إسرائيل إذ تحاصر نفسها وحلفاءها

إسرائيل إذ تحاصر نفسها وحلفاءها - الكاتب: صالح النعامي



انهيار المكانة الدولية
عبء على الأصدقاء

من الخصومة للعداء
نبوءة نتنياهو
فقدان شرعية استخدام القوة ضد المقاومة
بداية نهاية الحصار

ليس من المستهجن أن يستحيل التبجح الإسرائيلي الذي أعقب المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال في عرض المياه الدولية ضد نشطاء السلام الذين كانوا على متن أسطول "الحرية" إلى حالة من الحرج الشديد عبر عنها طغيان مظاهر الشعور بالعجز والارتباك الذي أصاب دوائر صنع القرار في تل أبيب، وجعل كبار المسؤولين الإسرائيليين يشرعون في حرب تصفية حسابات داخلية مبكرة ويتبادلون الاتهامات حول المسؤولية عن الواقع البائس الذي علقت فيه إسرائيل بعد أن أغراها استلابها لخيار القوة بارتكاب هذه الحماقة.

إن الوقائع المتبلورة في أعقاب العدوان الإسرائيلي على "أسطول الحرية" تشي بحدوث تغيير واضح وحاد في البيئة الإستراتيجية الإسرائيلية بشكل غير مسبوق، لدرجة أن التوصيف الذي أطلقه بعض المعلقين الإسرائيليين على الورطة الإسرائيلية التي أعقبت العدوان بأنها "أخطر أزمة مرت فيها إسرائيل منذ الإعلان عنها عام 1948" يبدو منطقياً.

انهيار المكانة الدولية

"
مثلت ردود الفعل الدولية الغاضبة على الجريمة الإسرائيلية مؤشراً آخر على تدهور مكانة إسرائيل الدولية، فالمظاهرات التي عمت عواصم العالم ومحاولة اقتحام السفارات والممثليات الإسرائيلية، تدلل على أن إسرائيل تتجه لتبوؤ مكانة الدولة المارقة
"

مثلت ردود الفعل الدولية الغاضبة على الجريمة الإسرائيلية مؤشراً آخر على تدهور مكانة إسرائيل الدولية، فالمظاهرات التي عمت عواصم العالم ومحاولة اقتحام السفارات والممثليات الإسرائيلية، تدلل على أن إسرائيل تتجه لتبوؤ مكانة الدولة المارقة، وهو التوصيف الذي طالما خلعته تل أبيب على الدول الأخرى.

وإثر الشهادات التي أدلى بها المئات من نشطاء السلام الذين كانوا على متن السفن بعد الإفراج عنهم من السجون الإسرائيلية انهارت مرتكزات الرواية الإسرائيلية لما جرى، مما سيزيد أمور تل أبيب تعقيداً، بشكل لا يمكن تصوره. وقد حملت ردات الفعل الدولية جديداً ذا دلالة، فقرار اليونان إلغاء المناورات العسكرية مع إسرائيل، وقرار السويد إلغاء مباراة كرة القدم بين منتخبها والمنتخب الإسرائيلي، والدعوات التي تجتاح أوروبا لمقاطعة البضائع الإسرائيلية، ومطالبة نقابات أساتذة الجامعات ومجالس الطلاب في عدد من الدول الأوروبية بعدم التعامل مع الأكاديميين الإسرائيليين، كل هذه المظاهر تشكل رافعة للضغط على صناع القرار في أوروبا لاتخاذ مواقف أكثر حدة ضد إسرائيل، وإن بات القادة الإسرائيليون يشعرون بتحولات في المواقف الأوروبية حتى قبل حدوث الجريمة الإسرائيلية.

