حركة المعلمين وعمال المياومة في الأردن

العنوان: حركة المعلمين وعمال المياومة في الأردن



مياومة طيلة أيام العمر
المعلمون.. المفاجأة الثانية
أطول مسيرة أردنية
اعتراف الحكومة والمعارضة
إعادة اختراع العجلة

عندما كان 19 عاملاً من عمال المياومة في وزارة الزراعة الأردنية يحاولون خوض أول تجربة احتجاجية مطلبية لهم أمام مبنى وزارتهم في العاصمة عمّان في الأول من مايو/ أيار 2006، لم يتمكنوا من الإفصاح عن أنهم قدموا للاحتجاج، لقد أصيبوا بالارتباك أمام باب الوزارة وأبلغوا من قابلهم إنهم قادمون لتهنئة الوزير بعيد العمال العالمي! شكَرَهم مستقبلُهم ووعدهم بإيصال تهنئتهم للوزير.

لكن المفارقة حصلت عندما كانت إحدى الصحف اليومية تعرف الهدف الأصلي وراء احتجاجهم، فخرجت في اليوم التالي بخبرين أحدهما يتحدث عن تهنئة للوزير والآخر عن احتجاج على الوزير.

مياومة طيلة أيام العمر

"
عمال المياومة يشكّلون المرتبة الأدنى في سلم الوظيفة الحكومية في الأردن، ويتجاوز عددهم الإجمالي في كل الوزارات 23 ألفاً موزعين على مئات من مواقع العمل
"

إن عمال المياومة هؤلاء يشكّلون المرتبة الأدنى في سلم الوظيفة الحكومية في الأردن، ويتجاوز عددهم الإجمالي في كل الوزارات 23 ألفاً موزعين على مئات من مواقع العمل، ولا يحوزون أية سلطة حتى على مجريات يومهم، إنهم تحت الطلب دوماً، وهم عرضة لشتى العقوبات التي قد يتخذها المسؤولون من شتى المراتب، فأي مدير دائرة لديه الصلاحيات بمعاقبة العامل وحتى فصله.

منذ تلك التجربة الاحتجاجية الطريفة، مايزال المجتمع الأردني متفاجئاً من مدى مثابرة هؤلاء العمال البسطاء رغم الصّد الذي ووجهوا به قبل أن يحققوا الاعتراف بحركتهم التي أصبحت من أشهر الحركات الاجتماعية المطلبية الجديدة.

لقد بادروا إلى الاتصال بمختلف الأطراف، ولم يقتصر الصَّد على الجهات الحكومية بل شمل كذلك الكثير من الجهات الشعبية (الأهلية) من أحزاب ونقابات مهنية وعمالية، لقد أجابتهم هذه الأخيرة بأنهم خارج نطاق تخصصها، حيث إن نقابات العمال في الأردن تتعامل مع عمال القطاع الخاص فقط.

ولكن بالمقابل فإن الحكومة من جهتها ترفض تطبيق أنظمة العمل في القطاع العام على هذه الفئة، وبهذا فهم ليسوا عمالاً ولا موظفين حكوميين، إنهم عمال مياومة، غير أن "مياومة" عدد كبير منهم امتدت لتشمل كل أيام عمرهم العملي.

ينتمي أغلب هؤلاء العمال إلى القرى والبادية الأردنية التي كانت المواقع الأكثر تضررا من عمليات خروج الدولة من الخدمة منذ الشروع بتنفيذ برامج الصندوق والبنك الدوليين عام 1989، لقد أدى رفع الدعم عن الأعلاف مثلاً إلى بيع أغلب مربي الماشية لممتلكاتهم منها، وهو ما دفع أبناءهم إلى طرق باب الوظيفة العامة، ونظراً لفقدان أغلبهم إلى المؤهلات، فقد وجدوا أنفسهم بالمئات في هذه المرتبة الوظيفية الدنيا من حيث الدخل والمراكز الاجتماعية.

لقد شكلت هذه الوظائف التي تَضاعفَ حجمها عدة مرات في السنوات العشرين الأخيرة، نوعاً من التعويض عن الأضرار التي تسببت بها برامج ما عرف بالتصحيح الذي لم يتوقف من حيث الجوهر لغاية الآن رغم أن الأردن تخرج رسمياً من هذه البرامج منذ عام 2003.

