بيلاروسيا و20 سنة في دائرة الظل

روسيا البيضاء..عشرون سنة في دائرة الظل



رحلة التاريخ
معطيات الجغرافيا السياسية
احتواء العدو وانصراف الصديق

حين تفكك الاتحاد السوفياتي قبل ما يقرب من عقدين كانت الوعود في الدول المستقلة كبيرة والآمال بالتطوير ودولة الرفاه لا سقف لها. غير أن خمس عشرة دولة استقلت عن سلطة موسكو ما تزال تبحث لنفسها عن مستقبل عبر مسالك ومناهج متباينة.

في آسيا الوسطى ليس هناك من مشهد يلفت الأنظار سوى تداعيات صعود وسقوط طالبان على أمن واستقرار المنطقة. في القوقاز مرت السنوات العشرون دموية بين حرب أهلية وحركات انفصالية وحروب إقليمية. وفي أوكرانيا التي تمثل قلب أوروبا الشرقية تأرجحت الدولة بين وعود برتقالية ليبرالية ونزعات شمولية.

في المقابل بقيت خمس دول سوفياتية سابقا في دائرة الظل، هذه الدول هي بيلاروسيا ومولدوفا ودول البلطيق الثلاث. في السطور التالية نلقى الضوء على حصاد عقدين من المسار الجيوسياسي في بيلاروسيا، تلك الدولة التي تعد محطة العبور الأوروأسيوي بين العملاق الروسي شرقا ودول الاتحاد الأوروبي غربا.

رحلة التاريخ
ليست هناك دولة استقلت عن الاتحاد السوفياتي انشغل عنها المحللون مثل بيلاروسيا، فموقعها الحبيس شرق أوروبا، وعدد سكانها الذي يقترب من عشرة ملايين نسمة، ونظامها العتيد الذي يرفض أن يفتح ثغرة في بلاده للتأثير الليبرالي، والتصاقها بروسيا اقتصادا وسياسة، كل ذلك جعل منها دولة تعيش في الظل، وتنزوي بعيدا عن الحراك الجغرافي السياسي الذي شهدته كافة أقاليم ومناطق ما بعد السوفياتية.

يبدو أن التجربة التاريخية لهذه الدولة تقدم بعضا من التفسير لحالة الركود والثبات الذي تعيشه اليوم. فبيلاروسيا لم تنعم على مدار التاريخ باستقلالية سياسية واضحة، فالقوى الإقليمية المجاورة وجدت فيها على الدوام منطقة للتوسع وتأمين الحدود، فتبادل الليتوانيون والبولنديون والروس السيطرة عليها من قرن لآخر.

"
وصف الإعلام الأميركي بيلاروسيا بـ "الثقب الأسود" في الحراك الديمقراطي الذي تشهده دول الاتحاد السوفياتي السابق, إذ تبدو هذه الدولة بعيون الغرب حالة شاذة وقطيعا ضالا عن القافلة الأوروبية التي تسير نحو الديمقراطية والوحدة
"

قد يكون التركيب السكاني سببا في حالة الهدوء والاستقرار الذي تعيشه الدولة اليوم. إذ تتسم بيلاروسيا بتجانس عرقي كبير، حيث يؤلف البيلاروس 81% من إجمالي عدد السكان، ويأتي الروس كأكبر أقلية في الدولة، فيشكلون نحو 12% ، تليهم أقليات شرق أوروبية مثل البولنديين (4%) والأوكرانيين (3%). وتدين الدولة بالمذهب الأرثوذكسي للكنيسة الشرقية بنسبة 80%، وتشغل باقي المذاهب والديانات من مسيحيين كاثوليك وبروتستانت ويهود ومسلمين النسبة الباقية.

وعلى مدار العقدين الماضيين وصف الإعلام الأميركي بيلاروسيا بـ"الثقب الأسود" في الحراك الديمقراطي الذي تشهده دول الاتحاد السوفياتي السابق. إذ تبدو هذه الدولة بعيون الغرب حالة شاذة وقطيعا ضالا عن القافلة الأوروبية التي تسير نحو الديمقراطية والوحدة. وفي الوقت الذي يدعم فيه الغرب جيران بيلاروسيا لتجاوز مخاض ما بعد السوفياتية، تبقى هذه الدولة غير قادرة على الاستقلالية عن روسيا، وحريصة على أن تتوارى في عباءتها.

