في التغريب وحصان طروادة

في التغريب وحصان طروادة - الكاتب: فاتح كريكار



العلماني في بلاد المسلمين كمدمن مخدر، كلما نصحته بالتخلي عنه استغرب ورد نصْحك مقلوبا وهو يترنح: أنت يا ناصحي لا تعرف عالم النشوة وأجواءه النفسية! تعال وتمتع مثلي بالحياة.. تراهم بشقيهم الليبرالي واليساري ما زالوا ينصحوننا مضللين بالصبر على مشروعهم الذي يحكمنا منذ انقلابهم العسكري الأول على سلطاننا عام 1908.

مرت مائة سنة على سلطانهم المطلق، عسكريتاريًا ومخابرات، حكومات ومحاكم، إفلاس خزائن وتراكمات ديون.. فكفروا بأنعم الله وأحلوا قومهم دار البوار.

"
كلما ذكّرنا العلمانيين بأن نجاح الثورات في بيئاتها لا يعني بالضرورة نجاحها في بيئات أخرى، فلسفوا هراءهم جوابا وجعلوا الأمر نظرية فيثاغورث واحتكروا تفسيرها, واتهمونا بالأمية الفكرية والغباء السياسي والتحجر الديني!
"

كلما ذكّرناهم بالمعادلة السهلة: إن نجاح الثورات في بيئاتها لا يعني بالضرورة نجاحها في بيئات أخرى، فلسفوا هراءهم جوابا وجعلوا الأمر نظرية فيثاغورث واحتكروا تفسيرها.. واتهمونا بالأمية الفكرية والغباء السياسي والتحجر الديني!

أغلبهم يمنّ علينا بإرشادنا إلى التفتيش عن مارتن لوثر إسلامي! جاهلا ومتجاهلا أن ثورة مارتن لوثر في ألمانيا عام 1517 ثم في كل أوروبا كانت حاجة ملحة لاستحداث تغيير في الرؤية المسيحية الأوروبية للإنسان والكون والحياة، وهي تحكم بأهواء المنحرفين، لذا جاءت دعوته لإعادة قراءة النصوص وتفسيرها.. وثورتكم (وهي طبل غوغائي أجوف) تأتي من السلطة ضد الأمة! ضد شريعتنا التي انبثقت من عقيدتنا مستجيبة لحاجات الأمة التي حكمت نصف الكرة الأرضية.

وفّر الغرب لنجاح اللوثرية وسيلة لم تقل أهمية من مضمون دعوتها وهي الطباعة.. ففي الوقت الذي صمم غوتنبيرغ الطباعة ظهرت دعوة مارتن لوثر.. وتدخلت رأسمالية النبلاء النامية حديثا لتشكل ثلاثية النجاح: فكر يطالب بالتغير، وآلية تنشره بسهولة، ورأسمال يؤازره.

فما الذي وفّره العلمانيون وهم ما زالوا غرباء في مجتمعاتنا؟ يكتبون في بهو السفارات أو في الفنادق المرفهة ويريدون استحداث حركة اجتماعية! يطالبون -وهم الأميّون- ابن رشدنا بالإصلاح الديني! يسيَّرون سفن الخيال خالي اليدين في الربع الخالي؟! أهؤلاء مصلحون أم هم حصان طروادة حملوا أصنام خصومنا في أحشائهم وأدخلوها كعبتنا وهم في ملابس الإحرام؟

لما تاهت أوروبا في بداية جاهليتها المعاصرة وهي تريد التخلص كليا من الإرث الثقيل للكنيسة وسلطانها، هربت الشعوب مع المنظرين كالمحتجزين في باستيل.. لم يكن يهمهم إلا الانفلات والتخلص من حكم الكنيسة والملوك لا إلى اتجاه يرشد.. وبعدما التقطوا أنفاسا، استناروا بنظريات ورؤى متباينة، عادوا إلى فلسفة أرسطو ثم إلى عقليات هولباخ، اتجهوا إلى سياسة جون لوك ومونتسكيو، وأعادوا بناء الأسر على تعاريف دوركايم وسبنسر، واسترشدوا بروسو وشاتوبريان.. وتبنوا عقل نيتشه وهيغل، لم يقبل بسمارك غير عقل هيغل موجها في بلاده! ثم انتهجوا حقد ماركس وإنجلز سبيلا لثورة جديدة! كلما تبنوا رؤية مما أفرزها تيه الظلمات تخلوا عنها في أقل من خمسين عاما، ولم يذكروها إلا تاريخا!

