الثابت والمتحرك في السياسة الأميركية تجاه إيران

العنوان: الثابت والمتحرك في السياسة الأميركية تجاه إيران


ثوابت السياسة الأميركية
المشروع القومي الإيراني

الغزل المشترك وتقاسم النفوذ
هل يمكن ضرب إيران

تكاد طبيعة العلاقة التي تحكم السياسة الأميركية وإيران في العراق تشكل لغزا محيرا لكثير من المعنيين بالشأن العراقي, هل تجري هذه العلاقة وفق منطق الاتفاق والتفاهم سواء تحت الطاولة أو فوقها, أم أن هذه العلاقة تسير نحو التقاطع ومزيد من التدهور إلى الحد الذي يتوقع فيه توجيه ضربة عسكرية إلى إيران.

الفريقان ينطلقان من معطيات واقعية تجري على الأرض لتشكيل اقتناع كل منهما, وفي اعتقادنا أن ترجيح هذا الاحتمال أو ذاك يستدعي نظرة أوسع بكثير من الساحة العراقية، تتعلق بطموحات إيران الإقليمية من جهة، وإستراتيجية أميركا الكونية من جهة أخرى، وعند مطابقتهما يمكن تحديد المساحات المشتركة التي تتفق فيها إيران وأميركا وفرز المساحات التي لا يزال يشوبها الغموض.

وعلينا دائما أن نعتمد في تحليل السياسة الخارجية للدول على حقيقة ثابتة وهي أنه لا توجد مبادئ ثابتة في العلاقات الدولية وإنما توجد مصالح ثابتة وهي بدورها تتأثر بمنطق العرض والطلب وتغير الظروف، وهذا ينطبق على إيران الإسلامية كما ينطبق على أميركا البراغماتية.

ثوابت السياسة الأميركية

"
لضمان تحقيق الثابتين المهمين في السياسة الخارجية الأميركية، أمن إسرائيل أولا ثم وضع اليد على عصب الطاقة, تم غزو العراق الذي يطفو على أكبر احتياطي للنفط في العالم, ولكي تقطع الولايات المتحدة بذلك الطريق على الأقطاب الدولية المنافسة لها
"

تتمحور كافة سلوكيات الولايات المتحدة في المنطقة على أساس الموقف من ثابتين في سياستها الخارجية وهما أمن إسرائيل والنفط وتفسر بقية المواقف أو المناورات على أنها انعكاسات لهذين الثابتين، فالعلاقة الجيدة مع هذه الدولة أو تلك إنما تقوم على أساس الموقف من هذا الثابت أو ذاك، على سبيل المثال لم يكن بالإمكان غفران تأميم النفط في العراق 1972 ولا دعوته لاحقا إلى استخدام هذا النفط سلاحًا في حرب تشرين ضد إسرائيل 1973، وهكذا يمكن تفسير تأسيس ودعم وتسليح التنظيمات المتطرفة في أفغانستان 1979 -1989 لمحاربة الوجود السوفياتي الذي تجاوز خطوط الحرب الباردة الحُمر واقترب كثيرا من مياه الخليج الدافئة، ووفق نفس المنهج استدرج العراق لحربي إيران واحتلال الكويت لاستنزاف قوته المادية والبشرية المتنامية وبرنامجه النووي الذي كان قاب قوسين أو أدنى من أن يحقق توازن الرعب النووي مع إسرائيل ويهدد أمنها ووجودها.

ولضمان تحقيق الثابتين معا في السياسة الخارجية الأميركية، أمن إسرائيل أولا ثم وضع اليد على عصب الطاقة في القرن الحادي والعشرين تم غزو العراق الذي يطفو على أكبر احتياطي للنفط في العالم حيث يبلغ 350 مليار برميل، ولكي تقطع الولايات المتحدة بذلك الطريق على الأقطاب الدولية المنافسة لها على قمة الهرم السياسي الدولي.

ما لم يكن في الحسبان هو حجم ردّ فعل الشعب العراقي ممثلا في اشتعال مقاومة قلبت الحسابات، فحجم الخسائر البشرية والمادية التي تكبدتها في العراق والتي تجاوزت أكثر من 33 ألف قتيل و224 ألف جريح ومعوق حرب إضافة إلى ترليوني دولار كل ذلك أجبر الإدارة الأميركية على تغيير خططها، وكلما انزلقت تدريجيا عقب الحرب في المستنقع العراقي اضطرت للاستعانة مرغمة أكثر بالخدمات الإيرانية المعروضة سلفا, ولم يكن في حسبان الولايات المتحدة الأميركية أنها ستدفع كل هذا الثمن الباهظ، لتقدم العراق في نهاية المطاف لإيران على طبق من ذهب دون أن تنزف الأخيرة قطرة دم أو بترول.