وتنحصر أغلب المشكلات المثارة حول بيلاروسيا في المسار السياسي للرئيس ألكسندر لوكاشينكو الذي كان عضوا في البرلمان البيلاروسي زمن الشيوعية وصوتا معارضا لتفكيك الاتحاد السوفياتي، ثم صعد نجمه حين انتخب عام 1994 بأغلبية كاسحة رئيسا للبلاد. وقبل أن تنتهي فترته الرئاسية طُرح استفتاء شعبي لتمديد حكمه إلى عام 2001 الذي انتخب فيه من جديد رئيسا للبلاد. وفي مارس 2006 أعيد انتخابه فترة ثالثة بعد أن قام في أكتوبر/ تشرين الأول 2004 بطرح استفتاء جديد لتغيير مواد الدستور بما أتاح له الترشح فترات مقبلة.

معطيات الجغرافيا السياسية
تؤمن العقيدة العسكرية للولايات المتحدة وحلف الناتو بأن "قوى البحر" هى صاحبة الكلمة العليا رغم تطور "قوى الجو" والسيطرة على الفضاء. ولأن بيلاروسيا تفتقر إلى أي مواقع بحرية وتعيش في انعزال جغرافي عن البحار المفتوحة أو شبه المفتوحة، فضلا عن افتقارها لمصادر الطاقة، وانعدام أية مزايا تضاريسية نتيجة الاستواء وانتشار سهول ومستنقعات وأكثر من عشرة آلاف بحيرة، فإن ترتيب بيلاروسيا في أولويات السيطرة والإمبريالية يجعلها في ذيل القائمة.

لكن مع ذلك يراقب الغرب النهج السياسي لبيلاروسيا الذي يظهر حنينا واضحا للماضي السوفياتي واستعادة الإمبراطورية المنهارة. ففي عام 1995 وقع لوكاشينكو مع الرئيس الروسي (آنذاك) بوريس يلتسين اتفاقية لإلغاء الحدود بين الدولتين، والتحضير لعملة موحدة، ونظام مالي مشترك، ودستور موحد.

وفي عام 1997 وقع الرئيسان على اتفاق "لوحدة بيلاروسيا وروسيا" وبدأ العمل فعليا في الاتحاد منذ أبريل/ نيسان 1998 بسياسات اقتصادية وأمنية موحدة، وهو ما بدا خطرا على وسط أوروبا بسبب حصول روسيا بموجب هذه الاتفاق على الاقتراب بنحو 700 كلم غربا نحو العمق الأوروبي، كما أقرت هذه الاتفاقية إطالة أمد بقاء 25.000 جندي روسي في بيلاروسيا ودمج سلاحي الجو في البلدين.

وإذا كان ذلك قد سبب قلقا للغرب بعمومه، فإنه أخاف دول الجوار على وجه الخصوص، وفي مقدمتها بولندا ودول البلطيق. فالوحدة التي سعت إليها بيلاروسيا وروسيا ودُعيت إليها عديد من دول الاتحاد السوفياتي السابق مثل أوكرانيا وكزاخستان وصربيا قد أخافت الغرب من لملمة الإمبراطورية المنفرطة العقد.

"
إلى اليوم ما تزال مراكز الأبحاث الغربية ترى أن بيلاروسيا مصدر خطر لاستعادة الإمبراطورية السوفياتية المنفرطة العقد، وأن لوكاشينكو لا يمثل فقط زعيما شيوعيا بل (آخر الديكتاتوريين العظام) في القارة الأوروبية
"

ولأنه لم تكن هناك حماسة لفكرة "الاتحاد السلافي" في أوكرانيا وبصفة خاصة في الشطر الغربي منها، تزايدت المخاوف الغربية من موقف بيلاروسيا باعتبارها البلد الذي تجد الفكرة فيه رواجا بحكم دعوة القوميين البيلاروس للاتحاد مع دولة عظمى مثل روسيا تضمن لهم مستقبلا أفضل مما يمكن أن تحققه دولة صغيرة شرق أوروبا ليست لها أية نوافذ بحرية على العالم الخارجي.

