قليشدار أوغلو "غانديمانيا" اليسار التركي

العنوان: قليشدار أوغلو "غانديمانيا" اليسار التركي



على أنغام نشيد "السنة العاشرة لإعلان الجمهورية" التركية الذي جعل منه اليسار التركي التقليدي أهم مواده الدعائية دخل "مرشح الشعب" و"القوة الهادئة" كمال قليشدار أوغلو قاعة مؤتمر حزب الشعب الجمهوري في أنقرة ليشارك في وضع اللمسات الأخيرة على سيناريو أعد بعناية قبل أيام وجعله مرشح الحزب الوحيد لمقعد الرئاسة خلفا لدنيز بيقال المعتكف في منزله بعد انتشار شريط غير أخلاقي يظهره ومديرة مكتبه السابقة التي أصبحت لاحقا نائبة في البرلمان في فراش واحد وصفها بيقال بالمؤامرة التي سيناضل من أجل الكشف عن خيوطها ومدبريها مهما طال الزمن.

كيف لا يغضب بيقال وهو الذي كان يعد نفسه ليتوج مرة جديدة رئيسا لهذا الحزب رغم مرور 18 عاما على قيادته له، فيجد نفسه وحيدا بين ليلة وضحاها، يطعن من الأمام بهذا التسجيل ومن الخلف بخناجر أقرب أعوانه الذين تخلوا عنه واصطفوا وراء أحد مساعديه ينتخبونه بمجموع الأصوات التي كانت تستعد للهتاف بحياة بيقال وسط مشهد تقليدي روتيني، فتحولت نحو كمال قليشدار أوغلو الذي دخل السياسة من باب البيروقراطية ويراهن أنصاره على بساطته ونزاهته وتواضعه لتقودهم في الانتخابات النيابية المقبلة إلى النصر وانتزاع السلطة من يد العدالة والتنمية.

"
استطلاعات رأي كثيرة تتحدث عن ارتفاع ملحوظ في نسبة أصوات حزب الشعب الجمهوري بعد استلام قليشدار أوغلو دفة القيادة، لكن استطلاعات مضادة تقول إن الصعود هذا ظرفي مرحلي لن يدوم طويلا
"

استطلاعات رأي كثيرة تتحدث عن ارتفاع ملحوظ في نسبة أصوات حزب الشعب الجمهوري بعد استلام قليشدار أوغلو دفة القيادة، لكن استطلاعات مضادة تقول إن الصعود هذا ظرفي مرحلي لن يدوم طويلا، فاليسار التركي لا يملك حتى الساعة برنامجا سياسيا داخليا وخارجيا يوفر له الوقوف في وجه حزب رجب طيب أردوغان وينافسه على القيادة.

وهذا ما بدا واضحا من خلال كلمة مرشح الحزب قليشدار أوغلو الذي تكلم 70 دقيقة أمام المندوبين، لكنه لم يقل الكثير حول طروحات وخطط وإستراتيجيات بديلة قادرة على مقارعة برامج الحزب الحاكم.

"غانديمانيا" أو ظاهرة قليشدار أوغلو العاصفة هذه الأيام مركز الثقل فيها ليس شجاعة الرجل وقوته وحنكته السياسية بل تصديه أكثر من مرة لملفات تتحدث عن الفساد والرشاوى أبطالها قيادات محسوبة على الحزب الحاكم، عززت من شعبيته ودفعت بحزب الشعب الجمهوري لترشيحه، وهو مازال يعتبر نفسه بعيدا عن السياسة وحبائكها فحملته، ليكون مرشح الحزب عن مدينة إسطنبول في الانتخابات البلدية الأخيرة رغم انتقادات ونكات ساخرة أطلقها الخصوم حول عدم معرفته عن المدينة وتوزيعها الجغرافي والسياسي ما يؤهله ليس ليكون رئيس بلديتها بل حتى أحد سكانها الذي سيجد صعوبة في التنقل بين أحيائها وشوارعها دون أن يضيع.

انتخاب قليشدار أوغلو الذي وصفه الإعلام المعارض والكثير من قيادات اليسار التركي بالانتصار السياسي والخطوة الأولى على طريق إسقاط حكومة العدالة والتنمية، حمل الأمل وعودة الروح لهذه الجماعات التي تعودت على الهزيمة السياسية منذ سنوات طويلة لأنه سهل عودة الكثير من قيادات اليسار التركي التي أغضبها بيقال ودفعها لمغادرة الحزب.

