تحرير الحجاب في تركيا

تحرير الحجاب في تركيا



قفزت قضية الحجاب إلى واجهة المشهد التركي من جديد, والسبب هذه المرة كان التعميم الذي أصدره رئيس مجلس التعليم العالي الدكتور يوسف ضياء أوزجان والذي يمنع أساتذة الجامعات من طرد المحجبات من قاعات الجامعة وحلّ المسألة عبر تنظيم محضر من قبل رئاسة الجامعة، وذلك خلافا لقرار المحكمة الدستورية الصادر في عام 1997 والذي يقضي بطرد المحجبات من الجامعات حتى ولو لم يبق على تخرجهن سوى ساعات.

وهو قرار صدر إثر ما عرف بإنذار فبراير/شباط من العام نفسه من قبل الجيش والذي كان له الأثر الأكبر في دفع مؤسس الإسلام السياسي التركي نجم الدين أربكان إلى الاستقالة من رئاسة الحكومة.

وعليه فإن التعميم الذي أصدره مجلس التعليم العالي بشأن الحجاب فتح جدلا واسعا بين القوى السياسية التركية لتثير سجالات سياسية في المرحلة المقبلة حيث تستعد الحكومة برئاسة رجب طيب أردوغان لإعداد دستور جديد شامل للبلاد بعد الانتخابات البرلمانية المقررة في يوليو/تموز المقبل.

في الواقع, قضية الحجاب في تركيا هي قضية قديمة, بدأت كمشكلة مع سلسلة الإجراءات التي صدرت في عهد مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك (1923- 1938) عندما اتجه إلى فرض مجموعة من الجوانب المظهرية المتعلقة بالثياب على المواطن التركي، وذلك في إطار تطلعه إلى قطع صلة بلاده بالإسلام كهوية حضارية وإلحاقها بالغرب, فكانت سلسلة الأوامر المتعلقة بمنع ارتداء الطربوش والحجاب وأنواع من اللباس الطويل لصالح أنواع أخرى تظهر التركي بالمظهر المنسجم مع ما هو سائد في الغرب باعتبار أن الأخير هو النموذج الحضاري المنشود والنهائي.

في قضية الحجاب

"
برزت قضية الحجاب كقضية سياسية في تركيا عقب الانقلاب العسكري عام 1980, حيث تم بعد ذلك ليس منع المحجبات من دخول الجامعات فقط بل من سائر المعاهد والمدارس وباقي مؤسسات الدولة
"

برزت قضية الحجاب كقضية سياسية في تركيا عقب الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال كنعان أيفرين يوم 12 سبتمبر/أيلول 1980 حيث تم بعد ذلك ليس منع المحجبات من دخول الجامعات فقط بل من سائر المعاهد والمدارس وباقي مؤسسات الدولة, وهو أمر زاد من معاناة المحجبات في البلاد في وقت تقول فيه التقارير إن عدد الطالبات اللواتي اضطررن إلى مغادرة البلاد لاستكمال دارستهن تجاوز أربعين ألف طالبة, معظمهن اتجهن إلى دول مثل أميركا وألمانيا وهولندا والمجر وأذربيجان ومؤخرا سوريا ومصر.

وبين هؤلاء بنات بعض كبار المسؤولين بمن في ذلك ابنة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان التي درست في الجامعات الأميركية التي لا تحظر ارتداء الحجاب، في حين تركيا البلد المسلم (99% من السكان مسلمون) يمنع فيها ارتداء الحجاب!

وفي التجربة التاريخية ثمة قصص كفاحية ومأساوية معا في أروقة الجامعات والبرلمان.. من أمثال الطالبة نسيبة بولايجي، وهي أول طالبة محجبة دخلت قاعات الجامعة عام 1966 لتجد نفسها بعد ذلك خارج الجامعة, مرورا بقضية النائبة مروى قاوقجي في البرلمان عام 1999 التي اضطرت بعد ذلك للانتقال والإقامة في الخارج، وليس انتهاء بما تعرضت له زوجة رئيس الحكومة أمينة أردوغان التي منعت قبل فترة من دخول مركز "بيلكنت" الصحي التابع للقوات المسلحة لزيارة أحد المرضى!