هكذا أصبح الغربي في أواسط القرن الثامن عشر لا يرى الدنيا إلا غابة، الهدف فيها إشباع الغرائز.. ووجد الحكام الجدد في الداروينية المجال الحيوي لإشباع غريزتهم التدميرية! ويومها كان الانقلاب الصناعي في أوجه فتوتها.. ومرة أخرى تدخلت الرأسمالية التي أصبحت يومها نظاما يوجه المجتمعات فولدت ثانية ثلاثية النجاح (الفكر الاستعماري والانقلاب الصناعي والمال اللازم).. فانبثق وانتشر من الغرب "الحضاري" الشر كله.. ولم يتوقف إلا بحربين عالميتين حصدت أرواح واحد وخمسين مليون شخص! دمرت كل شيء بلا هدف بعدما حولت داروينية بأيديولوجية إلى داروينية اجتماعية وسياسية!! احتاجت أوروبا بعدهما خمسين عاما لإعادة بنائها، ومائة عام لإلغاء الداروينية، ولكن بعد خراب البصرة.. والغريب أن العلمانيين في بلادنا بدل التراجع عن انبهارهم الأجوف زادتهم الأفكار الهدامة المنبثقة من العبث الغربي سكرا وهم لا يشعرون؟!

ما أن عادت الحيوية بعد الحرب الأوروبية الثانية إلى الغرب مرة أخرى حتى استحدثوا من قلوبهم الرحيمة "نظرية حقوق الإنسان"، فوظفوا لترويجها سيلا عرمرما من الإعلام الهادر، وجاءت شبكة الإنترنت لتدخل بشارة ميلادها كل بيت.. ونظامهم الرأسمالي الذي كان بحاجة إلى المواد الأولية والأسواق ثانية، أنشأت الرأسمالية الغربية شركات متعددة الجنسيات.. فجاءتنا ومن الغرب ثلاثية عدوانية جديدة (حقوق الإنسان، والإنترنت، وبيع الحروب)! في زمن لم يعد العلماني يستحي بالانضمام إلى جبهة الغرب علنا ويشارك من يدق طبول حروبها.

"
جاءنا الغرب في البعد الفكري باسم العلمانية وفي البعد السياسي باسم الديمقراطية وفي البعد الاقتصادي باسم الرأسمالية وفي البعد القيمي باسم حقوق الإنسان, وكلها زيف ودعاوى
"

وجد الغرب حصوننا محمية بوجهه في الخارج، مأمونة مستقرة في الداخل.. فركز هجومه على إسلامنا الحارس اليقظ! فبدأ مع الإيعاز للفئة الحاكمة بالتصفية الجسدية لطلائع الإسلام، وترويع الأمة بغية تركيعها أمام مشروعه المدلس.. وقام هو بالتضليل الجديد في أبعاد الصراع، وبأسماء رنانة هي زخرف القول غرور.. جاءنا في البعد الفكري باسم العلمانية، وفي البعد السياسي باسم الديمقراطية، وفي البعد الاقتصادي باسم الرأسمالية، وفي البعد القيمي باسم حقوق الإنسان! وكلها زيف ودعاوى لم ينتج منذ مائة سنة من سنيّ سيدنا يوسف إلا الجوع والخوف وضياع الانتماء:

ـ البعد الفكري: طرح الغرب العلمانية رؤية ومنهجا.. أرضية فكرية يقوم عليها المجتمع البشري.. كانت العلمانية في بلادهم حركة اجتماعية نمت وترعرت خلال أكثر من ثلاثمائة عام، وفي بلادنا لم تكن إلا خطة لفصل الدين عن الدولة.. ففرضوها على بلادنا بقوة القهر والسلطان، وأرادوا ممن فرضوهم النتائج خلال أقل من ثلاث سنوات!

