السودان.. النتيجة المتوقعة أقل قسوة

السودان.. النتيجة المتوقعة أقل قسوة - الصادق الفقيه



– تأجيج العواطف
جاذبية الوحدة
منطق الانفصال
المزاج الجنوبي
تحوطات مطلوبة
إدارة التوقعات

يعيش السودانيون هذه الأيام تحت وطأة الجدل السياسي حول الوحدة والانفصال، وتستخدم في الدعوة لأحد الخيارين كل وسائل التعبئة وشعارات "شحن" العواطف، الذي قد تكون له عواقب وخيمة عند بلوغ نتيجة الاستفتاء المتوقعة.


تأجيج العواطف
وهذا الجدل المحتدم بين الرؤى المختلفة، إضافة إلى ما هو قائم من صراع سياسي بين الشريكين: المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، يحتاج لكسر حلقته المفرغة، بوقف التعبئة العاطفية المحمومة للخيارين، تخفيفاً لحدة الاحتقان السياسي الموجود بين الطرفين، وتقليل محاولات تأجيج العواطف تجاه الوحدة أو الانفصال.

إذ إن حكمة إدارة التوقعات بشأن الوحدة أو الانفصال هي من أخص المطلوبات في الحالة السودانية الحاضرة، حتى لا تكون النتيجة -أيا كانت- مسببة لحالة إحباط للطرف الخاسر لا يقوى أحد على تدارك تداعياتها، أو مدعاة لصراعات وحروب تأكل الأخضر واليابس، في بلد أنهكه تطاول سنوات الحروب.

وهذا يتطلب من الطرفين وقف حملات التعبئة والحشد والتجييش وتأجيج العواطف في الشمال والجنوب، قبل أن يبلغ الناس موعد الاستفتاء، ويحدد فيه الجنوبيون وحدهم اختيارهم بين الوحدة والانفصال.

فقد عاد هذا الجدل يثير من جديد الحديث عن تعقيدات العلاقة بين الشمال والجنوب، ويلقي بظلال كثيفة على مصير العلاقة المستقبلية بينهما، بعدما دنا موعد الاستحقاق الدستوري بالتصويت على حق تقرير المصير الذي تحدد له يوم التاسع من يناير/كانون الثاني 2011.

وسيجري استفتاء مواطني الجنوب عن رغبتهم في البقاء في بلد موحد أو الانفصال وتكوين دولة أفريقية جديدة في جنوب السودان.

"
الوحدة ليست وصفة مغلقة تضم فريقا من الأنصار مثلما هي الحال مع الانفصال مثلا، بل هي سعة ومنهج في التعايش ينحو إليه الناس داخل حيز المكان الموصوف
"

ويناقش مفهوم الاستفتاء في الساحة السياسية عادة تحت بندي الوحدة والانفصال، حيث بات الطرف الجنوبي الذي تمثله الحركة الشعبية لتحرير السودان والذي يملك وحده حق الاختيار، يحتكر الحديث باسم الانفصال، في حين يبدو كأن الطرف الذي يدافع عن الوحدة في المجال العام، وبدوائره المختلفة، والذي يقوده حزب المؤتمر الوطني الحاكم، يقف موقف التحفظ من فكرة الانفصال إن لم يكن الرفض الكامل لها.

وبينما يرفع الفريق الجنوبي شعارات التحرير ويتهم خصومه في الشمال بالاستغلال، بل ومحاولة التمسك بالجنوب لمزيد من هذا الاستغلال، يتهم حزب المؤتمر الوطني في الشمال معارضيه في الحركة الشعبية بالاستهانة بالجنوبيين، وتقديم الانفصال على الوحدة، والرغبة في التحلل من الالتزامات السياسية والقواعد الأخلاقية التي أقرتها اتفاقية السلام الشامل في ضاحية نيفاشا بكينيا يوم 9 يناير/كانون الثاني 2005.


جاذبية الوحدة
يقول المنطق الغالب إن الوحدة ليست وصفة مغلقة تضم فريقا من الأنصار مثلما هي الحال مع الانفصال مثلا، بل هي سعة ومنهج في التعايش ينحو إليه الناس داخل حيز المكان الموصوف، مُولِين القواسم المشتركة مكانة محورية سواء في السياسة أو في الاقتصاد أو الثقافة أو في الاجتماع أو في تحكيم القانون، والاجتهاد في فهم الطبيعة المشتركة للمتساكنين وتأصيل بُعد التعايش الإنساني والاجتماعي فيما وراء السياقات التاريخية لهذه الأبعاد.