لم تكن بيلاروسيا مخترعة لفكرة الاتحاد السلافي، فقد نبتت الفكرة في روسيا وعلى يد مفكرين مرموقين أمثال سولجنتسين، ثم تدعمت من قبل أحزاب اليمين واليسار على السواء. وتعتمد فكرة الجامعة السلافية على وحدة العرق السلافي (رغم انتشاره جغرافيا بين سلاف الغرب وسلاف الشرق وسلاف الجنوب) والتاريخ المشترك والقيم الثقافية المتشابهة، والمذهب الديني الأرثوذكسي الذي يجمع الشعوب السلافية تحت سقف كنيسة واحدة.

كانت المراقبة الغربية للحالة البيلاروسية تنظر بعين الاعتبار إلى مجموعة من العلاقات ذات الدلالة في قضية الجامعة السلافية أهمها أن الاتحاد السلافي يمثل خطرا على الاستقرار في أوروبا وبصفة خاصة حين يسعى هذا الاتحاد إلى ضم الصرب المعروفين بتاريخهم السياسي العنيف، ولعل حروب البلقان التي نشبت في النصف الأول من التسعينيات وتمت خلالها مذابح جماعية بحق الأقليات غير الصربية (وبصفة خاصة ضد مسلمي البوسنة والهرسك) هي مثال حي على ذلك.

وإلى اليوم ما تزال مراكز الأبحاث الغربية ترى أن بيلاروسيا مصدر خطر لاستعادة الامبراطورية السوفياتية المنفرطة العقد، وأن لوكاشينكو لا يمثل فقط زعيما شيوعيا في التفكير والمنهج بل "آخر الديكتاتوريين العظام" في القارة الأوروبية.

وفي نفس الوقت زادت احتمالات انتشار النموذج البيلاروسي في دول الجوار وبصفة خاصة في أوكرانيا. وبعد فشل الثورة البرتقالية في أوكرانيا مطلع 2010 انبعثت المخاوف الأوروبية من جديد خاصة مع احتمال زيادة التقارب الروسي البيلاروسي الأوكراني. وقد يحيي ذلك مقولة قديمة في الجغرافيا السياسية ترى روسيا بدون أوكرانيا وبيلاروسيا "دولة لا إمبراطورية".

احتواء العدو وانصراف الصديق
من جانبها سعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى احتواء وتطويق بيلاروسيا والمساهمة في عزلتها الاختيارية من خلال مجموعة من الممارسات في مقدمتها الترحيب بانفصال جمهورية الجبل الأسود عن صربيا في مايو/ آيار 2006 ودعم استقلال كوسوفو في فبراير/ شباط 2008 وذلك دعما للإجهاز على وحدة السلاف الجنوبيين (يوغسلافيا) وترك صربيا جمهورية وحيدة من بقايا جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي السابق، وهو الحل الفعال الوحيد لإحباط فكرة عودة روسيا "عرقيا وسياسيا" إلى شرق أوربا وجنوبها.

كما كان رد الفعل الغربي أمام تهديد الجامعة السلافية قد اتخذه حلف الناتو عبر مراحل كان أبرزها مسارعة الحلف للاقتراب من الدول الواقعة تحت إغراء الوحدة مع روسيا وبيلاروسيا، أو تحت تهديد التمدد الروسي، ومن ثم اختار الناتو الدول المحيطة ببيلاروسيا وأوكرانيا ليدخلها كأعضاء جدد.

على الجانب الآخر كان الصديق الروسي يفقد شهيته لتحالفه مع بيلاروسيا وذلك نتيجة تبني الكرملين منذ وصول بوتين إلى السلطة عام 2000 نهجا براغماتيا قبل بموجبه عضوية روسيا في حلف الناتو التي اتخذت صفة المراقب منذ مايو/ آيار 2002.