المعلمون.. المفاجأة الثانية
شكّل المعلمون في قطاع التعليم الحكومي المفاجأة الاجتماعية الأكبر. إن أعضاء هذه الفئة الذين يبلغ عددهم حوالي مائة ألف قد مروا مؤخراً بسنوات تآكل فيها كل رصيدهم الاجتماعي إلى جانب تآكل دخولهم المادية. إن تبدلات حالة التعليم في الأردن ألقت بظلالها على المعلمين بالدرجة الأولى، فهم كما يقولون أصبحوا ضحية للأطراف الثلاثة التي يتعاملون معها "الطلاب والأهالي والمسؤولين الرسميين".

على مر تاريخ الأردن الحديث، شكل التعليم واحدة من أهم أدوات التصعيد والحراك الاجتماعي، وهو الدور الذي تراجع بشكل حاد منذ عقدين ولكن بشكل أكثر حدة في العقد الأخير، ولعل العنصر الأكثر غرابة والذي يثير قدراً كبيراً من السخرية المرّة في أوساط المعلمين أن ذلك التراجع يجري تحت عناوين تحديث وتطوير العملية التربوية والتعليمية.

ويكاد لا يخلو شهر في المدارس من تعميمات وتعليمات جديدة تمّت استعارتها من تجارب بلدان أخرى (غربية عادة) ويتعين على المعلم أن يلقيها على مسامع طلابه وعليه أن يوقع أنه تبلّغ بها، وفي أغلب الحالات فإن الأمر يتحول إلى ما يشبه النكات المرة.

على سبيل المثال يتعين على المعلم –بحسب أحد هذه التعميمات- قبل أن يتوجه بكلمة تأنيب إلى تلميذه أن ينتظر ثلاث ثوان لعل التلميذ يعتذر، فإن لم يفعل يتعين على المعلم أن يرفع بوجهه "كرتاً أصفر" ثم ينتظر فيرفع له "كرتاً أحمر". ذلك يجري في مدارس قد تخلو من الطباشير أحياناً.

"
تبدلات حالة التعليم في الأردن ألقت بظلالها على المعلمين بالدرجة الأولى، فهم كما يقولون أصبحوا ضحية للأطراف الثلاثة التي يتعاملون معها: الطلاب والأهالي والمسؤولين الرسميين
"

وبينما كان التعليم في الأردن يشكل إلى حدٍ كبير أحد ميادين الحيز العام وخاصة فيما يتعلق بالمرحلة الأخيرة عند تقييم تحصيل الطلاب الذين يخضعون جميعهم إلى امتحان موحّد يجري وفق قوانين موحدة، فإن البلد يشهد في السنوات الأخيرة ميلاً إلى خلق تراتبية حادة جديدة في مجال التعليم، وتتكاثر مدارس الأثرياء التي تتبع نظماً دولية، وبعضها تصل الرسوم فيها للطالب الواحد إلى دخل أكثر من عشر أسر مجتمعة.

 وبموازاة ذلك يجري إهمال التعليم العمومي بشكل متواصل، وبالتالي التضحية بإنجاز كبير فعلي حققه قطاع التعليم في الأردن خلال عقود مضت.

غير أن الأمر عند المعلمين كان يحتاج إلى "شعرة تقصم ظهر البعير" كما يقال. فقد أطلق وزير التربية والتعليم تصريحات مهينة للمعلمين قال فيها إن عليهم أن "يعتنوا بهندامهم ويحلقوا ذقونهم" قبل أن يطالبوا بنقابة تمثلهم، إلى ذلك الحين كان نشاط المطالبة بالنقابة يقتصر على تحركات منظمة هادئة تجري في العاصمة، لكن تصريحات الوزير المشار إليها دفعت بالتحرك إلى سياقات جديدة واسعة وحادة وشاملة، وانتقلت عدوى النشاط والإضراب عن العمل بين المدن الأردنية بسرعة، وهذه المرة خارج العاصمة بشكل رئيسي.

أطول مسيرة أردنية
وعندما أقدمت السلطات على توجيه عقوبات إقالة ونقل بحق عدد من النشطاء، رد المعلمون على ذلك بأن قاموا بأطول مسيرة في تاريخ الأردن، حيث ساروا مشياً على الأقدام من العاصمة نحو الكرك في الجنوب بمسافة تصل إلى 120 كم، ولم تتمكن قوة الأمن الكبيرة من صدهم عن غايتهم، وفي منتصف الطريق الصحراوي عندما منعت السلطات نصب خيمة لإيوائهم استقبلهم السكان في إحدى البلدات وفي منزل أحد المعلمين من أبناء المنطقة الذي وفر لهم النوم وأقام على شرفهم وليمة.