فمفهوم الوحدة المؤيد من فريق والمرفوض من فريق آخر يحتاج لاستنقاذ، ولا يمكن أن يقوم المختلفون بذلك دون تحليل سياسي عميق لمنطق الوحدة والانفصال، بلوغا لفهم مشترك قبل أن يلج المقترعون الجنوبيون لحظة الاستفتاء الفاصلة التي سيتقرر فيها مصير السودان.

وأما فيما يتعلق بمواقف الجنوبيين العاديين، فيشير وصف الوحدة إلى أصحاب رؤى متعددة وبالغة التفاوت بما يصعب معه اعتبارهم جنسا أو عرقاً أو دينا أو مذهبا أو مجموعة سياسية متجانسة، فمنهم القائل بأن التعددية ينبغي أن تختبر بمحك وطني، أو يشير الوصف أحيانا إلى القائلين بأنه لا يجوز الإيمان بالوحدة إلا في ظل التنوع والتباين القائم.

وهذا المعنى الأخير لا ينطبق على كل الجنوبيين، لأن منهم من يقبل الوحدة ويسوغها سياسيا، وأيضا يطلق وصف الانفصاليين على الذين يقبلون الحد الأدنى لرابطة الوحدة، لكن بعد اختبار جاذبيتها اختبارا عمليا، كما تواضعت على ذلك الحركة الشعبية في نص اتفاقية نيفاشا بأن جعلت الوحدة خيارا يختبر بقدرة المؤتمر الوطني على جعلها جاذبة.


"
مثلما تتعالى الأصوات المطالبة بالوحدة في الشمال، أصبح الانفصال يكسب نفوذا على نطاق الجنوب
"

منطق الانفصال
إن الانفصال لا يعدو كونه مثالاً صارخاً على التفريغ السياسي للعنف الكامن في نفوس كل الأطراف، حيث تندلع الخلافات المكبوتة ذات الطبيعة السياسية، بمجرد التعبير عنها بمصطلحات مكانية جهوية أو مناطقية.

وهذا يصدق على ما يُسمى إضفاء الطابع الجهوي والعرقي على الصراع في الجنوب، وحشد المواطنين من الأطراف بشعاراتٍ أقلُّ ما يمكن أن يقال عنها إنها عاطفية تبسيطية، سواء كانت دعوة للوحدة في الشمال أو حديثا عن الانفصال في الجنوب.

صحيح أن الحال في الجنوب في الوقت الراهن أصبح يحصر نفسه في حدود الجغرافيا، ويبتعد بدعاوى الانفصال عن الفعالية المركزية له، المتمثلة في رعايته السابقة لشعارات السودان الجديد، المتعدي بتطلعاته السياسية لما هو أبعد من حدود الجنوب الجغرافي، وانزوت ممارسة العمل السياسي للقيادات الأساسية للحركة الشعبية إلى الفضاء الجنوبي.

ومثلما تتعالى الأصوات المطالبة بالوحدة في الشمال، أصبح الانفصال يكسب نفوذا على نطاق الجنوب، كما أصبحت القوى السياسية والمنظمات المدنية تلعب بشكل متزايد الدورَ الذي يمكننا أن نسميه بالإسناد المطلوب للوحدة في الشمال، أو للانفصال في الجنوب.

وبذلك تستطيع هذه القوى والمنظمات التأثير على الرأي العام بمساهمات عاطفية ذات علاقة بالقضايا الرئيسية، بغض النظر عن أن الحجج التي تتضمنها هذه المساهمات قادرة على إقناع الناخب الجنوبي الذي بيده وحده القرار.

وإذا كان حدوث الانفصال أمرا مرجوحا، حسب تصريحات قيادات نافذة في الحركة الشعبية، فإن هذا يقود إلى طرح السؤال الملح الذي يقول: ما الذي يجب أن يتوقعه الناس من بعضهم البعض من أجل ضمان استمرار الوحدة، وتطوير العلاقات الاجتماعية في الدولة الوطنية المتحصنة جيداً بسعة الجغرافيا، رغم تعدد الثقافات والأديان والأعراق؟

وللحصول على إجابة لهذا السؤال، لا بد من إلقاء نظرة على مبدأ الوحدة الذي انبثق من الحاجة إلى التعايش في وطن كبير بحجم السودان، بمقدور أنظمته الاجتماعية أن تسع الجميع.

وهذا يذكرنا بأن هذه الوحدة لم تتحقق إلا تدريجيا عبر القرون، واتخذت شكلاً مختلفاً في كل حقبة تاريخية مرّ بها تشكُل الدولة السودانية.


