القدس.. عدوان وعنوان

القدس.. عدوان وعنوان - إبراهيم حمامي



– مخططات التهويد

المسجد الأقصى
وماذا بعد؟

تصادف هذه الأيام ذكرى إحراق المسجد الأقصى، ولم يتغير شيء، ما زلنا نكرر نفس العبارة "يصادف اليوم الذكرى كذا لجريمة إحراق المسجد الأقصى المبارك"، لم يتغير شيء فالأطماع هي هي بل زادت، وعجزنا هو هو بل زاد، والأقصى أسير ينتظر، والخطر يهدده ليل نهار، أساساته على وشك الانهيار، وأسواره تواجه الاندثار، والاعتداءات تتكرر باستمرار.

حرب شرسة تمتد من الأحياء إلى الأموات، ومن البلاد إلى العباد، هي ما يجري اليوم في القدس بغرض تفريغها من سكانها الأصليين، وبطريقة الإحلال الجزئي والقسري، وبوسائل لا يسلم منها مبنى ولا مقبرة، وفي إطار خطة متدحرجة لتهويد المدينة وبأسرع وقت ممكن، لاستباق أي اتفاق على وضع المدينة، بحيث تصبح المتغيرات أمراً واقعاً لا يمكن تغييره، فلا قبر نبش سيعود، ولا أثر أزيل سيعمّر من جديد.

يجري كل هذا دون أي خطط مضادة من أي طرف كان، بل يلف الصمت والتجاهل كل المسؤولين بمختلف توجهاتهم، عرباً كانوا أو فلسطينيين، وكأن الأمر لا يعنيهم، أو ربما على طريقة "للبيت رب يحميه"، بل تشير أصابع الاتهام إلى أطراف بعينها بالتواطؤ لتضييع القدس.

وهذا ما حدا بحاتم عبد القادر وزير القدس في حكومة فياض -على سبيل المثال- للاستقالة احتجاجاً على إهمال وتضييع القدس، أو ما نشر بتاريخ 25/7/2006 حول قرار فصل نحو ثلاثين موظفا يعملون في الأوقاف بمدينة القدس، حين كشف عددٌ من حرَّاس المسجد الأقصى المبارك عن مؤامرة ثلاثية تحاك ضد مدينة القدس الشريف بشكل عام والمسجد الأقصى بشكل خاص من أجل تقويضه والسيطرة عليه وتقسيم المدينة المقدسة وإنهاء ملفها بشكل كامل لصالح الاحتلال، وبأن أصحاب القرار والنفوذ داخل دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس المحتلة هم الذين يُطبِّقون ما يتفق عليه!


"
مخططات التهويد تتركز على: مصادرة الأراضي تحت مبررات عديدة، والإحلال السكاني باستجلاب اليهود وطرد المقدسيين العرب، وتغيير التاريخ بمحو الآثار الإسلامية والمسيحية بعد الفشل في إثبات أي أثر يهودي عبر الحفر والتنقيب
"

مخططات التهويد
تتعدد محاور التهويد وأهدافه لكنها تتركز على ثلاثة مرتكزات أساسية:
1- مصادرة الأراضي، تحت مبررات ومسميات عديدة، منها بناء مستوطنات جديدة ومنشآت عامة كما حدث مؤخراً لمقبرة مأمن الله وتجريف مئات القبور فيها، أو بناء طرق وجسور، وغيرها من الأسباب التي لا يعدمها الاحتلال.

وحتى تحكم سلطات الاحتلال سيطرتها على القدس الشرقية، وحتى تصادر أكبر قدر ممكن من الضفة الغربية، قامت بتوسيع مساحتها من 6.5 كلم2 إلى أن بلغت 123 كلم2 عام 1990، كما استولت على 86% من أراضي القدس ومنعت الفلسطينيين من استخدام 10% من الأرض ليبقى لهم 4% فقط، وأنشأت 11 حيا يهوديا في القدس الشرقية، ثم أحاطتها بطوق آخر من 17 مستوطنة يهودية، إلى أن بلغ عدد اليهود شرقي القدس نحو 200 ألف مستوطن.

أما الجدار المسمى بغلاف القدس فأمره مختلف، حيث سيضمن عند انتهائه (76 كلم) عزل مدينة القدس بكاملها عن محيطها العربي الطبيعي، ويربطها بالمستوطنات المنتشرة داخلها وحولها، ليضمن أقل وجود سكاني عربي وأكبر كثافة للمستوطنين، عازلاً عشرات القرى والبلدات ومئات الآلاف من الفلسطينيين خارج أسواره.

2- الإحلال السكاني، عبر سلسلة طويلة من الإجراءات للتضييق على السكان المقدسيين العرب، ويلخص وضعهم ما سبق أن ذكره الأستاذ محسن صالح حين قال إن 4% المتبقية من مساحة القدس الشرقية هي التي يستطيع أن يعيش فيها أكثر من 230 ألف فلسطيني، والحصول على رخصة بناء بيت حلم يحتاج نحو خمس سنوات مع مصاريف تصل إلى ما بين 25 و30 ألف دولار، وهو إنجاز لا يحصل إلا نادرا، والسلطات الإسرائيلية لا تسمح عادة بصيانة المباني وترميمها أو توسيعها وزيادة طوابقها.