لقد اختار المعلمون لمسيرتهم شعاراً ينتمي إلى عنصر مهم متأصل في الثقافة الوطنية، فقد انطلقوا تحت عنوان "نصرة الأخت أدما زريقات"، وهي معلمة من الكرك تعرضت للعقوبات بسبب نشاطها النقابي. وفي الأردن تُعد الأخت قيمة رمزية عالية، وتحظى فكرة "نصرة الأخت" بأهمية واحترام كبيرين.

لم تقتصر ظاهرة الحركات الاجتماعية هذه على المعلمين وعمال المياومة، فقد نفذ ألوف من عمال ميناء العقبة، وهو الميناء الأردني الوحيد، الإضراب الأول في تاريخهم وكان إضرابا استثنائيا من حيث حجم المشاركة وزمن الاستمرار ومستوى الالتزام، فقد تعطل العمل بالميناء تماماً ولم يحل تدخل الأمن القاسي دون استمرار الإضراب، وقد توصل العمال إلى تسوية.

ومنذ مطلع مايو/ أيار انطلقت حركة أخرى ضمت هذه المرة قطاعاً من المتقاعدين العسكريين، ورغم أن الجذور الاجتماعية والاقتصادية لجميع هذه الحركات واحدة، إلا أن البعد السياسي البارز لحركة المتقاعدين وطرحها لعناوين شاملة كبرى على مستوى البلد ككل، يميزها أو يخرجها من دائرة اهتمام هذا المقال.

اعتراف الحكومة والمعارضة
لم يكن على هذه الحركات أن تنتزع الاعتراف من الجهات الحكومية فقط، بل إنها واجهت مشكلة في العلاقة مع القوى السياسية والنقابية القائمة بما فيها المعارضة.

لقد تشكّل عبر عقود طويلة ما يشبه المواصفات والتقاليد الخاصة بالعمل النقابي والسياسي وتحولت تلك التقاليد والمواصفات إلى ما يشبه "الفلكلور"، لقد اعتادت القوى السياسية حتى عندما تريد أن تقترح شكلاً جديداً للعمل أن يجري إقراره والاتفاق على تفاصيله على مستوى القيادات السياسية والنقابية ثم يتم النزول به إلى القواعد التي عليها أن تطبقه وفق الشروط المعدة مسبقاً.

لهذا فإن كل حركة أو نشاط جديد خارج عن هذا السياق صار يخضع للتساؤل وأحياناً إلى التشكيك. ولهذا فإن القوى الحزبية والنقابية لم تتمكن في الفترة الأولى من استيعاب هذه الحركات الاجتماعية الجديدة ذات المواصفات الخاصة المستندة إلى معطيات خاصة تتبع الفئة ذات العلاقة، وكما هي العادة فقد انشغلت القوى السياسية في البحث عن الجهة التي تقف خلف هذه الحركات، فأحياناً عزتها إلى شخصيات وإلى صراعات بين مراكز القوى في السلطة الرسمية، وكلما انهارت فرضية كان هناك من يسارع إلى فرضية جديدة في السياق نفسه.

إعادة اختراع العجلة

"
الحركات الاحتجاجية تختلف عن الموجة الجديدة مما يسمى منظمات المجتمع المدني التي تنزع قصداً إلى "اللاتسييس" إنها تعثر على طريقها إلى السياسة بالشكل الذي تمليه طبيعة التحرك وشروطه
"

غير أن الحركات استطاعت أن تثابر وعلى طريقتها. هنا العمل نقابي نقي –إذا صح التعبير- ليس لأنه يخلو من البعد السياسي بل لأنه ينظر إلى السياسة بعين النقابة، ويقيم معاييره على أساس الهدف النقابي بالدرجة الأولى.

إن هذه الحركات تختلف عن الموجة الجديدة مما يسمى منظمات المجتمع المدني التي تنزع قصداً إلى "اللاتسييس". إنها تعثر على طريقها إلى السياسة بالشكل الذي تمليه طبيعة التحرك وشروطه، ويمكن بسهولة تلمس نضج وتطور خطاب جديد ذي ملامح سياسية عند هذه الحركات خلال عمرها القصير، إنها تتحرك من المطلبي إلى السياسي وليس العكس.

إن المشاركين في هذه الاحتجاجات وجدوا أنفسهم مضطرين إلى "إعادة اختراع العجلة" من جديد كما يقال، وذلك نتيجة الفجوة الكبيرة بين مواصفات العمل "الشعبي" القائم وبين الواقع الفعلي المتحرك لهذه لفئات الشعبية.

إن التجربة لم تكتمل بعد وهي مفتوحة على أكثر من احتمال، غير أن الثابت أنها زعزعت الركود والتقليد السائدين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.