بين وعي الفهم ووعي النضال

بين وعي الفهم ووعي النضال - الكاتب: عبد العزيز الحيص



خلق الخطابات الجديدة
أمّة من الأزمات
أرواح جوّالة
دور نقدي وثقافي

كانت فتنة ابن الأشعث من أشرس الفتن والحروب الداخلية التي مرت على المسلمين. في هذه الحرب, التي حدثت في أول قرون الإسلام, قاتل ابن الأشعث الحجاج والخليفة عبد الملك بن مروان. وقد خرج مع ابن الأشعث خلق كثير لأن طائفة كبيرة من القراء والفقهاء قد انضموا إليه, بسبب رغبتهم في الخروج على الظلمة وعلى أهل الجور والتكبر.

فتنة ابن الأشعث هي الفتنة التي ذهبت فيها أرواح العلماء, وتذكر المصادر أنه قد قتل فيها ما يزيد على مائة ألف مسلم.. تعرض الناس لألم شديد في بيوتهم وأهليهم وأنفسهم من جراء هذه الفتنة, وهذا ما دفع إلى إعادة التفكير والمراجعة, وتوليد أساليب جديدة في النظر والتأمل؛ انتشر وتمدد من خلالها خطاب (الإرجاء). وقد قال بعض السلف إن خطاب الإرجاء إنما انتشر بسبب فتنة ابن الأشعث.

خطاب الإرجاء (والنظر هنا لتأثيره الاجتماعي بغض النظر عن مسألة سلامته كخطاب عَقدي) كان قد أتى كردة فعل على موجة من التشدد عمّت العالم الإسلامي, اشتد فيها لغط الجماعات واحترابها, وتضييقها لدائرة المؤمنين, كفرق المعتزلة والشيعة, أو الخوارج الذين كفروا مرتكب الكبيرة واعتبروه مخلداً في النار. اعتبر المرجئة أن الجماعات المختلفة عنهم لا تزال جماعات مؤمنة.. أتى خطاب الإرجاء هنا كفسحة للناس, وكمحاولة لتقليل حدّة المحاكمات على أسس إيمانية يُذبح ويكفّر من أجلها الناس.

خلق الخطابات الجديدة
الألم الشديد وفداحة التكلفة التي يدفعها الناس تبعاً لأزمة كبيرة تمر عليهم هو ما يدفعهم إلى المراجعة وإعادة التفكير, فتتولد بذلك الخطابات الجديدة وتروج لدى الناس تبعاً لبحثهم عن المخارج والحلول.


في منتصف القرن العشرين, ولد في المذاهب الإنسانية خطاب (الشك والتفكيك), بعد إلقاء قنبلتي ناجازاكي وهيروشيما النوويتين, وما ولده ذلك من إحباط لدى المثقفين تجاه ضياع الإنسانية وفقدانها للأمن والرخاء التي وعِدت بهما طويلا!

"
الألم الشديد وفداحة التكلفة التي يدفعها الناس تبعاً لأزمة كبيرة تمر عليهم هو ما يدفعهم إلى المراجعة وإعادة التفكير, فتتولد بذلك الخطابات الجديدة وتروج لدى الناس تبعاً لبحثهم عن المخارج والحلول
"

وأيضاً الخطاب (البراغماتي) النفعي, الذي هو عصب الثقافة الأميركية لم ينتج ويتعمم لديهم إلا بسبب (الحرب الأهلية الأميركية). قتل في هذه الحرب ما يزيد على ستمائة ألف أميركي, وهو بمعايير اليوم يعادل أن يقتل ستة ملايين من أهل نيويورك!

فداحة هذه الأزمة عليهم دفعتهم إلى التساؤل عن جدوى حدوث ما حدث, وإن كان الأمر فعلا يستحق كل هذه الخسائر!.. وهذا ما قاد إلى ولادة الخطاب البراغماتي الذي نقلهم إلى أن يكونوا قاصدين أكثر إلى العملية والمنفعة في تعاطيهم مع الحياة.

الأزمات إذن تختبر الأمم, تهزها وتستثيرها, فإن كان فيها شيء من حياة فهي تستجيب وتعيد قراءة أوضاعها, وتمارس التفكير مرة بعد أخرى.. باعتباره -أي التفكير- عملية مستمرة ومتجددة, لا عملية تنجز نفسها وأمورها عبر تجربة أو اثنتين.