"
كثيرون يتصورون أن تغيير المزاج الجنوبي في الاستفتاء القادم يعدّ من رابع المستحيلات، لأن الصورة الظاهرة لنا من سطح الأحداث تقول إن جزءا مقدرا من قيادة الحركة الشعبية يميلون نحو الانفصال
"

المزاج الجنوبي
كثيرون يتصورون أن تغيير المزاج الجنوبي في الاستفتاء القادم يعدّ من رابع المستحيلات، لأن الصورة الظاهرة لنا من سطح الأحداث تقول إن جزءا مقدرا من قيادة الحركة الشعبية يميلون نحو الانفصال، بجانب صورة أخرى لا تبدو ظاهرة بوضوح، تقول إن جزءا مقدرا آخر من قيادات الأحزاب الجنوبية يميلون تاريخياً نحو الانفصال.

ولكن الاعتقاد التاريخي يمكن أن يعدل بتعديل الظروف والملابسات، خاصة أن العلاقة بين الشماليين والجنوبيين لا يحكمها عداء تاريخي، والدليل المادي على ذلك هو أن غالبية الجنوبيين الذين هربوا من جحيم الحرب في الجنوب نزحوا إلى الشمال، وأن أقلية قليلة هي التي لجأت إلى دول الجوار في كينيا وأوغندا وإثيوبيا، وغالبية كبيرة من هؤلاء عادت مرة أخرى إلى البلاد، واستقرت في معظم مدن السودان الشمالي.

وتقديرا لهذه الحقيقة، تهدف إستراتيجية المؤتمر الوطني بحملتها المتصاعدة إلى تعديل المزاج الجنوبي لصالح الوحدة مع الشمال بالعمل على تغيير هذه الظروف والملابسات.

وقد استصحب المؤتمر متغيرات كثيرة تشهدها الساحة السياسية، منها أن بعض الدول الأفريقية -ومنها تلك التي كانت متعاطفة مع الانفصال- بدأت تعدل مواقفها، فهي تبدو الآن أكثر إدراكا لأن الانفصال إذا وقع في السودان لن يستثني بلدا، وأن خوف جيران السودان ليس من انقسامه إلى دولتين، بل الخوف الأكبر أن يتفتت الجنوب والشمال إلى دويلات غير متصالحة، ونذر ذلك تبدو في الأفق.


تحوطات مطلوبة
إن الدعوة إلى الانفصال من قبل بعض قيادات الحركة الشعبية ومؤسساتها يعد بالفعل استباقا لنتائج الاستفتاء المزمع إجراؤه في يناير/كانون الثاني 2011، وخرقاً واضحاً لاتفاقية السلام، كما أن الدعوة للوحدة في الشمال تتجه إلى دغدغة العواطف، دون أن يكون بمقدور أحد هناك أن يقرر في شأنها، أو يدلي بصوت لترجيحها.

وقد مثلَ تعيين باقان أموم وزيرا مسؤولاً عن تطبيق اتفاقية السلام الشامل وإجراء الاستفتاء في حكومة الجنوب الجديدة إشارة سالبة، وأكد للمتشككين في صدقية الحركة تجاه العمل المتفق عليه من أجل الوحدة، إذ يبدو أن هناك اتفاقا واضحا داخل الحركة الشعبية على تبادل الأدوار والتنسيق، بأن يسعى باقان بطرحه الانفصالي في الشمال، ويروج لذلك على المستوى الإقليمي والدولي، في مقابل أن تقوم رئاسة الحركة الشعبية وحكومة الجنوب وبرلمانها بتوفير التأييد والدعم له، وأن يقوم فريق آخر بالتعبئة العلنية والنشطة لصالح الانفصال وتسيير المظاهرات المؤيدة له.

ومع ذلك تظل قيادات عليا من الحركة في الحديث عن تغليبها لخيار الوحدة الجاذبة، في خطابها السياسي الموجه للشمال، بما في ذلك الفريق أول سلفاكير ميارديت النائب الأول لرئيس جمهورية السودان ورئيس حكومة الجنوب الذي يعرض له التلفزيون القومي في الخرطوم أحاديث يدعو فيها للوحدة، وأنه سيضع صوته عند الاستفتاء في صندوق الوحدة، في حين يكرر تلفزيون الجنوب إذاعة أحاديثه التي يقول فيها إن من أراد من الجنوبيين أن يكون مواطنا من الدرجة الثانية فعليه أن يصوت للوحدة.

وهذا ما يسبب حالة من الإرباك العاطفي حول حقيقة موقف الرجل الفعلي في الاستفتاء، الذي ارتضت فيه الحركة الشعبية العمل الجاد مع شريكها المؤتمر الوطني لصالح وحدة السودان.

أما الرأي الآخر فيمثله المؤتمر الوطني الذي يقول بضرورة مواجهة حركات الانفصال في الشمال والجنوب بالعمل المشترك لجعل الوحدة جاذبة، وفق ما نصت عليه اتفاقية السلام الشامل، مما يتطلب تضافر جهود الشريكين، ودعوتهما للناخبين الجنوبيين لا الشماليين إلى تغليب خيار الوحدة.