من هنا, لا ينبغي النظر إلى القضايا الحياتية والسلوكية في تركيا، كتلك المتعلقة بارتداء الحجاب أو عدمه، كقضايا بسيطة, بل ينبغي النظر إليها كمسائل في غاية الحساسية, فالمسألة هنا تتعلق بنظرتين مختلفتين للدولة والمجتمع والدين, فحزب العدالة والتنمية ومعه باقي القوى الإسلامية ينظرون إلى مسألة رفع الحظر عن ارتداء الحجاب في إطار الحرية الشخصية والدينية التي تكفلها القوانين التركية والأوروبية, كما أنها تشكل نوعا من المصالحة التاريخية بين المجتمع والدولة عبر رفع الإجراءات القسرية التي فرضت على المواطنة التركية وهويتها الاجتماعية الحضارية باسم العلمانية منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923.

بينما ترى القوى العلمانية ولا سيما الجيش أن حزب العدالة والتنمية يريد من وراء هذه الخطوة وغيرها أسلمة المجتمع والدولة تدريجيا وتحقيق ثورة إسلامية مضادة، بما يعني كل ذلك القضاء على الأسس التي قامت عليها الجمهورية التركية, بل إن بعض الأوساط المتطرفة تذهب إلى حد القول إن حزب العدالة يخطط للعودة بالبلاد إلى نظام الخلافة الإسلامية.

وعليه, عندما نجح حزب العدالة والتنمية عام 2008 في تمرير مشروع قانون في البرلمان (بموافقة 411 صوتا من أصل 550 مقعدا) يسمح بارتداء الحجاب في الجامعات استنفرت "القوى العلمانية" ونجحت عبر المحكمة الدستورية العليا في إبطال مفعول القانون رغم مصادقة رئيس الجمهورية عبد الله غل, وهكذا تحولت قضية الحجاب في تركيا إلى قضية سياسية بامتياز, خيضت من أجلها العديد من المعارك السياسية.

حل دستوري
بعد النجاح الكبير لحزب العدالة والتنمية في الاستفتاء الدستوري الأخير والذي تم بموجبه تعديل 26 مادة من الدستور تتعلق جلها بالجسم القضائي والمحاكم المدنية والحريات الفردية، ثمة مناخ جديد في البلاد يشي بإمكانية إيجاد حل لقضية الحجاب في تركيا عبر حل دستوري.

"
من اللافت مواقف قوى المعارضة من التعميم الذي أصدره مجلس التعليم العالي, وهي مواقف تصب في خانة الإيجابية إزاء قضية رفع الحظر عن الحجاب بغض النظر عن دوافع هذه القوى
"

وحقيقة كان لافتا هذه المرة مواقف قوى المعارضة من التعميم الذي أصدره مجلس التعليم العالي, وهي مواقف تصب في خانة الإيجابية إزاء قضية رفع الحظر عن الحجاب بغض النظر عن دوافع هذه القوى وفي مواقفها:
1- حزب الشعب الجمهوري بزعامة كمال كليجدار أوغلو والذي يمثل الوريث التاريخي والشرعي لمسيرة كمال أتاتورك, فخلافا لمواقفه السابقة إزاء قضية الحجاب أعلن أوغلو أنه لا يوجد أي مانع لارتداء الحجاب في الجامعات, مؤكدا أنه لن يلجأ إلى المحكمة الدستورية لإبطال مفعول تعميم مجلس التعليم العالي بهذا الخصوص, بل إن الحزب وبعد اجتماع له أكد في بيان "إذا كان الحجاب يشكل عقبة أمام حق الطالبة في تحصيل التعليم فالحزب ضد أن يكون الحجاب ممنوعا".

2- موقف حزب الحركة القومية المتطرف بزعامة دولت باهجلي والذي كان شريكا لحزب العدالة والتنمية في مشروع القانون الذي قدم عام 2008 لرفع الحظر عن الحجاب، أعلن أن تعميم مجلس التعليم العالي غير كاف, مؤكدا ضرورة حسم القضية من خلال الأطر التشريعية.