لدينا اليوم خطابات جديدة تنتج, وأخرى تجدد نفسها.. هناك خطابات ولدت بالفعل في حقبة ما بعد (سبتمبر/ أيلول2001) كاستجابة لأزمات تعرض لها العالم العربي والإسلامي في هذا العقد. تفجيرات أصبحت أخبارها اعتيادية يقتل فيها أبرياء في المساجد أو في مراكز تجمعاتهم, ضعف وتخاذل عربي جلب المحتل وأغواه, فرد عربي يشكو العطالة ونقصا في الحقوق.. إلخ.

هذا يقودنا إلى القناعة أن الخطابات الجديدة لدينا ليست بالضرورة خطابات مصطنعة, أو خطابات ومراجعات تتزين للغرب أو تتكلف له. ضغط المشاكل الذي تتعرض له الأمة يؤكد الحاجة إلى اجتراح المسالك والحلول الجديدة, وإلى فهم ووعي جديد يعيد قراءة أزمته الحالية ويدرك أبعادها, وليس فقط إلى مزيد من الولاء للعقليات التي ولدت هذه المشاكل!..

الإشكال اليوم يتمثل في أن أدبيات النضال, وخطابات التعبئة, تعيق المحاولات الجديدة للفهم, وتصادر أية مساحة ممكنة للنقد والمراجعة. مجتمعاتنا اليوم هي مجتمعات مغلقة بدعاوى شعارية, ومسارات مؤدلجة, لم تنجح للأسف في تقديم شيء فاعل للفرد العربي ومشاكله!

هذه المسارات استعملت أزماته لا للمراجعة, بل لتنحو إلى مزيد من التشدد, ومزيد من التأكيد على اتباع طريقها, وهذا ما يجعل الأزمة تنتج أزمة أخرى أضيق منها في كل مرة.. وفي النهاية يكون الأمر أن الانفتاح, والتجريب, والتجاسر على الفعل أصبح ممنوعاً تحت كثرة ضاغطة من هذه الدعاوى.

أمّة من الأزمات
كثرة الأزمات في العالم العربي والإسلامي خلقت أنواعاً متباينة من النضال وأدبياته, وهي تأتي في سياقات مبررة ومفهومة تبعاً لاعتداءات تعرض لها من الداخل أو الخارج. ومنذ نهاية السبعينيات, تمدد وانتشر الخطاب الإسلامي الحركي شعبياً, عبر "الثورة" بالمنظور الشيعي, أو "الصحوة" بالمنظور السني.

منذ البداية كانت السياقات التي ولدت فيها أدبيات الإسلاميين سياقات صراعية ساخنة.. صراع مع الغرب, وصراع مع الحكومات, وتعدى الأمر ليكون صراعاً مع المجتمعات وثقافاتها القائمة نفسها!

مشكلة الوعي النضالي والصراعي تتمثل في كونه ينحو إلى التمايز دوناً عن التداخل والتمازج, ويتعامل بالضدية ابتداء عوضاً عن محاولة الفهم والمجاراة, ويكون رافضاً منفصلاً بدلاً من أن يكون جزءاً من الواقع؛ عارفاً بشروطه ومساهماً ومغيراً فيه.. والذوات تحت هكذا نمط هي ذوات ضعيفة تكون على الهامش وخارج دائرة المشاركة, فلا أحد هنا يحتاج من الفرد أن يكون مسؤولاً ومشاركاً وفاهماً!

"
مشكلة الوعي النضالي والصراعي تتمثل في كونه ينحو إلى التمايز دوناً عن التداخل والتمازج, ويتعامل بالضدية ابتداء عوضاً عن محاولة الفهم والمجاراة, ويكون رافضاً منفصلاً بدلاً من أن يكون جزءاً من الواقع
"

والصعوبة والخطر من تسيد وانتشار الفكر النضالي ليست في مصادمته لتيارات أو مؤسسات أو منظومات, فهذا هدف طبيعي للنضال, ولكن تكمن في أن توسع وانتشار الفكر النضالي عادة ما يخلق صداماً مع أنساق وظواهر طبيعية, لا محال من القبول بها والتعاطي معها.. ذهنية السجال والصراع ولادة في مجال الجدل والصراعات والانقسامات, وهي تخلق صدامات غير مبررة لأنها لا تجيد سوى ذلك. فكما قيل من يملك بيده مطرقة فقط, سيتعامل مع كل شيء على أنه مسمار!