ولكي يهمشوا الإسلام في الصراع قالوا لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة.. كي يزيحوا حارس أمتنا الأمين أمام مشروعهم الغريب، وقد علموا أن ذراعي التوحيد والجهاد يمثلان عقيدة القتال وطاقة النزال.. فاتهموا كل من يحسن الظن بالإسلام بالتخلف، وكل من يؤمن بحكم الشرع بالتحجر والتكلس الذهني!! ومن يطالب بتحكيم الشريعة بالخروج عن القانون!! فصارت العلمانية حربا على الإسلام! واصطدمت عبثا بالإسلام الغالب فلم تسطع له نقبا!

العلمانية في الغرب سمحت ولا تزال بكل ألوان التباين والاختلاف وما يسمونه بالبلوراليزم (قراءات مختلفة للنص الواحد)، وسمحت ولا تزال بتشكيل الأحزاب المسيحية لتدخل معترك التنافس السياسي، لكنها في بلادنا ليست إلا عبدا مأمورا لم تعرف إلا "حاضر أفندم" وعد السياط.

ـ البعد السياسي: بعد التناحر والتقاتل والحروب التي طالت سنين اقتنع الغرب بالديمقراطية منقذا، لأن الأرضية الفكرية الحرة سمحت بانبثاق رؤى سياسية متباينة، فانقطع السطو على السلطة واضمحلت التوتاليتارية، فتشكلت هيئات التشريع والتنفيذ والقضاء الحر والإعلام المحايد بالرضا والاختيار، فاستسلم المجتمع للقانون طوعا، وشارك الكل في بناء الدولة والمجتمع حسب التعاقد الاجتماعي.

لكن الغرب نفسه خرج من غابته المنظمة إلى العالمين محاربا مدلسا باسم الديمقراطية ولأجل الديمقراطية وحقوق الإنسان!! هاجموا، احتلوا، حكموا بالمباشر وغير المباشر، آزروا الجندي المجهول ليقوم بانقلابه الجنوني، آزروا العائلة الأمية الحقودة لتمسك تلابيب الحكم لتنشر الجهل والتخلف والخراب، أوصلوا شرذمة منبوذة باسم الحزب إلى دفة الحكم ليهلك الحرث والنسل.. وما زالوا هم كذلك، وأشرارنا في الطابور ينتطرون!

الديمقراطية في الغرب مولود طوى مع الآلام مراحل الحمل، ومخاض الميلاد، شاب وترعرع.. سمحت ديمقراطيتهم بحرية الاعتقاد والتعبير، وبالتجمع والمشاركة السياسية، وبالمراقبة والمحاسبة.. شفافية في الحكم، كل الشعب يعرف مَن في المدارس ومن في المخابرات، يعرف من في السجون ولماذا، ومن يحاكم من وبماذا، ويعرف الشعب كله المال الخاص للمسؤولين قبل ارتقاء المنصب وخلاله وبعد تركه.

كل معلومة عن الدولة والمجتمع متوفرة بصدق أمام الكل، ليشارك الكل في البناء.. هذه الديمقراطية إنتاج.. إنتاج عقول وأفكار، هي زبدة ما اجتمعوا عليها في الغابة.. العلماني في بلادنا يعتقد أن الغرب سيعطينا ديمقراطيته لنبني أنفسنا منافسين له!! الديمقراطية في الغرب أقوى من أسلحتهم، وأنفع من أدويتهم، وأسلس من إنترنتهم، فهل من المعقول أن يعطوننا إياه مجانا وهم لا يعطون مريضا دواء؟!

ـ البعد الاقتصادي: من مكونات الشخصية الغربية التي يعرفُّنا عليها تاريخهم المدون منذ ما قبل الإغريق والرومان إلى اليوم: الأنانية، والفردانية، والمادية.. لذلك سهل عليهم قبول التحليلات الجنسية لفرويد، ونفعية وليم جيمس، ومادية ماركس، وتناطح داروين، وأخيرا صراع الحضارات لهانتغتون!!