لكن المفاجأة الأكبر كانت حضور زوجة اليساري الرمز بولند أجاويد الذي ابتعد عن حزب الشعب قبل سنوات بعد قطيعة طويلة بين الإخوة الأعداء، لتتفرد رهشان أجاويد بفرصة الجلوس إلى جانب قليشدار أوغلو تحت شعار إعادة توحيد اليسار التركي رغم كل انتقادات حزبها واعتراضاته. لا بل إن المؤتمر شهد مشاركة خصم آخر لبيقال ظل ينتقد الحزب وسياساته واستحالة وصوله إلى السلطة على هذا النحو من العمل السياسي: قمر غنش ابن مدينة تونجلي المعروفة بغالبيتها العلوية والتي ينتمي إليها قليشدار أوغلو أيضا.

الكثير من الإعلاميين والمتابعين لهذه الانتفاضة يرون أنها غيمة وتعبر، فمشاكل اليسار التركي هي في العمق، في ذهنيته وتوجهاته وأسلوب تعامله مع المسائل. لكن آخرين من المراهنين على عودة اليسار يقارنون ما يجري اليوم في تركيا بعام 2002 عندما تمت وقتها تصفية الائتلاف الحكومي الذي كان يجمع إلى جانب أجاويد اليساري حزب الحركة القومية اليميني المتشدد والليبرالي المحافظ "الوطن الأم" بين ليلة وضحاها لصالح تمهيد الطريق أمام وصول العدالة والتنمية بانشقاق أحد أعوان أجاويد ومساعده الأقرب إليه حسام الدين أوزقان عنه، وسط ظروف ما زالت غامضة حتى الآن. فهل هو انتقام باسم اليسار من اليمين التركي هذه المرة؟

غاندي الجديد أوجز لنا إستراتيجيته التي ستكون مختلفة كليا عن ذهنية وممارسات القيادة السابقة، مع أن بيقال هو وحده المنسحب، بينما الكثير من أعوانه ومساعديه هم اليوم يجلسون على يمين ويسار الرئيس الجديد هذا إذا لم نرد قبول ما يقوله البعض إنهم هم الذين وفروا له مثل هذه الفرصة التي لم يكن ليحلم بها يوما.

وقد أعلن أن الأولوية ستكون للأناضول كمركز التحرك وممارسة السياسة بدل حي "شنقايا" الأرستقراطي الواقع في العاصمة التركية والذي يراهن الحزب دائما على الاحتفاظ به في كل انتخابات محلية، وأنه سيترك مترئس العلمانية واللجوء إليه في كل شاردة وواردة لصالح معالجة مسائل مثل البطالة والرشوة والفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية، وأنه سيخفض حاجز العشرة بالمائة إلى النصف لتسهيل دخول العديد من القوى والأفكار إلى البرلمان التركي، وهو مطلب انتخابي أساسي تعهدت جميع الأحزاب بتنفيذه، لكنها ترددت بسبب احتمال دخول مجموعة برلمانية كبيرة من أصل كردي تقحم البلاد في مواجهات سياسية ودستورية لن يكون الخروج منها بمثل هذه السهولة.

أحد أهم قياديي الحزب غورسال تكين الذي وقف إلى جانب قليشدار أوغلو في انتفاضته لكنه ذهب ضحية إعادة توزيع المناصب والمهام، يقول إننا هنا لا ننتخب فقط رئيسا جديدا لحركتنا بل نختار رئيس الوزراء التركي الجديد الذي سيتسلم دفة القيادة من العدالة والتنمية خلال عامين. لكن الجميع يعرف أن الكثير من الحواجز والصعاب التي تقف عائقا في طريق وصول الرئيس الجديد إلى الحكم تحتاج إلى معالجة حزبية جذرية وجراحة في العمق ولن تكفيه إطلاقا محاولات التداوي الموضعي وعمليات التجميل التي يقوم بها البعض.