خطر آخر من تفشي ورواج هذه الذهنية هو أنها تضع أمامنا لوحة واسعة ملأى بالصراعات المزيفة وتصد عن رؤية القضايا الحقيقية, والمعارك التي تستحق الجهد والتضحية.. لم يعد لدى العرب اليوم لا فضل طاقة ولا وقت ولا فكر بعد أن تشتتت رؤاهم, وتوزعت جهودهم في ملاحقة قضايا "مصنوعة", تخلقها لهم النخب متى أرادت.

يرى خلدون النقيب أن توسع الصراع لدى العرب مبني على عقلية تآمرية لديهم, وهو عامل معطل ومولد للشلل, فلا بد من توخي الموضوعية والواقعية عند النظر وعدم المبالغة في تصوير تفردنا, وتعالي رسالتنا.

يقول "تُصوِّر العقلية التآمرية استهداف العرب, كأمة وجماعة دينية, على أنه صراع حياة أو موت, أي صراع من أجل البقاء. وبذلك تخلط هذه الطريقة في التفكير بين التنافس "الطبيعي" والصراع الاعتيادي بين الحضارات والجماعات الإثنية, وبين الصراع الذي يكون مجموعه صفراً. فليس كل أنواع الصراع صراعات إبادة, حيث إن ما يكسبه خصم, هو بالضبط ما خسره الخصم الآخر" (خلدون النقيب, في البدء كان الصراع!- ص 193).

أرواح جوّالة
ينتج النضال عادة عبر تأسسه على أيديولوجيا ضاغطة وحادة, ومحشورة في مسار واحد ينفي ما عداه, ويمايز نفسه عن غيره من الدروب. الكيان النضالي كيان بنى فكره وانتهى, ومسألة الفهم لديه مسألة محسومة, وكل نشاط لديه مع الآخرين إنما هو في سبيل إقناعهم بهذه الأفكار أو مصارعتهم من أجلها.

وهذا ما يجعل الأرواح الحرة والمتمرحلة ما تزال تنتقل من رؤية إلى أخرى أرحب منها, وتنجو بنفسها من خطاب ضاجّ ومحتد, إلى عالم متيقظ من الرؤية والنظر. هنا وقفة تأمل في نماذج من أفراد أعلنوا ولاءهم لعالم الفكر والوعي, على حساب مناطق مزيفة من الثبات المؤدلج.. حين تغطي كثير من المنظومات والنخب على الخلل والعيوب لديها عبر دعاوى النضال والتحشيد والتعبئة ضد كل ما هو خارج عنها.

المفكر والكاتب الإيراني عبد الكريم سوروش, وهو من مواليد 1945, هو أحد رواد الثقافة الشرعية في إيران. في بداية الثمانينيات كان سوروش نجماً تحتفي به وبمقالاته التلفزة والصحافة الإيرانية, واعتبِر منظراً لأيديولوجية حزب الجمهورية الإسلامية. ولكن سوروش كمنظر فلسفي جمع بين الدراستين الدينية والغربية الحديثة كان أحد الأرواح الجوّالة التي لا تقر في حيز مغلق.

"
الكيان النضالي كيان بنى فكره وانتهى, ومسألة الفهم لديه مسألة محسومة, وهذا ما يجعل الأرواح الحرة والمتمرحلة ما تزال تنتقل من رؤية إلى أخرى أرحب منها
"

خلال التسعينيات, أخذ سوروش يمارس النقد والمراجعة التي أحدثت التباين بين مساره والمسار الجامد والتقليدي لأدبيات وأصول الثورة الإسلامية. انصرف سوروش إلى التحذير من الاستبداد السياسي الذي تحمله الثورة الإسلامية, ومبدأ ولاية الفقيه الذي تقوم عليه, والذي اختط لنفسه درب الحكم المطلق.

كما انتقد سوروش غياب العناصر العقلانية في داخل آلية عمل الجمهورية الإسلامية, مما عرضه للنفي وفقدان المنصب, وأصبح سوروش أحد أصوات الاحتجاج المسموعة بقوة في الشأن الإيراني.

أيضاً الشيخ السعودي سلمان العودة كان نجماً لحركة الصحوة, ويلتف حوله الحركيون من كل جهة.. مجمل الحركات الإسلامية في المنطقة كانت مكتظة بالنضاليات والصراع, وكان لديها استعدادات ومواقف لخلق صراع مع كل ما هو فوق الأرض وتحت السماء.

