أسطول الحرية وصراع المُتخيَّـل

أسطول الحرية وصراع المُتخيل - الكاتب: عبد العزيز الحيص



أكثر من صراع
قوة المتخيل
التأسيس على أسطورة
المتخيل وصراع الرأي العام
مكاسب من أسطول الحرية

في هذا الصراع المستديم مع الكيان الصهيوني؛ ما هو أهم من الوجود والحضور المادي, يكمن في الوجود المعنوي والرمزي, والحضور في "المتخيّل" الذهني… فأن تكون حاضراً في المتخيّل, وأن تكون لك صورة سليمة في الذهن, يعني أن تكون ذا وجود شرعي, ووجود حيوي مؤهل للتفاعل والتمدد والازدهار.

لقد كانت المخيلة الشعبية, ومخيلة الجماهير -كما يقول المؤرخ غوستاف لوبون- هي السلاح الأعظم الذي لا تستطيع قوة أن تقف أمامه. وهذا هو صلب المعركة بيننا وبين الكيان الإسرائيلي, حكاية في مقابل حكاية. وكل طرف لديه رغبة عميقة في جعل حكايته تسيطر وتعمُّ على أكبر رقعة ممكنة من العالم, لتحقق شرعيته ووجوده.

أكثر من صراع

"
استمرار الصراع يؤدي إلى الاستقطاب, وإلى صقل حكاية مقابل أخرى, فأحداث الفترة الأخير من الصراع مع إسرائيل جعلت رمزية إسرائيل وصورتها في المتخيّل العالمي تتقشر لحساب صورة جديدة أعمق وأوضح
"

أمر الوعي, والصورة المتخيلة تجاه هذه القضية, كان هو الحاكم والمدير لهذا الصراع إلى درجة كبيرة. ففرق كبير بين أن تظهر مجرماً ولا شرعياً في أعين الناس, وبين أن تكون إنساناً ذا وجود طبيعي واعتيادي. الوعي الغربي مثلاً, لم يكن غافلاً طوال هذه العقود عن جرائم إسرائيل, أو عن أرقام الضحايا.

لكن الحال هو أن هذا الوعي في أوروبا وأميركا كان قد تبنّى المنطق الإسرائيلي وأضمرهُ كجزء منه. فأصبحت هناك انتقائية في هذا الوعي. وهذا ما جعل -ولفترة طويلة- المواقف العالمية المختلفة تجاه ممارسات إسرائيل تأتي سريعة وخاطفة, لا تكاد توجد حتى تنتهي, كتينٍ صيفي ينتهي قبل صيفه.

استمرار الصراع يؤدي إلى الاستقطاب, وإلى صقل حكاية مقابل أخرى. أحداث الفترة الأخير من الصراع مع إسرائيل جعلت رمزية إسرائيل وصورتها في المتخيّل العالمي تتقشر لحساب صورة جديدة, أعمق وأوضح.

المميز الذي فعله أسطول الحرية, هو أنه أعاد تعريف إسرائيل على نطاق عالمي واسع. هذا ما هو مشاهد اليوم حين نجد مسؤولاً سويدياً يعلن أنه مشمئز مما فعلته إسرائيل. ونائب أميركي يصرّح بأن ما فعلته إسرائيل في غزة يجعلني أخجل من كوني يهوديا, وصحفي بريطاني يطالب بمقاطعة علمية وثقافية لإسرائيل, وحتى نيكاراغوا في أقصى العالم تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل, بينما يتم استدعاء سفرائها في كل زاوية في العالم.

لقد كان أفضل ما في "المبادرة العربية للسلام" أنها جلّت وأوضحت للعرب والعالم كيف أن المشروع الصهيوني قد قدّم للعالم كياناً غير قابل للاستدامة والتعايش.

لقد قيل إن عقلانية المرء هي آخر خطوط دفاعه. وفي إسرائيل كلما جدّ وضع جديد, زايدت على الوضع برعونة, لتثبت أنها الأقوى والأقدر. فهي مصابة دوماً بهاجس ألا تبدو ضعيفة أمام الآخرين, وروّادها مسكونون بهاجس الخطر الذي يهدد وجودهم. لذا نجدهم يمارسون "استثنائيتهم" التي جعلت العالم يشعر بالاشمئزاز منهم.

