضد فتح ولا ضد حماس!

ولعل ذلك كله، وضمنه لامبالاة الفلسطينيين (إزاء حال فصائلهم) يؤذن بتجاوز الوضع الفلسطيني مرحلة الأزمة، لكن ربما إلى مرحلة التشظي والانهيار.


مشكلات شاملة وحلول قاصرة
ومشكلة القوى الفاعلة والمقررة في هذه الساحة أنها ما زالت غير مدركة تماما للتراجع الخطير الذي وصلت إليه ببناها ومكانتها وقدراتها، أو أنها تتجاهل ذلك عن عمد، في وقت يبدو فيه الوصول إلى مثل هذا الإدراك بمثابة الخطوة الأولى اللازمة للحدّ من هذا المسار، وتاليا تجاوزه.

وأنكى من ذلك أن هذه القوى تبدو مصرة على الاستمرار بنفس العقليات والعلاقات وطرق العمل، التي أسهمت في وصولها إلى ما وصلت إليه.

هكذا فإن مجرد الحديث عن استعادة الوحدة الوطنية، أو توحيد شطري الكيان الفلسطيني (الضفة وغزة)، وتفعيل أطر منظمة التحرير، ومغادرة عملية التسوية، لم تعد على أهميتها تكفي لإعادة استنهاض حال الفلسطينيين.

ومثلا، فإن الوحدة الوطنية باتت تعني في الأغلب ووفق المفاهيم السائدة مجرد الحفاظ على النظام السياسي القديم، أي نظام المحاصة (الكوتا) الفصائلي بغضّ النظر عن مكانة الفصائل في المجتمع، ودورها في العملية الوطنية وفي مواجهة إسرائيل.

"
ثمة عوامل موضوعية خارجية أسهمت في تدهور حال المشروع الوطني الفلسطيني، من ضمنها الخلل الفادح في موازين القوى لصالح إسرائيل
"

وبالنسبة لاستعادة وحدة الكيان الفلسطيني فقد باتت تعني إعادة اللحمة بين قطاع غزة والضفة الغربية، دون النظر إلى الأسباب التي أدت إلى حصول ما حصل في غزة، ومسؤولية كل من حماس وفتح عن ذلك، بما في ذلك مسؤوليتهما عن استخدام القوة في حل المشكلات الداخلية، واحتكار القرارات ومصادرة دور المؤسسات وتغييب دور الشعب.

وبشأن تفعيل أطر منظمة التحرير، فبغض النظر عن مدى ملاءمة الأوضاع الفلسطينية والمعطيات العربية والدولية لذلك، بعد كل التغيرات الحاصلة، فإن القصد منها بات يفترض مجرد إعادة تعويم أطر المنظمة، التي لم تستطع، حتى في مرحلة "النهوض" السابقة، القيام بدورها السياسي بشكل بنّاء وفعّال، بحكم طريقة بناها وتخلّف علاقاتها والهيمنة الفصائلية عليها.

أما بالنسبة لمغادرة عملية التسوية، فلا تبدو الأوضاع مهيأة لمثل هذه النقلة، وليس ثمة بديل سياسي يجري الاشتغال عليه، وقد شهدنا أن حماس حينما باتت في قيادة السلطة تمسكت بالحكومة (المنبثقة عن اتفاقات أوسلو)، وأنها عندما هيمنت على قطاع غزة نحت نحو التهدئة (أي وقف المقاومة)، وباتت تتجه نحو القبول بهدنة طويلة المدى، وقيام دولة فلسطينية في الضفة والقطاع.

أيضا، وفي تفاصيل البحث عن كيفية إخراج الوضع الفلسطيني من الأزمة الناشبة فيه، بدا أن ثمة من يرى ضرورة عقد مجلس وطني، أو انتخاب مجلس وطني جديد. وثمة من يراهن على توافق فتح وحماس، وتشكيل حكومة "وحدة وطنية"، إلى غير ذلك من العمليات التي يمكنها أن تسهم بإنعاش الوضع الفلسطيني واستعادة بعض الاستقرار له، ولكنها لا تكفي وحدها لوضع حد لحال الانهيار والتدهور فيه.

وللإنصاف، فإنه يجدر بنا التنويه هنا إلى أن ثمة عوامل موضوعية خارجية أيضا أسهمت في تدهور حال المشروع الوطني الفلسطيني، من ضمنها الخلل الفادح في موازين القوى لصالح إسرائيل، والتدخل (أو التوظيف) العربي والدولي في القضية الفلسطينية، والطابع الإحلالي الإجلائي العنصري للمشروع الإسرائيلي، وحال التشتت الفلسطيني، وخضوع الفلسطينيين لأنظمة سياسية واقتصادية متباينة.

من كل ذلك يمكن القول إن الحركة الوطنية الفلسطينية تنازع في الطور الأخير للمرحلة الثانية من تاريخها، التي بدأت من الانتفاضة الأولى (1987-1993)، وأدت إلى انتقال مركز العمل الفلسطيني إلى الداخل، وعقد اتفاق أوسلو 1993 وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية.

بمعنى أن هذه الحركة تراوح حاليا في مرحلة انتقالية، بين نهاية مرحلة ثانية، بدأت مع فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية 2006 وهيمنتها الأحادية على قطاع غزة 2007، وبين إمكان تبلور مرحلة ثالثة جديدة.

لكن لا أحد يعلم هل تشكل هذه المرحلة امتدادا للمرحلة السابقة أم قطيعة معها؟ كما لا يستطيع أحد التكهن -على ضوء المعطيات السلبية الراهنة- هل الساحة الفلسطينية ستشهد مرحلة ثالثة أم أنها ستشهد مرحلة غيبوبة أو موات للحركة الوطنية على غرار ما جرى بعد النكبة (1948-1965)؟

على أية حال فإن هذا أو ذاك مرهون بمستوى وطبيعة ما تدركه وما تفعله القوى الفلسطينية الفاعلة، ولو أن كل المعطيات لا تبشّر بتوجهات إيجابية ومسؤولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.