"
قليشدار أوغلو الذي أعلن رفضه لبيانات وإنذارات منتصف الليل وأنه سيكون أول من يتصدى لدبابات تحاول التأثير في معادلات التركيبة السياسية التركية ينسى تماما أن حزبه تبنى لسنوات طويلة الوقوف دائما إلى جانب المؤسسة العسكرية
"

حزب الشعب الجمهوري الذي تسلم السلطة عام 1925 بعدما حظرت الأحزاب السياسية الأخرى، وأمضى فيها ربع قرن كامل قبل أن يطيح به الحزب الديمقراطي الذي عاد وانتقم هو منه بعد انقلاب عام 1960، ودخول المؤسسة العسكرية على خط اللعبة، فشل في العودة إلى الحكم مرة أخرى بعد انشقاقات وتشرذمات داخلية كثيرة في صفوف اليسار وهيمنة "البيقالية" على مراكز القرار والإدارة فيه لسنوات طويلة.

قليشدار أوغلو الذي أعلن رفضه لبيانات وإنذارات منتصف الليل وأنه سيكون أول من يتصدى لدبابات تحاول التأثير في معادلات التركيبة السياسية التركية، ينسى تماما أن حزبه تبنى لسنوات طويلة الوقوف دائما إلى جانب المؤسسة العسكرية لتتحول الصورة أحيانا إلى كونه يحتمي بها أو يحارب بسيفها لحماية أركان الدولة وأسسها التي وضعها أتاتورك، لكن قليشدار أوغلو يحتاج أيضا إلى تغيير صورة حزبه في رهانه الدائم على كبار مؤسسات القضاء التركي والتطوع للذود عنها في كل مواجهة سياسية، وهذا ما ظهر خلال مواقفه المنتقدة للإصلاحات الدستورية الأخيرة في البلاد واتهاماته الموجهة إلى العدالة والتنمية بمحاولة تغيير شكل النظام وبنيته.

مهمة قليشدار أوغلو الأولى، وهو الذي حمل اعتراضات حزبه إلى المحكمة الدستورية لإبطال الإصلاحات الأخيرة، أن يغادر هذا القفص الذهبي بأسرع ما يمكن ويعلن انتهاء الزواج الكاثوليكي بين حزبه وبين هاتين المؤسستين، وأن مقياسه الأول والأخير هو مسار العملية الديمقراطية في البلاد والوثائق الموقعة مع الاتحاد الأوروبي على طريق الإصلاحات والتعديلات، وأن يقول لنا الجديد إذا ما كان فعلا سيعتمد مواقف وأساليب سياسية مختلفة خلال فترة رئاسته للحزب.

قليشدار أوغلو ليس شخصية لديها كارزماتيكية بيقال، وهو ليس هذا الخطيب الذي يلهب الأفئدة ويسحر العقول، لكن تواضعه وعفويته وبساطته وأناضوليته قد تعيد للحزب العديد من المواقع التي فقدها بعد اقتتال داخلي دائم واصطفاف ومواجهات مع الكثير من القوى العمالية والنقابية وتكتلات المجتمع المدني التي اختارت الابتعاد عن اليسار والانفتاح على اليمين على غير عادتها.

هو يقول إن الشعب متعطش لممارسة السياسة وإن قيادته هي التي ستسهل له تحقيق ما يريد، وأن الحزب لن يتأثر بالمؤامرات لكنه يعرف تماما أن وصوله إلى مقعد بيقال بين ليلة وضحاها لم يكن في الحسبان وأنه ليس قضاء وقدرا من النوع العادي، وأن عليه إثبات ما إذا كانت عودته تعني عودة الأسطورة وانبعاث اليسار مجددا من ثباته، كما يقول بعض أنصاره.

من الصعب جدا أن ينجح اليسار التركي رغم كل ما يكتب ويقال عن التحام القوى والتيارات والشخصيات المشرذمة بهذه السرعة في الاقتراب من مقعد أردوغان، وبالتالي من قلعة "شنقايا" التي تستضيف عبد الله غل في حقبة رئاسته هذه.