فإسرائيل تقتل المدنيين في عرض البحر, ثم يخرج نتنياهو ليهاجمهم, ويتحدث عن الخطر الذي يمثله لهم الضحايا المعزولون في غزة..! وأوباما يرفض إدانة جريمة إسرائيل ضد الأسطول البحري, ويحكي أمام لاري كنغ أن هناك وضعية يجب أن نتأملها وهي أن إسرائيل تواجه خطراً أمنياً حيث تطلق الصواريخ تجاهها..!!، هذا هو مبدأ "شيطنة الضحية" بحسب تعبير منير العكش. وهو المبدأ الذي يعطي للمستعمِر المبرر الأخلاقي والنفسي لاضطهاد المستعمَر.

قوة المتخيّل

"
المتخيّل العربي يثبت صحة موقفه من إسرائيل, وعدم إعطائها صورة سليمة في الذهن نتيجة لوجودها ومنطقها اللاشرعي.. وهو يراقب اليوم كيف أن موقفه الرافض لها يتمدد ويتوسع عبر كامل الجسد العالمي
"

الرؤى والتصورات والمتخيلات لها تأثير بالغ في رسم الواقع الاجتماعي والعالمي. وكان المفكر والاجتماعي اليوناني كاستورياديس (1922-1997) من أبرز من درس "المتخيّل الاجتماعي" وقدرته على خلق الواقع المعاش, وتأسيسه وموضعته على حال دون آخر. فهو يعلن صعوبة وجود أي شيء خارج منظومة المتخيل والرمزي.

يقول في كتابه "تأسيس المجتمع تخيلياً": "إن كل ما يتبدّى لنا في العالم الاجتماعي/التاريخي, منسوج نسجاً محكماً بالرمزي. فالأفعال الواقعية مثل العمل, الاستهلاك, الحرب, الحب, الولادة, والمنتجات المادية -التي لا تحصى، والتي من دونها قد لا يستطيع أي مجتمع العيش لحظة واحدة- ليست رموزاً. ولكن تلك الأفعال الواقعية والمنتجات المادية مستحيلة خارج شبكة رمزية" (ص 167).

ويرى أيضاً أن أي تنظيم اقتصادي, أو منظومة حقوق, أو ديانة ما, أو مؤسسة سلطة, كلها لا تستطيع أن توجد من الناحية الاجتماعية, إلا عبر كونها "منظومة رمزية مُقرّة".

إذا لم يكن لديك وجود شرعي في المخيّلة, فهذا يعني أنك تعاني مأزقاً في الوجود. عبر فترة طويلة, لم تستطع إسرائيل النفاذ إلى "المخيلة الجمعية" لجيرانها العرب. استغرق الأمر فترة طويلة منها, ومن الغرب لاختراق هذه المخيلة, ولم ينجح الأمر. الآن, موقف المتخيّل العربي يثبت صحة موقفه من إسرائيل, وعدم إعطائها صورة سليمة في الذهن نتيجة لوجودها ومنطقها اللاشرعي.. وهو يراقب اليوم كيف أن موقفه الرافض لها يتمدد ويتوسع عبر كامل الجسد العالمي.

حتى الذين تنبؤوا -من اليهود أنفسهم- بنهاية إٍسرائيل ككيان بعد عقود من وجودها، قد بنوا ذلك على فكرة إنهاء واستنفاد الأسطورة لنفسها..! الأسطورة لها مرحلة تبتدع فيها, ولها مرحلة أخرى تمارس من خلالها التوليد والإنتاج. وإذا لم يكن للأسطورة/الرمز أسس سليمة تنبني عليها, فإن كل استخدام لها ليس إلا استنفادا.

التأسيس على أسطورة
أهمية المُتخيل في هذا الصراع تتبين لنا حين ندرك كيف أن إسرائيل نفسها لم تتأسس إلا على ما هو متخيل ورمزي. لقد تأسست إسرائيل على أسطورة. فمنذ البدايات الأولى لوجودها, أحضرت إسرائيل معها عدّة رمزية ومعنوية لا تقل زخماً وتأثيراً عن عدّة الحرب. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية دأبت الدعاية الصهيونية على رسم صورة زاخمة لليهود الذين احتلوا فلسطين, كضحية يفترض أن تتألم لها الإنسانية كلها. وأنهم أتقياء, وأنقياء, قد تعرضوا لعذاب لم يشهده بشر.