وهنا بدا أن الدور الذي كان يمكن أن تلعبه بيلاروسيا كحائط لصد توسع الناتو نحو الشرق قد فقد أهميته. ومن ثم انخفضت أهمية الوزن الجيوسياسي لبيلاروسيا في مخططات الكرملين نحو مستقبل التعامل مع الأمن الأوروبي.

"
يبدو أن الدور الذي كان يمكن أن تلعبه بيلاروسيا كحائط لصد توسع الناتو نحو الشرق قد فقد أهميته,  ومن ثم انخفضت أهمية الوزن الجيوسياسي لبيلاروسيا في مخططات الكرملين نحو مستقبل التعامل مع الأمن الأوروبي
"

ويبدو أن روسيا لم تتخلص من الفكرة التي أرساها رجال الأعمال خلال عقد التسعينيات التي رأت أنه لا مصلحة لروسيا في التحالف مع بيلاروسيا الغارقة في ميراث الشيوعية. كما ساهمت هذه النخبة الاقتصادية في التأكيد على أنه لا نفع لروسيا من التحالف مع دولة ضعيفة اقتصاديا، محدودة السوق، حبيسة النظم الاشتراكية، بعيدة عن خطوات الخصخصة الواسعة التي قطعها الاقتصاد الروسي.

وفي نفس الوقت انعكس الموقف الروسي على الداخل البيلاروسي فزادت انعزالية بيلاروسيا، واعتبرت المعارضة الهشة في البلاد أن النظام الشمولي لم يكن ليحقق قوته لولا دعم موسكو.

تتحكم روسيا في أمن الطاقة في بيلاروسيا من خلال ارتهان الاقتصاد البيلاروسي للطاقة المدعومة الآتية من حقول الغاز الروسي في سيبيريا. إذ تعتمد بيلاروسيا في نحو 90% من استهلاكها للطاقة على الغاز الروسي، وتحصل على أفضلية في الأسعار جعلتها تتمتع فترات طويلة بدعم روسي سمح لها بأن تدفع فقط ثلث قيمة السعر الفعلي الذي تدفعه دول أوروبا الغربية.

لكن مع لجوء روسيا منذ عام 2006 إلى أنابيب الغاز كسلاح لمد نفوذها على القارة الأوروبية بدأت موسكو في رفع أسعار الغاز المصدر إلى الدول التي تمر عبرها أنابيب الغاز ومن بينها أوكرانيا وبيلاروسيا، وهو ما أثار صدمة للعاصمة البيلاروسية مينسك التي كانت تربط الوحدة مع روسيا بالدعم الاقتصادي. غير أن الرئيس الروسي الحالي ديمتري ميدفيديف حاول في ديسمبر/ كانون الأول 2009 تلطيف الأجواء مع نظيره البيلاروسي، فوجه له الدعوة للاحتفال بالذكرى السنوية العاشرة لتوقيع اتفاق قيام "وحدة روسيا وبيلاروسيا".

في كلمة الختام قد يرى البعض في الهدوء الذي تعيشه بيلاروسيا "نعمة" واستقرارا حفظ البلاد من شرور العواصف التي مرت بكل الدول المحيطة فجعلتها من بين دول قليلة في عالم ما بعد الشيوعية نجت من الحروب الأهلية والصدامات المسلحة مع دول الجيران والاشتباكات العرقية والدينية في الداخل.

لكن في المقابل يجد فريق آخر من المحللين أن هذا الاستقرار الذي تعيشه بيلاروسيا ليس سوى "نقمة" الركود الآسن الذي يفسد البيئة السياسية ويعمق من العقوبات الاقتصادية التي تمارسها الولايات المتحدة ضد البلاد، فضلا عن أنه يزيد من الشمولية ويعرقل مسيرة التطور في المستقبل.

ومن غير المدهش أن التفسيرين لا يتعارضان بقدر ما يكمل كل منهما الآخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.