لا يمكن إحصاء وتقصي الكمية الوافرة من النقد والهجوم الذي تعرض له العودة حين استبان كثير من أهل الحراك تباين دربه النقدي عن دروبهم. انطلق العودة, صاحب الحضور الإعلامي والكتابي الغزير, وتجوّل بعيداً عنهم في مراجعات فكرية ونقد ثقافي, في المدار الاجتماعي خصوصاً.. وتركهم من خلفه, يتجادلون, حول أفكار بعضهم البعض, وحول ألفاظ بعضهم البعض, وحول نوايا بعضهم البعض!!

والمرجع الشيعي السيد حسين فضل الله (1935-2010) كان مؤسساً ومرجعاً لحزب الله اللبناني. بعد فترة حدث هناك تباين سياسي وعقدي بين فضل الله, صاحب الإنتاج الفكري والفقهي, والحزب الذي أًصر على مبدأ ولاية الفقيه, والمرجعية لإيران. لم يدم الارتباط بينهم لأن فضل الله, كمفكر جوال, يدين للحقيقة التي يؤمن بها, وليس كالحزب الذي يتجمد عند أجندته الخاصة, ويكون مستعداً لأن ينفصل عن الواقع وعن الوعي من أجلها.

يقول الدكتور محمد الأحمري في حديث له عن فضل الله ".. اضطر الحزب أن يخالف الشيخ ويسند مرجعيته أو ولاءه لطهران، لأسباب منها مالية وسياسية، ولسبب كبير لا يناقش كثيرا، وهو أن الأحزاب القارة لا تتحمل أن يقودها مفكر جوال الفكر، إذ يمكنه أن ينشئها ويربّط أسسها، ثم ينطلق هو فتتجمد هي، وتلك سنة راسخة مدى الدهر، وتلتزم بها طبائع العقول والفطر، فالأحزاب والحكومات تحب الإداري البيروقراطي الثابت".

الحس الفكري والثقافي لدى هذه النماذج هو الذي حماها من الجمود والتراجع, وجعل منها مصدر إنتاج وعطاء لوعي الفهم والفكر الذي لا تستقيم حياة بدونه. والمطمح هنا هو أن نشاهد هذا النموذج من التفرد والقدرة على الوعي والاستقلال الفكري يروج وينتشر بين قطاعات واسعة من الناس؛ لا أن يقتصر فقط على نماذج فردية ونخبوية.

دور نقدي وثقافي
المشاكل الكبرى كالحروب والفتن يكون لها أثرٌ فادح وواضح يمكن من مراجعة الأخطاء وتوضيحها. لكن الحروب اليومية الصغيرة والمعتادة التي تستهلك المجتمعات, وتصعّب عليها دروب المعرفة والتنمية, لا تبرز لها نتائج واضحة تمكن من التوقف عندها ومراجعتها وتبيان الخلل فيها.

"
اليوم جاء دور النخبة المثقفة الناقدة (الإنتلجنسيا) في العالم العربي كي تمتلك دورها, وتراجع إخفاقها وضعفها السابق, وأن تخرج صوتها المخنوق بين زحمة الأبواق الصراعية والنضالية
"

هناك حاجة ملحة لانتشار وتمدد مدارس نهضوية وإصلاحية كتلك التي انطفأت أنوارها سابقاً, ولم يكن لها نصيب من الشعبية والرواج.. إنه اليوم دور النخبة المثقفة الناقدة (الإنتلجنسيا) في العالم العربي كي تمتلك دورها, وتراجع إخفاقها وضعفها السابق, وأن تخرج صوتها المخنوق بين زحمة الأبواق الصراعية والنضالية التي سلبت الجماهير واحتكرت الطريق.

يتحدث خلدون النقيب في كتابه السالف عن ملامح أربعة تميز طبقة الإنتلجنسيا "الاستقلالية النسبية عن السلطة.. معاداة الوضع القائم (status quo) ونقد النظام الاجتماعي والسياسي.. امتلاك النزعة الإنسانية التحررية.. وأخيراً, الجمع بين التنظير والعقل الاجتماعي والسياسي"(ص 404).

المجال الحيوي لعلاقات القوة قد تبدل اليوم. لم يعد موجوداً في فم البندقية والمدفع, بقدر ما يتمظهر في علاقات ضغط وذكاء وهيمنة ورأي عام ومصالح.. وهذا ما يجلّي الدور المهم لهذه الطبقة, والمتمثل في تفكيك خطابات الهيمنة ثقافيا من أجل تقديم بديل واع ومستنير, يحسن القصد إلى قضاياه, ولا يُستلَب عبر صراعيات زائدة أو نضاليات متكلفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.