وفي المقابل جهدت لأن تستحضر صورة مضادة للفلسطينيين في الوجدان العالمي, وفي استلابهم من الوعي. فصورتهم في البداية كبدو رحل لم يفلحوا في إقامة دولة, ثم كخاطفي طائرات, والآن كمفجرين وإرهابيين. وكل هذا يتم عبر جهد مؤسسي وحضور عالمي فاعل للمؤسسة الصهيونية في فترات مهمة, غُيبَ أو تغيب عنها الحضور العربي.

ليس هذا فقط, بل إن هذا الجهد القومي الصهيوني في سبيل الحضور الرمزي والمعنوي قد تعدّى إلى "تهويد التاريخ" نفسه..! فرغم أن هناك الكثير من الأعمال التي انتشرت في العالم لترويج الرؤية والحكاية الصهيونية, فإن أخطر هذه الأعمال كان العمل الضخم الذي تمثل في كتاب "عصور في فوضى" للباحث اليهودي الروسي الأصل إيمانويل فلايكوفسكي, والذي صدر في خمسينيات القرن الماضي.

"
تأسست إسرائيل على أسطورة أن اليهود ضحية يفترض أن تتألم لها الإنسانية كلها, وأنهم أتقياء, وأنقياء, قد تعرضوا لعذاب لم يشهده بشر, أما الفلسطينيون فهم بدو رحل وخاطفو طائرات وإرهابيون
"

وهذا العمل المؤسسي الفكري المدروس جاء متواكباً مع بداية الكيان الصهيوني من أجل إعادة كتابة التاريخ القديم للمنطقة. وإعطاء امتداد وانتشار ثقافي قديم لليهود في المنطقة. كالقول إن أسلاف اليهود هم من بنى الحضارة المصرية, وأنهم هم من استنبت الثقافة الحضارية في بلاد الشام. وقد قام عدد من الباحثين المصريين بالرد على هذا الكتاب عبر سلسلة كتب تحمل مسمّى "تهويد التاريخ".

هذا العمل -كمثال لنا هنا- هو محاولة لشرعنة الوجود الإسرائيلي في فلسطين, عبر توفير امتدادات تاريخية وثقافية واجتماعية لهم, توفر الحضور الرمزي والمعنوي والنفسي لهم في المنطقة. مما يجعل احتلالهم ليس إلا هجرة شرعية لليهود إلى فلسطين. لذا يقول مترجم الكتاب رفعت السيد إن هذا العمل لم يكن إلا "لدس ما يمكن دسّه لتجذير وتأصيل وتوسيع الأمن التاريخي لإسرائيل".

المتخيَّل وصراع الرأي العام
ليست كل قضية عادلة بقادرة على أن تبرهن نفسها بنفسها. هناك حاجة للكثير من العمل حتى تكون كذلك.

ويعترف المحلل السياسي جورج فريدمان في مقاله الأخير "الأساطيل ومعارك الرأي العام" أن حادثة الهجوم على أسطول الحرية قد قدّمت ورطة "جيوسياسية" لإسرائيل. فهو يعتبر أن الحملة كانت بمثابة "الطعم" الذي ابتلعته إسرائيل التي هي أقل من أن تتحمل عزلة دولية.

يؤكد فريدمان حقيقة مهمة، وهي أن السياسيين في جميع دول العالم حسّاسون جداً لمسألة الرأي العام في بلدانهم. والرأي العام هو البعد الأهم -في الغرب- بالنسبة للقضايا غير الأساسية والجوهرية. وإسرائيل هي قضية "غير جوهرية" ولا أساسية في وجدان ومخيال الشعوب الأخرى, لذا فالرأي العام تجاهها لا يصعب عليه أن يتزحزح عن وضعه السابق. والموقف الضد لإسرائيل قادر على نقل نفسه إلى داخل تلك البلدان الصديقة لها.

وبنبرة آسية لخسارة إسرائيل للرأي العام في معظم أجزاء العالم, يقول فريدمان: حين يتغير الرأي العام الغربي إلى "ضدٍ" لإسرائيل, فإن القادة في تلك البلدان لا يملكون إلا أن يتبعوا هذا التغيّر. كما يقرر أن هذه السفن التي خاضت مع إسرائيل مناورة ذكية (غير حربية،) قد كلفت إسرائيل من الخسائر ما هو أفدح مما كلفته إياها هجمات "المقاومة" أو "الانتفاضة".