فهم يعيشون ليأكلوا، وليجمعوا، وليمتلكوا، وليتفاخروا.. الغني السارق شريف، وشركته مرموقة ولو اختطفها من جيبوتي، الحزب الشجاع والمخلص هو الذي قرر غزو بلاد الأفغان الفقراء، أو شارك في الابتزاز في الجزائر، أو اشترك سرا مع من سطا على حكم باكستان.. شركات أفلست في الغرب، ومترفون مهمشون مثل جي غارنر شاركوا في احتلال العراق أو أفغانستان فعادت شركاتهم شريفة إلى ساحات المنافسة.

أستراليا المترفة تبيع اليورانيوم لروسيا حسب رضا الطرفين، ولكن الغرب كله يمنع النيجر من بيع مائة غرام منه لبلد ما ليشتري به قوتا، والنيجر في عداد الدول التي تموت الألوف فيها جوعا!

داروينية الرؤوس توفر المجال لشراسة الحروب، وكلاهما يفسح المجال لشركات تبلع خيرات الشعوب عنوةً علنًا دون رقيب أو حسيب.. ثلاث سنوات كاملة وشركات البترول الأميركية تسرق بترول العراق عبر الأنابيب دون أن يكون عليها عداد!! وبعدما وضعوا العداد بدؤوا يأخذونها معاوضة بالأسلحة الخفيفة!! والعراق كانت فيه مصانع الأسلحة كالكلاشينكوف والمسدسات ولكن الاحتلال دمر كل شيء ليبيع في العراق كل ما لديه من مخلفات الحروب أو مهالك المخازن.. كالمنشار يذهبون فيقطعون، ويجيئون فيقطعون..

"
تفككت الأسر الغربية، وكثرت حالات الطلاق ووصلت إلى مستويات غريبة, وقلما تجد طفلا يترعرع في حضن والديه, فإما تجده محروما من حنان الأم أو من التوجيه "الرجولي" للأب
"

ـ البعد القيمي: كانت الأسرة الغربية كاثوليكية، كان ترابطها الأسري قويا، الاحترام والحنان كان متبادلا.. ولما أزيحت الكنيسة كليا عن الطريق تفككت العلاقات الأسرية، طرح المفكرون البدائل، كل من رؤيته.. والظلم الاجتماعي كان يزداد في كل يوم خصوصا على الضعفاء من النساء والأطفال.. بالأخص بعد الحرب العالمية الثانية.. إلى أن غلب الاتجاه الذي قال: تنظم كل العلاقات الأسرية بالقانون.

أمر الزواج والطلاق والنفقة والميراث كلها أصبحت تحت توجيه القانون.. حتى تربية الأولاد.. فعلّم الأولاد في المدارس أن علاقة أبيكم بكم ليس إلا الإشراف، ومتى ما قصر بحقكم قدموا شكوى ضده، ليُقتصَ منه، أو تُؤخذوا إلى محاضن تربوية حكومية.. فصار المتحكم في كل علاقة أسرية مهما كانت بسيطة وتافهة تحت رحمة فقرة قانون يراقب تنفيذه من تفككت أسرته سلفا!!

تفككت الأسر، وكثرت حالات الطلاق ووصلت إلى مستويات غريبة (في أوسلو حيث أعيش 63% من النساء مطلقات!) قلما تجد طفلا يترعرع في حضن والديه.. تجده محروما إما من حنان الأم أو من التوجيه "الرجولي" للأب.. لا تجد في مائة ألف بنت في السادسة عشرة من العمر عذراء واحدة! والقانون يمنع الزواج من هذه السن.. ومن بلغ السابعة عشرة من العمر يحاول أن يكون له استقلاليته في الحياة، والقانون يضمن أمانه ورزقه.. لكنه يتعرض لألوان الخداع والتضليل والارتعاش النفسي لأنه يواجه الحياة بمفرده، فلما ينهزم أمامها ينتحر.. وما زال صاحبي العلماني ينتظر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.