هل يتحقق حلم توحيد اليسار التركي هذه المرة على يد قليشدار أوغلو رغم أكثر من محاولة فاشلة؟ هل يحمل هو اليسار الحالم إلى تسلم قيادة الدفة السياسية في البلاد رغم الفرق الشاسع في الكثير من استطلاعات الرأي بين حزب الشعب الجمهوري والعدالة والتنمية الحاكم، والتي تؤكد تقدم الثاني وبفارق واسع؟

18 سنة من حكم بيقال تنتهي بلحظة يحسمها شريط مسجل يتضمن مشاهد مشينة له مع سكرتيرته الخاصة يبني عليها اليسار التركي قلاعه الجديدة، فهل يتم ذلك على أرضية صلبة متينة أم أنها ستكون ورشة تسقط قبل ارتفاعها أمام تدافع المهندسين والبنائين والطفيليين وأصحاب المنافع في تحديد شكل الجبلة ومواصفاتها؟

لعبة سياسية يريدها البعض أن تنطلق من خلال "شريط إباحي" تصنع غاندي جديدا يظهر إلى العلن في تركيا على أنه "حبيب الشعب الأصلي". هي حقا نجحت في حمل بعض الإثارة والحركة إلى الساحة السياسية التركية خصوصا في أوساط اليسار التقليدي الذي كلف نفسه مهمة الذود عن النظام وحمايته، لكننا لا نعرف إلى متى ستستمر رغم أن أرقاما تتحدث عن زيادة ملحوظة في أصوات الشعب الجمهوري في هذه الآونة؟

"
رياح قليشدار أوغلو العاصفة في صفوف حزب الشعب الجمهوري هل هي حقا بداية مرحلة جديدة أم أنها مرحلة مؤقتة تزول مع انجلاء مصير الشريط الذي ينتظر تقارير المختبرات الرسمية والكشف عن الفاعلين؟ "

هل تحصل قيادة رجب أردوغان على مطلبها الدائم في وجود معارضة سياسية حقيقية تساعدها على تجديد نفسها للبقاء في السلطة، وتذكرها أن الطريق مازال طويلا أمامها في إقرار الكثير من الإصلاحات الأساسية التي تنتظر، ويتقدمها قرارات اجتماعية وثقافية وسياسية في المسألة الكردية والحريات وتعزيز انتشار الديمقراطية وتمركزها في البلاد؟ أم أننا سنتبنى ما قاله لنا الكاتب التركي علي سويدان قبل أيام حول قليشدار في أنه قد يصلح ليكون مدير مدرسة أو مؤسسة أو رئيس بلدية لإحدى المدن ينجز مهمته بنجاح لكن مسألة تسليمه دفة الحكم في البلاد هي شأن آخر؟

رياح كمال قليشدار أوغلو العاصفة في صفوف حزب الشعب الجمهوري هل هي حقا بداية مرحلة جديدة؟ أم أنها مرحلة مؤقتة تزول مع انجلاء مصير الشريط الذي ينتظر تقارير المختبرات الرسمية والكشف عن الفاعلين؟ أم أن بيقال يعرف أن مشروع إبعاده هو لعبة داخلية خارجية أرادها الكثير من الغاضبين على أردوغان وقراراته وسلوكه السياسي الذي لا يمكن إيقافه عند حده؟

هل هي عودة الروح إلى الحزب وبالتالي إلى اليسار التركي الذي تنحى وأحال نفسه إلى التقاعد؟ أم هي مجرد محاولة نهوض لا أكثر أمام مشكلة روح العودة التي يحتاجها اليسار قبل أية انطلاقة جديدة يريدها أن تكون حقيقية ومؤثرة ؟

سيكون للمعارضة التركية بعد الآن رئيس ظريف لطيف يرفض أن يبايع مدى الحياة، بينما هم يبحثون عن ملحمة يقودها بطل تاريخي منتظر يعيد لهم الكثير من القوة والاعتبار والسمعة التي تدهورت في السنوات الأخيرة.

يُذكّرنا البعض في هذه الآونة بالقول المأثور "شيخ الطريقة لا يحلّق بل المريدون هم الذين يطيرونه" لا أحد يصبح قياديا من الطراز الأول ورمزا وطنيا بسبب موقف أو شعار، والبعض الآخر ينصح بعدم المبالغة في تضخيم ظاهرة قليشدار أوغلو أو تحميله ما هو فوق طاقته، متجاهلا أن الرجل نجح في امتحان الحصول على أصوات أكثر من 1200 مندوب في صفوف حزب الشعب الجمهوري اليساري المعارض في أقل من أسبوع ودون أن يبذل جهدا كبيرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.