لقد وجّهت إلى إسرائيل اليوم "قذيفة" رأي عام.. هي التفاف على خاصرة إسرائيل الضعيفة, وهي الضرب حيث الألم.. ففرق كبير بين أن تكون مجرماً في أعين الناس, وبين أن تكون طبيعياً واعتيادياُ في وجودك.. وكبيرة هي المسافة بين أن توجد, وأن تنعدم. أن يدركك العالم أو يتجاهلك, أن يألفك أو يستوحش منك… هذا هو مبتدأ المعركة وخبرها مع إسرائيل. فالمسألة دوماً ما تعود لتجدد نفسها كحكاية في مقابل حكاية.

لذلك كان الراحل إدوارد سعيد مرعباً ومخيفاً لهذا الكيان عبر هذا البعد: تفتيت منطق العدو وإبطال حكايته. في المقابلة المطوّلة التي أجراها معه الصحفي الأميركي ديفد بارسيمان في بداية التسعينيات، قال سعيد "ما قتلنا في السنوات الثلاث والأربعين الماضية هو الإنكار، أن نبدو كأيتام، ليس لدينا أصول، ولا حكاية، ولا سلالة كشعب…". ومن ذلك أنه تم العمل على عدم ظهور أي عمل روائي مهم عن فلسطين في أميركا. حتى المسرح جوبه بالنقد والإيقاف، ويضرب مثلاً بأن الضغوط جعلت مخرجاً "نيويوركياً" يلغى في عام 1988 عرضاً لمسرح "الحكواتي", وهي فرقة من الضفة الغربية.

مكاسب من أسطول الحرية

"
موكب أسطول الحرية هو تحرير للعرب من العزلة, التي تأتي من فرضية أن العالم يتآمر عليهم, وهو تحريض لهم على التمازج مع الجسد العالمي, وإشعارهم بأن هناك صالحين في العالم يهمهم أمر العدالة
"

في الأخير, ليس لنا أن نُدمن التأمّل, ونستجلب الفرح ونحن نترقب تفتت أسطورة إسرائيل. فلو كانت أطروحاتنا ومشاريعنا ووجودنا قويا لما كان لإسرائيل, أو لأحد غيرها أن يستلب منّا الحقوق. وبدورنا، لا بد من أن نحذر من أساطيرنا الخاصة. تلك التي تأتينا مجنّحة, حين يغيب عنا الوعي, والوعي النقدي بالخصوص.

"موكب الحرية" قدّم لنا بعداً وفهماً جديداً للقضية. هذا الأسطول قام بنشر وبث مفهوم الجهد المدني, وهو المفهوم الذي يترجم "روح الجماهير" عبر ضغط إنساني وثقافي. هذا المفهوم منقذ لنا من الوقوع في فهم متكرر ومغلوط وغير منتج للقضية. فالآن تجد الشاب العربي الصغير والغاضب على مهاجمة الأسطول سيقول لك إن من تمت مهاجمتهم كانوا "مدنيين". وهذا يعني أن هناك فهما ينتشر لما هو مدني وغير حربي في القضية. فنحن لم نفد من الذين أرعدوا وأزبدوا كثيراً بالحرب على إسرائيل.

أيضاً, موكب أسطول الحرية هو تحرير للعرب من العزلة, التي تأتي من فرضية أن العالم يتآمر عليهم. وهو تحريض لهم على التمازج مع الجسد العالمي, وإشعارهم بأن هناك صالحين في العالم يهمهم أمر العدالة. ومن ذلك التفريق بين ما هو صهيوني ويهودي. باعتبار أن هناك يهودا قد أتوا على متن هذا الأسطول. وفي هذا تقديم رؤية منطقية وواقعية للصراع, عوضاً عن نظرات مسيطرة تجعل من هذا الصراع "حروب أديان" و"صراعات كونية شاملة"..!.

لا بد لنا من العمل على استلهام تجربة هذا العمل المدني, وإعادة إنتاجها على أكثر من وجه. فهي تنجح -كما هُنا- فيما تفشل فيه الدول والمنظمات. مكاسب معنوية ورمزية كبيرة قد تحققت لنا اليوم. فشكراً لمن قدمها لنا.. شكراً يا أسطول الحرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.