وعندما يضطر المقدسي إلى البناء دون ترخيص يكون الهدم مصير بيته، وإذا اضطر المقدسي للسكن خارج بلدية القدس في مناطق الضفة الغربية المجاورة، فإن قانون "مكان الإقامة" الإسرائيلي سيلاحقه ويصادر بطاقته المقدسية ويحرمه من السكن في القدس، فقد تمت مصادرة 6381 بطاقة هوية مقدسية بين عامي 1967 و2000.

وتلاحق المقدسي الضرائب والإغلاقات العسكرية وتحرشات اليهود المستوطنين، هذا عدا انتشار الفقر والبطالة، وسعي الاحتلال الحثيث لتخريب الشباب أخلاقياً خاصة من خلال نشر المخدرات، وعراقيل الزواج من خارج القدس وغيرها.

أما الجانب الآخر من معادلة الإحلال فهي استجلاب أكبر عدد من اليهود لإسكانهم قسراً في القدس، وأيضاً عبر سلسلة طويلة من أساليب التحايل والتلاعب، وإبراز لأوراق ومستندات ملكية قديمة تظهر فجأة ودون أصل أو إثبات، لكن يتم اعتمادها بسرعة البرق من قبل سلطات الاحتلال.

3- تغيير التاريخ، إذ فشل الاحتلال خلال عشرات السنين من البحث والتنقيب والحفريات والأنفاق عن إثبات وجود أي أثر يهودي في المدينة المقدسة، وقد سبق أن أوضح شيخ الأقصى الأسير الشيخ رائد صلاح أن الآثار الدينية في القدس 80% منها إسلامي، و18% مسيحي، و2% لحضارات أخرى مرت على القدس، ولا يوجد أي أثر يثبت ادعاءات الاحتلال بشأن الأساطير الدينية أو غيرها.

ولهذا السبب تحاول سلطات الاحتلال جاهدة تغيير ملامح المدينة، ومحو الآثار الإسلامية والمسيحية فيها، حتى وإن كانت قبور موتى، وكذلك إعادة تسمية الشوارع والميادين والأبنية والآثار التاريخية، والإكثار من بناء الكنس الضخمة وفي أماكن معينة حول المسجد الأقصى المستهدف الرئيسي في عملية التهويد المتواصلة.

وقد سبق أن كشف الأمين العام للهيئة الإسلامية المسيحية حسن خاطر في بدايات هذا العام النقاب عن قائمة معالم أعدتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي لضمها إلى ما تسميه مواقعها التراثية، تضم قرابة 150 موقعا تاريخيا ودينيا فلسطينيا، موضحاً أن القائمة تكاد تستحوذ على معظم معالم ورموز الأرض المقدسة.

وقال إنها تحوي بالإضافة إلى المسجد الإبراهيمي في الخليل ومسجد بلال بن رباح في بيت لحم، أسوار البلدة القديمة في مدينة القدس المحتلة وبلدة سلوان جنوب المسجد الأقصى.

وأكد أن القائمة تضم أيضا كنائس ومعالم مسيحية أثرية عريقة أهمها كنيسة أم العمد، إضافة إلى ما يسمونه حديقة برعام التي تقوم على أنقاض قرية فلسطينية اسمها كفر برعم وسكانها من الذين تم تهجيرهم عام 1948. كما تضم القائمة عددا من القبور والمقامات الإسلامية الشهيرة في فلسطين، أبرزها مقام النبي صموئيل غربي القدس، وقبر يوسف في نابلس، إضافة إلى مغارة التوأمين غرب القدس، ووادي وكهوف قمران غرب البحر الميت حيث اكتشفت 85 مخطوطة تاريخية في أكثر من 11 كهفا من هذه الكهوف.

كذلك فإن بلدية الاحتلال لا تنوي فقط تنفيذ أعمال إنشاء في طريق باب العامود فحسب، بل ستطال هذه الأعمال أغلب شوارع وممرات البلدة القديمة التي يبلغ عددها 361 طريقاً وتشغل نحو 85 دونما، أي نحو 10% من مجمل مساحة البلدة القديمة، لتطال أماكن هامة للمسيحيين والمسلمين في البلدة القديمة كطريق باب العامود وسوق خان الزيت وطريق الواد وسوق العطارين وطريق حارة النصارى وطريق القديس متري وساحة عمر بن الخطاب وطريق الآلام وطريق الرسل وباب الغوانمة وعقبة دير الحبشة وطريق مار مرقص.

ولإضفاء المزيد من الشرعية على الحق المزعوم في بيت المقدس، تقوم مؤسسات الاحتلال بتشويه وتغيير حتى الروايات التاريخية، وتنتشر اليوم موسوعات ومواقع تتحدث عن تاريخ القدس بشكل يتجاهل الوجود الإسلامي والعربي فيها، قافزة آلاف السنوات وكأن التاريخ توقف في تلك الفترة، ناهيك عن خلق روايات وتفاصيل جديدة.