فالبرود الذي قوبل به وزير الصناعة والتجارة الإسرائيلي بنيامين بن إليعازر عند زيارته الأخيرة لمقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل دفعه للتحذير من "كارثة" على مستوى العلاقات مع أوروبا. وفي نفس الوقت فإن الدوائر الاقتصادية الإسرائيلية تتوقع أن تلجأ المزيد من الشركات العالمية إلى سحب استثماراتها في إسرائيل، لدرجة أن النائبة الإسرائيلية شيلي يحيموفيتش لم تستبعد أن يتم فرض حظر على التعامل التجاري مع إسرائيل كما كانت عليه الحال مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

عبء على الأصدقاء
لقد سبب السلوك الإسرائيلي حرجا بالغا لحلفاء وأصدقاء إسرائيل في كل من أوروبا والولايات المتحدة، لدرجة أن التقارير التي ترسلها سفارات وممثليات إسرائيل في الدول الأوروبية الأكثر صداقة لإسرائيل، مثل ألمانيا وهولندا وإيطاليا باتت تصيب موظفي وزارة الخارجية الإسرائيلية بالفزع، كما نسب التلفزيون الإسرائيلي ذلك إلى أحد كبار موظفي الوزارة.

وهناك إحساس يتعاظم لدى دوائر صنع القرار في أوروبا بأن العلاقات مع إسرائيل باتت تمثل عبئا كبيراً على مصالحها في العالم. وعلى الرغم من التغيير الحاد في تعاطي إدارة أوباما مع حكومة نتنياهو، والذي تمثل في تبني واشنطن المطلق للمواقف الإسرائيلية من شروط التسوية مع السلطة الفلسطينية، وعلى الرغم من الموقف الأميركي المتواطئ مع إسرائيل الذي أعلن عنه في أعقاب الهجوم على "الأسطول"، إلا أن إدارة أوباما تدرك أن ما أقدمت عليه إسرائيل مس بمصالح واشنطن الإستراتيجية.

لقد مارس الرئيس أوباما ضغوطاً هائلة على النظام العربي الرسمي من أجل السماح للسلطة الفلسطينية بالموافقة على الشروع في المفاوضات مع إسرائيل رغم رفضها الالتزام بوقف الاستيطان، على اعتبار أن هذه المفاوضات تسمح بتبلور بيئة إقليمية ودولية تسمح باتخاذ إجراءات أكثر شدة ضد إيران بسبب برنامجها النووي، لكن بات في حكم أن هذه المفاوضات قد فقدت مصداقيتها في نظر الرأي العام الفلسطيني والعربي حتى لو خضعت سلطة رام الله مجدداً لضغوط أوباما.

وإذا أضفنا إلى ذلك توصية الحكومة الكويتية بالانسحاب من مبادرة السلام العربية، مع العلم أن التطورات يمكن أن تدفع المزيد من الدول العربية للانسحاب من المبادرة، فإن هذه الخطوات تشكل صفعة أخرى للسياسة الأميركية في المنطقة، وتقلص هامش المناورة بشكل كبير أمام أوباما وإدارته.

من هنا لم يكن من المستغرب أن يبلغ مئير دجان رئيس جهاز الموساد أعضاء لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست بعد يوم من العدوان أن هناك إحساسا متعاظما لدى صناع القرار في واشنطن بأن إسرائيل باتت تمثل عبئا على كاهل الولايات المتحدة وأن الانطباع بأن إسرائيل تسهم في تحقيق المصالح الإستراتيجية الأميركية لم يعد مسلما به في أوساط كثيرة في الإدارة والجيش الأميركي.

من الخصومة للعداء
يتمثل أحد مظاهر تغيير البيئة الإستراتيجية الإسرائيلية في أعقاب العدوان على أسطول الحرية بإمكانية فقدان إسرائيل علاقاتها الإستراتيجية مع تركيا. وعلينا أن نذكر هنا أنه على الرغم من التوتر الذي أصاب العلاقات بين الجانبين إلا أن طابع العلاقات الإستراتيجية لم يمس، حيث أن الجانبين ملتزمين بالاتفاقية الأمنية، علاوة على أن هناك جوانب سرية كثيرة في العلاقات بين الجانبين لا يوجد لحكومة أردوغان قدرة كبيرة على التأثير فيها، ولا سيما في مجال التعاون الاستخباري والأمني، حيث تؤكد الكثير من التسريبات الإسرائيلية أن الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية استفادت كثيراً من طابع العلاقات مع أنقرة في تسهيل اختراقها للعالم العربي.