المشروع القومي الإيراني
تسعى إيران بأقصى طاقة للاستفادة من الفوضى التي تعم منطقة الشرق الأوسط نتيجة اختلال الضغط في توازن القوى الناجم عن تدمير العراق وإخراجه بوصفه قوة مكافئة من معادلة توازن القوة الإقليمي.

ويتجلى المشروع الإيراني وتتضح معالمه أكثر كلما ازداد التورط الأميركي في أفغانستان والعراق، فإيران اليوم إنما تطالب الولايات المتحدة بسداد ثمن فاتورة تعاونها الذي لولاه لما هزم أعتى خصمين مشتركين في الحرب العالمية على الإرهاب وهما نظاما طالبان وصدام حسين.

ولأن إيران لم تكتف بتسهيل الغزو بل ساهمت في تعزيز وتكريس الصفحة السياسية اللاحقة لصالح الاحتلال الأميركي من خلال الاعتراف بأول مجلس حكم أميركي في العراق ومباركة الدستور القائم على المحاصّة لتدفع من وراء ذلك بكافة إدارتها وأذرعها السياسية والعسكرية والدينية ولتهيمن تماما على المشهد العراقي وتضع يدها على معظم المفاصل الأمنية والسياسية المتحكمة في مقدرات العراق.

"
جوهر المشروع الإيراني توسعي قومي يتخذ من الغطاء الديني شعارا له بقصد قضم أجزاء من الدول العربية المجاورة على أساس من تحفيز روح الطائفية والمظلومية سواء من خلال ضم هذه الأقاليم مباشرة أو الهيمنة عليها 
"

وهي إذ تطالب اليوم بملء الفراغ في العراق فإنها تعتبر ذلك حقا لها بل إن الرئيس الإيراني قد لوح أكثر من مرة بأن إيران ستتمدد شرقا بعد انسحاب القوات الأميركية.

وفي الجنوب فإن مشروع (الخليج الفارسي) واستحداث محافظة بهذا الاسم تضم جزر الإمارات المحتلة وإمارة المحمرة أو الأحواز العربية, واعتبار الخليج العربي بحيرة فارسية, تأتي في سياق إقناع الولايات المتحدة بأن مصالحها الإستراتيجية في نفط الخليج لا يمكن أن تتم إلا بالتفاهم مع شرطي الخليج الجديد الذي يهيمن من زاخو في أقصى شمال العراق إلى مضيق هرمز في أقصى جنوب الخليج العربي.

ويمكن تلخيص جوهر المشروع الإيراني على أنه مشروع توسع قومي يتخذ من الغطاء الديني شعارا له بقصد قضم أجزاء من الدول العربية المجاورة على أساس من تحفيز روح الطائفية والمظلومية سواء من خلال ضم هذه الأقاليم مباشرة أو الهيمنة عليها لتشكل لإيران مجالا حيويا يبدأ من زاخو في شمال العراق إلى مضيق هرمز في أقصى الخليج العربي.

الغزل المشترك وتقاسم الابتزاز
تشكل "صناعة العدو" أحد أهم نظريات السياسة الخارجية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية لأغراض زراعة الخوف وتعزيز الهيمنة والابتزاز، فبعد الاتحاد السوفياتي وطالبان والعراق، نشهد اليوم تكرار نفس السيناريو الذي جرى على العراق من خلال تضخيم وتهويل الخطر النووي الإيراني ليس على المنطقة بل على العالم وخاصة أوروبا، ولوضع حدود واضحة لحجم هذا التهديد وبالرجوع إلى قواعد اللعبة الثابتة للنادي النووي الدولي سنجد استحالة سماح الغرب والولايات المتحدة لإيران بتكرار تجربة ألمانيا الهتلرية والسماح لدولة ذات نظام ديكتاتوري بامتلاك زر السلاح النووي، لقد سرت هذه القاعدة على العراق وتسري على كوريا الشمالية وينطبق ذلك اليوم على النظام الثيوقراطي في إيران الذي يحكم باسم التفويض الإلهي عبر نظام ولاية الفقيه.

تقف دوافع حقيقية خلف تبادل الأدوار في هذا الغزل المشترك ما بين التهويل والتخويف الأميركي وبين الاستجابة والقبول الإيراني ومن خلال إدارة فن التصعيد دون الوصول إلى حدود التماس الحرجة يمكن تحقيق جملة من المصالح والأهداف المشتركة لكلا الطرفين تتمثل بمزيد من الابتزاز لدول الخليج ونفطها.