"
محاولات تدمير المسجد الأقصى لم ولن تتوقف، وتسعى حكومة الاحتلال لاستغلال المتطرفين اليهود حتى تكون بمنأى عن المساءلة القانونية على المستوى الأممي في حال تنفيذ أي جريمة بحق المسجد
"

المسجد الأقصى
منذ احتلال القدس عام 1967 يتعرض المسجد الأقصى لاعتداءات متكررة ومتوالية، ولم تكن جريمة إحراقه عام 1969 هي الوحيدة، حيث رُصدت عشرات المحاولات للاقتحام أو الإحراق.

اعتداءات تتم في أغلبها على أيدي أفراد أو جماعات إرهابية متطرفة، لكنها بالتأكيد تلقى الدعم المادي والسياسي والمعنوي المطلوب من سلطات الاحتلال في لعبة لتبادل الأدوار باتت مكشوفة.

وهذا يذكرنا بتصريحات وزير الأمن الداخلي في حكومة الاحتلال صيف العام 2004 تساحي هنغبي والتي كشفت النقاب أن مجموعات من المتطرفين أعدوا خطة لنسف المسجد الأقصى المبارك أو اغتيال شخصية إسلامية بارزة داخل المسجد.

وقال هنغبي في مقابلة مع القناة الثانية في التلفزيون العبري إن "خطر اعتداء يهود متطرفين ومتعصبين على المسجد الأقصى أو مصلين في هذا المكان الأكثر قدسية بالنسبة للمسلمين، لم يكن بهذه الحدة كما هو عليه اليوم".

وأضاف "نشعر بأن مستوى التهديد على الحرم القدسي -بمعنى تنفيذ عملية من قبل يهود متشددين ومتطرفين- قد ارتفع في الأشهر الأخيرة والأسابيع الأخيرة على وجه الخصوص، أكثر من أي وقت في السابق".

وتابع قائلا "إن المعلومات المتوفرة لدى أجهزة الأمن الصهيوني والشاباك تشير إلى تعاظم استعداد اليمين المتطرف لتنفيذ عمليات إرهابية".

ما ذكره هنغبي يتعدى كونه تهديدات إلى كونه توجهات لدى حكومة الاحتلال تسعى من خلالها لقراءة ردود أفعال الشارع أولاً، وثانياً فتح الطريق أمام الرأي العام العالمي للفصل الصوري بين الاحتلال من جهة والمتطرفين من جهة أخرى.

وهذا يعني أنه في حال تنفيذ جريمة نسف المسجد الأقصى ستكون حكومة الاحتلال بمنأى عن المساءلة القانونية على المستوى الأممي.

محاولات تدمير المسجد الأقصى لم ولن تتوقف، والمواجهة الحالية التي تجري على أرض فلسطين الحبيبة تُسرع في وتيرتها، وبناء الهيكل المزعوم يرون فيه خلاصهم وتحقيقاً لنبوءات مزعومة، والحفريات والأنفاق صدعت جدرانه وباتت أجزاء منه على وشك الانهيار، والمؤامرة يشترك فيها هذه المرة أبناء جلدتنا، ونحن ما زلنا نشجب وندين ونستنكر ونندد ونطالب ونناشد وندعو!

يبقى المسجد الأقصى بصخرته الشهيرة، صخرة حقيقية في وجه تلك المخططات وعمليات التغيير والتشويه، ورغم حجم الهجمة والتآمر كان دائماً بمثابة الشرارة التي تشعل المنطقة، تماماً كما حدث في محطات معينة من قبيل محاولة إحراقه عام 1969، وهبة النفق عام 1996، وانتفاضة الأقصى بعد تدنيس شارون له عام 2000.


وماذا بعد؟
بتسارع لافت يتم تهويد القدس، وبتباطؤ لافت أيضاً يهتم الاحتلال بالعودة إلى المفاوضات التي لا يحصل فيها الطرف الفلسطيني على شيء، وبين التسارع والتباطؤ تضيع القدس رويداً رويداً، وتهوّد المدينة، وينتظر المسجد الأقصى مصيره.

لكن مع كل ذلك، ومع قراءة لوضع تاريخي مشابه إبان الحملات الصليبية التي احتلت القدس قرابة 200 عام، وبقي الأقصى أسيراً 88 عاماً لم يرفع فيه أذان وتحول إلى مرتع للخنازير وإسطبل للخيول.. مع كل ذلك عاد إلى أصحابه بعد كل تلك السنين، واندحر العدوان الصليبي غير المقدس عن بيت المقدس.

وهكذا سيكون مع الاحتلال الحالي، لكن بعزيمة وإرادة ويقين بالنصر القادم لا محالة. وتبقى القدس بمسجدها الأقصى المبارك هي المفتاح والعنوان رغم العدوان!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.