يسألونك عن دويلة هيران

الكاتب: مهدي حاشي



– منطقة إستراتيجية

– عقبات أمام الدويلة
– مؤشر خطير

أعلن ميلاد دويلة "هيران" في أغسطس/آب الماضي في العاصمة الكينية بحضور العديد من الشخصيات السياسية الصومالية والأجنبية، لتضيف إلى المشهد الصومالي المتأزم بعدا جديدا من التعقيد. فهل لهذه الدويلة الوليدة فرصة لترى النور، أم أنها ليست أكثر من فرقعة إعلامية يرغب أصحابها في إيجاد موطئ قدم في خريطة السياسة الصومالية الملتهبة للظفر بأي شيء؟


منطقة إستراتيجية
تتمتع محافظة هيران المزمع قيام الدويلة فيها بأهمية إستراتيجية كبيرة في الصومال بحكم موقعها الذي يربط المناطق الوسطى بالمناطق الجنوبية، بما فيها العاصمة الصومالية مقديشو من جهة، وبإقليم الصومال الغربي (أوغادين) الذي تسيطر عليه إثيوبيا من جهة أخرى.

"
من يسيطر على هيران يتحكم إلى حد كبير في معظم التحركات التجارية والعسكرية في الصومال، وهذا سر المحاولات الإثيوبية المتكررة للتوغل في مدينة بلدوين
"

لذا فإن من يسيطر على هذه المنطقة يتحكم إلى حد كبير في معظم التحركات التجارية والعسكرية في الصومال، وهذا سر المحاولات الإثيوبية المتكررة للتوغل في مدينة بلدوين وتقاطع كلبير القريب منها.

وكانت بلدوين أولى المناطق التي وصلت إليها إثيوبيا أثناء اجتياحها للصومال عام 2006 للإطاحة بنظام المحاكم الإسلامية، مما أدى إلى انهيارها وانفراط عقدها بشكل سريع خلال أيام قليلة.

لكن إستراتيجية المنطقة جلبت عليها الكثير من المتاعب، حيث ظلت ساحة للصراع بين الفرقاء الصوماليين المتقاتلين.

كما تعاقب على السيطرة على المحافظة خلال السنوات القليلة الماضية كل ألوان الطيف من المتصارعين في الساحة الصومالية مثل الحكومة الانتقالية والمليشيات القبلية وأهل السنة والجماعة والحزب الإسلامي والقوات الإثيوبية، حتى آلت مؤخرا إلى حركة شباب المجاهدين التي لا تزال تحكم قبضتها على هيران.

وكان أكثر الحوادث التي عرفتها عاصمة هيران مقتل وزير الأمن في الحكومة الصومالية آدم حاشي في عملية تبنتها حركة شباب المجاهدين وراح ضحيتها العشرات من وجهاء المحافظة إلى جانب عدد من المسؤولين الحكوميين المدنيين والعسكريين.


عقبات أمام الدويلة
معظم المراقبين الصوماليين لا يرون أي فرصة لنجاح دويلة هيران التي ولدت ميتة في العاصمة الكينية نيروبي، وذلك لأسباب عديدة:

أولها– الزعماء الذين أعلنوا الدويلة بقيادة الدكتور محمود عبدي لا يملكون من الأمر شيئا إذ لا وجود لهم على أرض الواقع، وإعلانهم ليس أكثر من مناورة إعلامية لا تغير من المعادلة القائمة على الأرض شيئا.

يضاف إلى ذلك أنه لم يعرف لهم أي نشاط عسكري في المنطقة، ولم يكونوا في يوم من الأيام ضمن اللاعبين في الصراع الجاري بمحافظة هيران. فالمنطقة تسيطر عليها حركة شباب المجاهدين بشكل كامل، ومن المستبعد في الأجل القريب أن يتمكن معلنو الدولة الجديدة الوصول إليها بقدراتهم الذاتية.

ثانيها– هناك معارضة قوية من قبل العشائر القاطنة في المحافظة، فقد أعلنت عشيرة "غالجعل" رفضها للدويلة الجديدة لا حبا في وحدة الصومال، بل لكون مؤسسيها من العشائر المنافسة، بدليل أن القبائل المعترضة سبق أن أعلنت هي الأخرى إقامة كيانات تعبر عن نفس مضامين الزعماء الجدد لهيران.

جدير بالإشارة أن الميلاد الجديد ليس الأول من نوعه، بل سبقته محاولات أخرى في العام الجاري 2010 لتشكيل إقليم هيران، لكنها لم تحظ بالقدر الهائل من التغطية الإعلامية التي توفرت للزعيم الجديد محمود عبدي.

ففي 23 مايو/أيار الماضي تم الإعلان في لندن عن إقامة "هيران لاند" برئاسة مختار شيخ عبد الرزاق، وفي 17 يونيو/حزيران الماضي تأسست أيضا في لندن دولة ما سمي "هيران وميدلاند" برئاسة المهندس عبد القادر جرابي الذي وعد بأن يذهب إلى المحافظة عقب الإعلان عن تنصيب نفسه رئيسا لهيران. ولا أعتقد أن الزعيم الجديد سيكون أوفر حظا من زميليه السابقين.