من هنا فليس من المستغرب أن يقول إيتان هابر -الذي شغل في الماضي منصب مدير مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين- أن العلاقات مع تركيا تمثل نقطة ارتكاز هامة لضمان مصالح إسرائيل الإستراتيجية. لكن الواقع الذي طرأ في أعقاب الأحداث الأخيرة دفع بالعلاقات بين الجانبين إلى مربع جديد من التدهور، لم يتوقع أحد أن يتم الوصول إليه.

"
تتوقع إسرائيل خسارة اقتصادية هائلة جراء تدهور العلاقات مع تركيا تتمثل في إمكانية اتخاذ الأتراك قراراً بإلغاء عقود شراء منتجات عسكرية إسرائيلية تحرم الخزانة الإسرائيلية من مليارين ونصف المليار دولار سنوياً
"

وعلى الرغم من إن إسرائيل تنظر بخطورة إلى قرار تركيا سحب سفيرها من تل أبيب وإلغاء مناورات عسكرية مشتركة معها، إلا أن صناع القرار في تل أبيب يدركون أن الأسوأ في ملف العلاقات مع أنقرة ما زال أمامهم. صحيح أن الخطاب الشديد اللهجة الذي ألقاه رئيس الوزراء التركي رجب  طيب أردوغان أمام البرلمان التركي لم يتضمن الإعلان عن قرارات جديدة ضد إسرائيل، إلا أن ما يقلق الإسرائيليين بشكل أكبر هو أن الأحداث الأخيرة أوجدت بيئة تركية داخلية تمكن حكومة حزب العدالة والتنمية من اتخاذ إجراءات غير مسبوقة ضد إسرائيل بعكس إرادة العسكر وبعض القوى العلمانية.

ولا يساور الإسرائيليين شك في أن ما حدث سيدفع تركيا لتوثيق علاقاتها مع كل من تركيا وسوريا، وسيقنع أردوغان بمواصلة القيام بدور "المدعي العام" ضد إسرائيل في المحافل الدولية، ولا سيما في كل ما يتعلق بملف حقوق الإنسان وتحديداً انتقاد الحصار على قطاع غزة، ومطالبته المجتمع الدولي بمعاملة إسرائيل بنفس الدرجة التي يتم فيها معاملة إيران في كل ما يتعلق بالبرنامج النووي.

وتتوقع إسرائيل خسارة اقتصادية هائلة جراء تدهور العلاقات مع تركيا تتمثل في إمكانية اتخاذ الأتراك قراراً بإلغاء عقود شراء منتجات عسكرية إسرائيلية تحرم الخزانة الإسرائيلية من مليارين ونصف المليار دولار سنوياً، وهذا ما يشكل ضربة قوية للصناعات العسكرية الإسرائيلية التي يمثل إنتاجها مصدراً هاماً من مصادر الدخل القومي الإسرائيلي.

نبوءة نتنياهو
ولا يساور العديد من صناع القرار في تل أبيب شك أن العملية الإسرائيلية فتحت الباب أمام إمكانية قطع العلاقات بين الجانبين بشكل تام، مع كل ما تنطوي عليه هذه الخطوة من تداعيات سلبية خطيرة على البيئة الإستراتيجية الإسرائيلية.

وأكثر ما يزعج إسرائيل على وجه الخصوص هو حقيقة أن ما حدث يعزز مكانة حزب العدالة والتنمية بعدما تنبأت استطلاعات الرأي العام في تركيا مؤخراً بتراجعه، حيث يدرك الإسرائيليون أن تركيا مقبلة على استفتاء حاسم حول التعديلات الدستورية، قد تفضي إلى انتخابات مبكرة.

ويكفي هنا الإشارة إلى اتفاق لوائي الأبحاث في كل من الاستخبارات العسكرية والموساد على أن استمرار حكم حزب العدالة بات يمثل أحد مصادر الخطر الإستراتيجي على إسرائيل. ولعله من المناسب هنا أن نشير إلى ما رواه بن كاسبيت كبير المعلقين في صحيفة "معاريف" الإسرائيلية الذي قال إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قال في حديث لبعض مقربيه بعيد فشله في انتخابات العام 1999 إنه في حال تحولت تركيا إلى دولة عدو فإنه لا أمل لإسرائيل في البقاء في هذه المنطقة، ويبدو أن العملية العسكرية الإسرائيلية ضد أسطول الحرية تقرب الطرفين إلى هذه النقطة.