3- حزب السلام والديمقراطية الكردي بزعامة صلاح الدين دميرتاش حيث أبدى هو الآخر موقفا إيجابيا من تعميم مجلس التعليم العالي, داعيا إلى تقديم تشريع يزيل اللبس القائم بينه وبين قرار المحكمة الدستورية العليا وكذلك قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بهذا الخصوص.

4- في الواقع, إذا كان معروفا موقف حزب العدالة والتنمية بهذا الخصوص, فإن ثمة مسألتين ينبغي التوقف عندهما في معرض فهم هذا الموقف، الأولى أن التعديلات الدستورية الأخيرة والتي جرى الاستفتاء بشأنها خلت من قضية الحجاب, وهذه مسألة لم تكن من دون معنى, بل لها دلالات في المعركة الجارية, وربما أراد الحزب من وراء ذلك عدم عرقلة التعديلات السابقة باعتبار أن قضية الحجاب لها حساسية خاصة.

الثانية أن الحزب يمكن أن لا يقدم على تقديم مشروع تعديل دستوري خاص بالحجاب في البرلمان خوفا من أن يؤدي ذلك إلى استدراجه إلى فخ سياسي تمهيدا لرفع دعوى ضده بتهمة مناهضة أسس علمانية الدولة وبالتالي فتح الطريق أمام إمكانية حظره, لكن دون أن يعني هذا عدم وضع رفع الحظر عن الحجاب أولوية له في المرحلة المقبلة.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هو سر الموقف الإيجابي للقوى العلمانية إزاء قضية تحرير الحجاب ولا سيما من قبل حزب الشعب الجمهوري المعروف بولائه للجيش وعلمانيته إلى حد التطرف؟

تقول التقارير إن أكثر من 67% من النساء في تركيا ترتدين الحجاب, أي قرابة 18 مليون امرأة من أصل عدد سكان البلاد والبالغ نحو 75 مليون نسمة, وأن هناك إقبالا شديدا على ارتداء الحجاب في صفوف النساء وسط ظهور كثيف للمرأة في مواقع العمل وفي شتى المجالات. إنها أرقام ضخمة من الواضح أنها بدأت تسيل لعاب السياسيين الأتراك الطامحين إلى الفوز بالانتخابات المقبلة والبقاء في سدة المشهد السياسي.

ولعل هذا ما يفسر الخلفية الجديدة لموقف حزب الشعب الجمهوري ومن خلفه صمت الجيش إزاء تعميم مجلس التعليم العالي, إلى درجة أن هناك من يتحدث أنه بعد هذا التعميم لم يعد الحجاب ممنوعا على أرض الواقع.

"
لا يفكر أردوغان بتشريع قانون خاص في قضية الحجاب بقدر ما يفكر بإعداد دستور جديد شامل بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة يتم فيه وضع نهاية لمنع الحجاب في بلد إسلامي
"

وعليه, من الواضح أن التعميم السابق شرع الطريق أمام تحرير الحجاب وعبر الدستور, لكن من الواضح أن أردوغان ليس مستعجلا على ذلك, وهو في العمق لا يفكر بتشريع قانون خاص في هذا المجال بقدر ما يفكر بإعداد دستور جديد شامل بعد الانتخابات البرلمانية المقررة في الصيف المقبل يتم فيه وضع نهاية لمنع الحجاب في بلد إسلامي هو الوحيد بين البلدان الإسلامية التي تمنع فيها المرأة من ارتداء الحجاب في الجامعات ومؤسسات الدولة.

دستور جديد وشامل لا يريد أردوغان أن تقتصر مفاعليه على الحجاب بل أن يكون بمثابة ثورة إصلاحية دستورية تشمل القضايا الأخرى الحساسة في البلاد ولا سيما القضية الكردية, بما يؤدي إلى تحقيق مصالحة تاريخية منشودة بين الإسلام والعلمانية من جهة, وبين الدولة والمجتمع من جهة أخرى، تطلعا إلى دولة مركزية نموذجية مؤثرة وملهمة لغيرها في وقت واحد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.