وطالما لم يتم التحرش جديا بثوابت السياسة الأميركية النفط وإسرائيل حيث لا تتعدى التهديدات الإيرانية لغاية الآن الجعجعة ضد إسرائيل، فمن الناحية الفعلية لم تطلق إيران طلقة واحدة ضد إسرائيل وما تدفعه من أموال لحزب الله وحماس لا يعادل إنتاج حقول النفط الذي تسرقه مليشياتها من جنوب العراق فما قيمة حفنة من ملايين الدولارات مقابل ابتلاع العراق برمته، يبقى التخادم المشترك والملاعبة والابتزاز هي المساحة المشتركة التي تستفيد منها حاليا وتتقاسمها إيران وأميركا على حد سواء لخداع وحلب المنطقة، على أن يبقى اللعب بعيدا عن الخطوط الحُمْر المتعلقة بتهديد أمن إسرائيل جديا أو وضع اليد على عصب الطاقة فعليا.

هل يمكن ضرب إيران
يقوم جوهر الدبلوماسية الخارجية الإيرانية على مبدأ الخداع وكسب الوقت وليس على الدبلوماسية كما يتصور البعض، وهناك فرق بين الدبلوماسية والخداع، فالأولى فن الإقناع، والخداع فن تدمير الذات، وملخص هذه السياسة يقوم على ممارسة إيران لأقصى قدر من الضغط على الثابت الأول في السياسة الأميركية (أمن إسرائيل) من خلال أطرافها وأذرعها المتقدمة للحصول على تنازلات أميركية، وكذلك الضغط من خلال أدواتها وأذرعها المسيطرة داخل العراق للمساس بالثابت الثاني في السياسة الأميركية وهو (النفط عصب الطاقة) ومع استخدامها لسياسة الشد والإرخاء ولعبة القط والفأر حول ملفها النووي فإن الهدف الحيوي والجوهري للإستراتيجية الإيرانية كسب المزيد من الوقت، وهي تسعى إلى إقناع الغرب والولايات المتحدة تدريجيا بالاعتراف والإقرار بنفوذها الإقليمي والتعامل مع المنطقة على اعتبار أن الخليج العربي ومن يسكن حوله ليس إلا بحيرة إيرانية.

"
إسرائيل على ضوء مغامراتها وحماقاتها المعهودة هي من سيباشر بتوجيه ضربة جوية محتملة إلى إيران, أما إيران فإنها تعي حدودها لتبقى ضمن حيز قواعد اللعبة (النفوذ المشترك وتقاسم الابتزاز) حتى وإن كلفها ذلك تقديم المزيد من التنازلات
"

ولكن ماذا لو استثمرت إيران الظروف المواتية جدا لها وتجرأت على عبور خطوط اللعبة الحُمر المتعلقة بثوابت السياسة الخارجية الأميركية، خاصة أن الدبلوماسية السورية القوية أثبتت سيادية قرارها الخارجي وأنها من يختار زمان ومكان أي حرب لها مع إسرائيل وأن دعمها للمقاومة يقوم على موقف إستراتيجي عروبي متجذر لديها وليس لأغراض تكتيكية. في هذه الحالة من المتوقع أن إسرائيل على ضوء مغامراتها وحماقاتها المعهودة هي من سيباشر بتوجيه ضربة جوية محتملة إلى إيران وخاصة منشآتها النووية رغم صعوبة تنفيذ ذلك لوجستيا لوحدها، ولأن الكيان الصهيوني ليست لديه حدود مشتركة فإن ذلك سيفقد الأخيرة ميزة الاشتباك والالتحام عن قرب الذي تتحاشاه إسرائيل.

سيكون الرد الإيراني الأولي مشوشا فقد تغامر وتتعرض إلى القوات الأميركية الموجودة في دول الخليج أو قد تهدد طرق مواصلات النفط والطاقة العالمية وهي عندئذ كمن يعلن الحرب على نفسه، فمن الناحية الشكلية والقانونية لا علاقة للولايات المتحدة والغرب بهذه الحرب، وسيعطي مثل هذا التصرف الذريعة لرد أميركي أطلسي قاس مصحوب بتهديد نووي تكتيكي إذا تم تصعيد الأمور كما لوح بذلك أوباما مؤخرا.

مع هذا السيناريو فإن إيران تعرف صعوبة أن تعلن كل من حماس أو حزب الله الحرب معها ولصالحها لظروف كل منهما الداخلية، وسيضعف انسحاب القوات الأميركية من العراق أي أمل على مليشياتها من تهديد هذه القوات ميدانيا، وإذا ما أضيفت العقوبات الدولية وتفاقم الانقسام الشعبي والسياسي والديني العميق داخل الساحة الإيرانية فإن كل ذلك سيدفع إيران إلى أن تعي حدودها لتبقى ضمن حيز قواعد اللعبة (النفوذ المشترك وتقاسم الابتزاز) حتى وإن كلفها ذلك تقديم المزيد من التنازلات للحفاظ على مكتسباتها الحالية في المنطقة وخاصة في العراق الذي يعد بقاؤه ممزقا هشا وضعيفا هدفا إستراتيجيا أميركيا إسرائيليا إيرانيا مشتركا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.