وقد أطلق اجتماع علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية ورياك مشار نائب رئيس حكومة الجنوب بجوبا في فاتح يوليو/تموز 2010، برنامج الحكومة لجعل الوحدة جاذبة.

وطرحت جملة من المشاريع ستنفذها الحكومة في الفترة المقبلة بشكل فوري، إضافة إلى تلقي معلومات من حكومة الجنوب وحكام الولايات عن المشاريع التي يمكن أن تدعمها الحكومة الاتحادية وتنفذها بسرعة.

وتلا ذلك اجتماع لولايات التماس بين الشمال والجنوب بمدينة أويل عاصمة بحر الغزال يومي 15 و16 يوليو/تموز 2010، محاولا توجيه خطاب التنمية إلى المواطن في جنوب السودان.

إذ لا تسمح الفترة المتبقية بتشييد البنيات الأساسية والمصانع والمستشفيات ومحطات المياه، ولكنها كافية لتلبية الحاجات السريعة التي يحتاجها المواطن في الجنوب، وأولها الاستقرار ومواجهة شبح المجاعة في بعض المناطق، إضافة إلى الإسعافات الأولية.

كل ذلك وغيره يحتاج إلى سواعد ودعم كل أبناء الوطن، بعيدا عن التصنيفات السياسية.


"
إذا لم يكن التسامح في إطار هذه الوحدة في الماضي إلا مساومة جماعية تتيح لكل طرف من أطراف النزاع أن يستعصم بموقفه، فيجب أن تكون له الآن علاقة باحترام وجهات نظر الآخر وتقديرها
"

إدارة التوقعات
يفترض صواب العقل أن يحزم الساسة في هذه الفاصلة التاريخية شؤونهم نحو نتيجة متوقعة، لا تمايز بشكل عاطفي بين الوحدة والانفصال.

ويجب الإقناع بأنه في الوقت الذي تصبح فيه الوحدة طوعية، تحصل الأقليات تدريجيا على المزيد من الحقوق التي قد لا يضمنها الانفصال.

وإذا لم يكن التسامح في إطار هذه الوحدة في الماضي إلا مساومة جماعية تتيح لكل طرف من أطراف النزاع أن يستعصم بموقفه، فيجب أن تكون له الآن علاقة باحترام وجهات نظر الآخر وتقديرها.

فقد كانت مهمة الدولة الأساسية بعد الاستقلال هي تهدئة المجتمع، ونزع مطالب الأطراف المتساكنة، والإشراف على تعايشها الهش تحت مظلة الوطن.

وشددت اتفاقية السلام الشامل على أن هذه الطريقة في العيش قد أثبتت عدم كفايتها. ففي ظل الدولة الوطنية وعندما أصبحت الدولة تخضع لإرادة الشعب، استمر الجميع في التخندق داخل مجتمعاتهم المتمايزة والانعزال عن بعضهم البعض، في حين كان التوقع أن كل ثقافة فرعية في ظل هذا النظام الوطني الدستوري، ستحرر أتباعها لمصلحة الكل الوطني.

ونجيء هنا إلى واحدة من الحجج المركزية في اتفاقية السلام الشامل حول التوازن الصحيح في مجتمع ما بعد نيفاشا، وهي الوعي بحقيقة أن الآخر عضو في مجتمع جامع لمواطنين لهم حقوق متعادلة، حيث المواطنة المتساوية والاختلاف الثقافي يكملان بعضهما بعضا.

وقد ظل عدد كبير من المواطنين ذوي الأصول الجنوبية يعيشون بشكل جلي في مجتمعهم الجديد في الشمال أكثر من عيشهم في مجتمعهم الجنوبي، ومع ذلك لا تستطيع أصواتهم وآراؤهم التأثير على الفضاء العام أو على قيم الثقافة السائدة في السودان، حتى يتعرض كل من الجانبين في الشمال والجنوب إلى عملية تعلم تكاملية.

فبالنسبة للمواطنين الجنوبيين يجب عليهم أن لا يتواءموا بشكل مصطنع مع النظام الدستوري، إذ يُتوقع منهم أن يُلائمُوا بين شرعية المبادئ الدستورية وبين المسلمات الرئيسية لمطالبهم، وعليهم أن يقرروا هل سيصبحون قادرين يوماً ما على معاني الانفصال، أو التعرّف على فهم إصلاحي للوحدة الطوعية، دون انفعلات عاطفية؟

وعلى الشماليين كذلك إدراك أن حصاد إحسانهم أو خطئهم في إدارة البلاد خلال نصف القرن المنصرم سيحسمه إخوتهم الجنوبيون وحدة أو انفصالا، وأن النتيجة المتوقعة أقل قسوة من وقع المفاجأة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.