ومن يزور الشبكة العنكبوتية يرى العجب حول اللغط والمتناطحين على هذه المساحة الصغيرة من الصومال ذات الأهمية الإستراتيجية، ولكلٍّ مؤيدوه، مما يدل على أن إعلان نيروبي لم يكن أكثر من مجرد دعاية هزيلة.

ثالثها– هناك بعض الزعماء المعروفين الذين كانوا جزءا من الصراع في المنطقة أبدوا معارضتهم للنظام الجديد، فقد رفض يوسف دبكيد -وهو رئيس سابق لمدينة بلدوين- ما قام به عبدي من إعلان الدولة. والحقيقة أن يوسف دبكيد أهم شخصية موجودة في الساحة، وهو موجود في إثيوبيا وله مليشيات مدربة من قبل النظام الإثيوبي كما هو معلن.

"
ما يسمى المجتمع الدولي ومنظماته الإقليمية التي تسترزق بالصومال، هم جزء من المعضلة ولا يريدون حلا لهذا البلد الممزق لأن وظيفتهم تنتهي بانتهاء الفوضى العارمة في الصومال
"

الفرصة الوحيدة أمام الزعيم الجديد لهيران هو أن تتدخل إثيوبيا لإزاحة حركة الشباب، وهو أمر ممكن ولا يحتاج إلى كثير عناء، فهي موجودة بالقرب منها وسبق أن طردت الإسلاميين من بلدوين ببساطة، لكن حلفاءها لم يستطيعوا الاحتفاظ بها.

غير أن هذا مرتبط بحسابات إقليمية معقدة وتوفير غطاء دولي يسدد لأديس أبابا فاتورة حربها، خاصة أن الجارة منزعجة من الاستئثار الأوغندي بريع الحروب الجارية في الصومال.

والدكتور عبدي الذي يقيم في بريطانيا كان عضوا في تحالف لزعماء الحرب في الصومال، وشارك في العديد من مؤتمرات المصالحة في رحلة قادته إلى المحاكم الإسلامية ثم إلى تحالف التحرير. وبعد الخلاف الذي نشب بين زعيمي التحالف شريف شيخ أحمد والشيخ حسن طاهر أويس، انتقل إلى جيبوتي لكنه لم يفلح في الحصول على منصب.

وبالتالي فإن المراقبين لا يعتبرون زعيم الولاية الجديدة أكثر من انتهازي يبحث عن دور في الخريطة السياسية الصومالية المتشعبة والمليئة بالمتنافسين على حطام البلد المنكوب، وأن دولته المزعومة لن ترى النور.


مؤشر خطير
يبدو أن الدويلة الجديدة محاكاة لما هو موجود على الأرض من كنتونات موزعة على أساس قبلي كما هو الحال في جمهورية "أرض الصومال" التي أعلنت انفصالها من جانب واحد وولاية "بونتلاند" التي لها نظامها الخاص، وغيرهما من الأسماء التي تعج بها الساحة الصومالية حيث تعد كل عشيرة لإقامة دويلتها الخاصة.

ومع أنه لا مقارنة بين محافظة إقليم هيران وبين بونتلاند وأرض الصومال، فإن هذه الخطوة بحد ذاتها مؤشر خطير جدا ينذر بتفتيت الصومال إلى مجاميع عشائرية تتحكم فيها القوى الإقليمية، خاصة أنها تأتي في وقت تشهد فيه العاصمة مقديشو معارك دامية لا أحد يستطيع التنبؤ بما ستؤول إليه.

وإنشاء الكيانات المستقلة أمر يلقى الدعم من قبل جهات دولية وإقليمية نافذة لا مصلحة لها في استقرار الصومال، وكل ما يهمها هو استمرار نفوذها وعملها الذي يدر عليها الملايين على حساب الشعب المنكوب، وبالتالي التحكم في قرارات ومصير البلد برمته.

وخير مثال على ذالك ما يجري الآن من الجدل الصاخب بين أقطاب الحكومة واتهام بعض أعضاء البرلمان برنامج الأمم المتحدة للتنمية "بمصادرة كل ما يتعلق بصياغة الدستور وطباعته". وليس سرا في الصومال أن المنظمات الدولية هي صاحبة القرار في طول البلاد وعرضها.

وفي رأيي الشخصي فإن ما يسمى بالمجتمع الدولي ومنظماته الإقليمية التي تسترزق بالصومال، جزء من المعضلة ولا يريدون حلا لهذا البلد الممزق، لأن وظيفتهم تنتهي بانتهاء الفوضى العارمة في الصومال.

لذا تراهم يشجعون كل ما من شأنه إعاقة الوصول إلى حكومة فاعلة ومركزية، وهذا هو سر تحكمهم في كل شاردة وواردة في الصومال بما فيها رواتب وأرزاق السياسيين الصوماليين دون استثناء.