فقدان شرعية استخدام القوة ضد المقاومة
إن أكثر ما يزعج صناع القرار في إسرائيل بشكل خاص هو حقيقة أن ردة الفعل الدولية الغاضبة والاحتجاجات التي عمت العالم ضد استخدام إسرائيل القوة ضد نشطاء السلام الدوليين، سيؤدي بالتدريج إلى نزع الشرعية عن حق إسرائيل في استخدام القوة ضد المقاومة الفلسطينية، وهذا ينطوي على خطورة كبيرة في نظر إسرائيل.

ويدركون في تل أبيب أن العالم سيكون أكثر حساسية إزاء استخدام إسرائيل القوة في الرد على عمليات المقاومة الفلسطينية، وستكون أي عملية عسكرية إسرائيلية ضد المقاومة الفلسطينية في المستقبل مقترنة بدفع ثمن سياسي كبير جداً. في نفس الوقت فإن هذا التطور ينذر بتوليد مصادر خطر جديدة على الأمن الإسرائيلي، فقد لا تظل وسائل التعبير عن الغضب من السلوك العدواني الإسرائيلي محصورة في المظاهرات وتنظيم الحركات الاحتجاجية، وليس من المستبعد أن يتحرك العرب والمسلمون سواء على شكل مجموعات منظمة أو بشكل فردي لضرب المصالح الإسرائيلية رداً على الجنون الإسرائيلي.

بداية نهاية الحصار

"
جاء القرار المصري بإعادة فتح معبر رفح بتأثير الحرج الهائل الذي أصاب النظام المصري الذي شعر بأنه في ورطة لا تقل خطورة من الورطة التي علقت فيها إسرائيل، حيث أنه أكثر قسوة في فرض الحصار على الفلسطينيين
"

لقد هدفت إسرائيل من خلال استخدام القوة المفرطة وفي قلب المياه الدولية ضد نشطاء السلام والمتضامنين مع غزة إلى وضع حد لحملات التضامن مع غزة ولردع المنظمات الإنسانية عن تنظيم المزيد من هذه الحملات، بهدف إبقاء الحصار على قطاع غزة، لكن العكس تماماً تحقق، فمزيد من المنظمات الإنسانية أعلنت أنها بصدد تنظيم المزيد من رحلات التضامن مع غزة، وحتى بعض النشطاء الذين ألقت إسرائيل القبض عليهم أعلنوا أنهم سيعودون ثانية للتضامن مع غزة حتى يتم رفع الحصار عن القطاع مرة واحدة وللأبد.

في نفس الوقت تعاظمت الدعوات والتحركات في الكثير من الدول العربية التي لم تبد في الماضي حماساً كبيراً في التفاعل مع مأساة غزة بالشروع في تنظيم حملات تضامن جديدة، وهذا بحد ذاته شكل مظهرا آخر من مظاهر عودة الحاضنة العربية للقضية الفلسطينية حتى بمعزل عن إرادة الأنظمة الحاكمة.

ولقد جاء القرار المصري بإعادة فتح معبر رفح بتأثير الحرج الهائل الذي أصاب النظام المصري الذي شعر بأنه في ورطة لا تقل خطورة من الورطة التي علقت فيها إسرائيل، حيث أنه أكثر قسوة في فرض الحصار على الفلسطينيين.

وعلى الرغم من أن كل الدلائل تشير إلى أن الخطوة المصرية لا تعدو كونها خطوة تكتيكية تهدف إلى امتصاص غضب الشارع المصري واحتواء التساؤلات والانتقادات التي توجه للنظام، إلا أنها تدلل على تضاؤل ما تبقى للنظام من مساحة في تسويغه لمشاركة إسرائيل في محاصرة غزة.

مما لا شك فيه أن الحماقة التي ارتكبتها إسرائيل قد أوجدت واقعا تكون فيه إسرائيل وحلفاؤها والمتواطئون معها في حصار وغزة في طريقها للتحرر منه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.