مؤيدو إقامة الدويلات المستقلة يقولون إنهم يريدون المساهمة في حل الأزمة المستعصية في البلاد عبر إنشاء إدارات محلية شبه مستقلة للالتفاف على معضلة العاصمة المزمنة، لكنهم في الواقع يهدفون إلى تقطيع أوصال هذا البلد الممزق وإنشاء هياكل قبلية لا حول لها ولا قوة ليتم توظيفهم حسب المخططات الجديدة المزمع تطبيقها في الصومال.

وعلاوة على ذلك فإن هذه الخطوة محفوفة بالمخاطر ويمكن أن تشكل "الدويلات العشائرية" قنبلة موقوتة ستنفجر في أي لحظة وتؤدي في النهاية إلى إدخال البلاد في دوامة جديدة من الاحتراب والصراع بين العشائر القاطنة في كل محافظة كما هو الآن الجدل الدائر في هيران نفسها.

وليس الصراع بين أرض الصومال وبونتلاند -وهما اللتان يضرب بهما المثل في نجاح الإدارات المستقلة- ببعيد عنا، حيث خاضتا جولات من المعارك الدامية على خلفية الصراع على محافظتي سول وسناج، وما زالتا في حكم دولتين في حالة حرب.

والسبب أن المحافظتين المتنازع عليهما تنتميان جغرافيا إلى أرض الصومال بحكم كونهما جزءا من المستعمرة البريطانية، لكنهما عشائريا تنحدران من القبائل القاطنة في بونتلاند، والانتماء إلى القبيلة أصبح السمة التي تطبع صومال ما بعد انهيار الحكومة المركزية.

والشيء نفسه ينطبق على بونتلاند وإدارة جلمدغ اللتين تتقاسمان محافظة مدغ على أساس عشائري بحت، وكثيرا ما ينشب الصراع بينهما لأتفه الأسباب، في واقع شديد التوتر وتغذيه ذاكرة من الصراع المرير بين القبائل.

وحتى لو افترضنا جدلا جدوى إقامة كيانات شبه مستقلة، فستواجهنا معضلة أكبر هي أن اللعبة الجارية في الصومال لا تخضع لأي قواعد قانونية أو دستورية معروفة في العالم، وإنما لمزاج عشائري وشخصي ضيق سيدخلنا في متاهات لا متناهية.

"
إنشاء الكيانات المستقلة لن يكون حلا لمعضلة الصومال، بل ربما سيفضي إلى دوامة جديدة من التناحر
"

هبْ أن دويلة هيران التي تقل مساحتها عن 5% من مساحة جمهورية الصومال (دون المناطق الخاضعة لإثيوبيا أو كينيا)، تريد إغلاق حدودها فماذا سيحصل؟ علما بأن غيرها من المحافظات تدير شؤونها -حتى السياسية والدفاعية- دون مشورة أحد، بينما تقوقعت الحكومة الانتقالية في عدة أمتار من مقديشو تصارع للبقاء على قيد الحياة وبحماية أجنبية.

لقد كان من المستغرب أن يحضر ويطبل في حفل لإقامة هذا الكيان الجديد سياسيون مرموقون يعرفون قبل غيرهم أن سيادة الرئيس المفترض لا سلطة له لا من قريب ولا من بعيد على شبر من هيران.

إذاً فالمطلوب -كما أعلن عبدي- المزيد من إراقة الدماء وصب الزيت على النار وإدامة الحروب العبثية.

لكن الأكثر خطورة في مسرحية إعلان دويلة هيران ما صرح به القادة الجدد دون مواربة بأنهم يتمتعون بعلاقة وثيقة مع النظام الإثيوبي القريب من حدود بلدوين ويتلقون الدعم منه.

وبغض النظر عن صحة هذا الادعاء من عدمه، فإنه يشير -بما لا يدع مجالا للشك- إلى المستوى الذي وصل إليه السياسيون الصوماليون الذين لا يتورعون عن قرع كل الأبواب للوصول إلى مآربهم الشخصية ولو على حساب البلد.

فالزعيم الجديد كان بالأمس القريب مناهضا لإثيوبيا وهو اليوم يخطب ودها لتقيم له عرش مملكته الموعودة.

ولا شك أن إثيوبيا التي لها قنصليات أيضا في أرض الصومال وبونتلاند وتقيم علاقة متميزة معهما بالإضافة إلى الحكومة وجماعة أهل السنة كل على حدة، معنية بإبقاء الصومال مقسما إلى دويلات تدور في فلكها.

خلاصة القول أن إنشاء الكيانات المستقلة لن يكون حلا لمعضلة الصومال، بل ربما سيفضي إلى دوامة جديدة من التناحر. والتاريخ يشهد أن الفرقة لم تكن بلسما شافيا لعلل الأمم في يوم من الأيام.

ومن المغالطة القول إن الانفصال هو الذي جلب الاستقرار النسبي لأرض الصومال وبونتلاند مقارنة بمقديشو الملتهبة.

وترويج هذه الفكرة من قبل القوى الدولية والإقليمية بدل البحث عن مقاربات حقيقية لأزمة الصومال، هو -برأيي- ليس أكثر من خدعة جديدة لإدامة العنف والتآكل الداخلي إلى أن يحين الانقضاض على الجميع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.