حرية الإعلام في المغرب

حرية الإعلام في المغرب



فتحت أزمة "شبكة الجزيرة" والحكومة المغربية الأنظار على وضع حرية التعبير في المملكة، مثل توقيف "النشرة المغاربية" وتجميد القدرة على استعمال أهم مكتب للفضائية في بلدان المغرب الكبير، مع ما ترتب على ذلك من تسريح عشرات الموظفين، وكذلك إحالة مدير مكتب الجزيرة حسن الراشدي للمحاكمة وسحب اعتماده الصحفي.

وتوافق ذلك مع حكم قضائي بالإعدام الاقتصادي للصحيفة اليومية الأولى في المغرب (المساء) بصدور حكم قضائي بقرابة ثمانمائة ألف دولار عليها، أي قرابة ضعف الغرامات الصادرة في مجموع القضايا الصحفية في فرنسا عام 2007 (330 قضية تغطي أهم الصحف الفرنسية، ونجد فيها أهم الشخصيات السياسية)!

"
مشكلة حرية الإعلام في المغرب بدأت تتحول من مشكلة داخلية في المقام الأول إلى قضية عامة تطرح على بساط البحث سقف الحريات الصحفية في العالم العربي, خاصة وأن المملكة يقدّم كمثال في عدة دول غربية وعربية بوصفها تمتلك هامشا واسعا على صعيد حرية التعبير والعمل الإعلامي
"

هذا التغول يطرح على المراقب المتابع أسئلة كثيرة حوّل مشكلة حرية الإعلام في هذا البلد، التي بدأت تتحول من مشكلة داخلية في المقام الأول إلى قضية عامة تطرح على بساط البحث سقف الحريات الصحفية في العالم العربي، خاصة وأن المملكة المغربية تقدّم كمثال في عدة دول غربية وعربية بوصفها تمتلك هامشا واسعا على صعيد حرية التعبير والعمل الإعلامي.

أول هذه الأسئلة حول النظرة المخزنية لأصحاب القلم؟ (أقصد بالمخزن بنية الدولة المغربية التقليدية برموزها وطقوسها وهالة الطاعة والسرية والسلطان الضرورية لاستمرارها على الأقل منذ القرن السابع عشر). وثانيها حول المعاني العميقة والإمكانيات الخفية والمباشرة للتأثير عبر ثورة لم نصنعها ولكننا لسنا فقط في معمعانها بل من أوائل المستفيدين منها (ثورة الاتصالات). ثالثها نظرة النخب الثقافية والصحفية لنفسها وفكرة الدور عندها، وأخيرا وليس آخرا، كيف يمكن للسلطة التنفيذية في بلد كالمغرب أن تتعامل مع سلطة خارج السيطرة هي السلطة الرابعة في وضع اعتادت فيه السيطرة على كل تعبيرات السلطة في الدولة والمجتمع؟

تقدّر القيمة الفعلية لأي مشارك في الشأن العام في المغرب، أكثر أو أقل، تقدر من قبل المخزن تقديرا قريبا من الصحة، الأمر الذي يسمح له بتثبيت سلطته وتوسيع قاعدتها وتمكنها من تجنيد كوادر جديدة من المجتمع عبر الاصطياد المنتظم لما تقدمه الدينامية المجتمعية من طاقات.

مثله في ذلك مثل نمط الإنتاج الرأسمالي في القرن التاسع عشر، والكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى حيث كانت الأخيرة تشكل هيئتها الكنسية من الكادرات القادرة على تثبيت حكمها وتعزيز قوتها بغض النظر عن الخلفية الاجتماعية أو السياسية أو المدنية. من هنا وجود مكافآت خاصة (bonus) لمن يرفد المخزن من المجتمع الحقوقي والمدني والإعلامي وكذلك الراديكالي. ولا شك بأن الاستعداد والقابلية عند بعض الأشخاص يسهلان هذه المهمة بشكل كبير.

مواكبة مع هذا الوضع، ساهمت الدمقرطة العشوائية للمعرفة عبر ثورة الاتصالات، في خلق حالة اتساع وإعادة إنتاج مستمرة للمعارف والكلمات لم يعد من السهل استقطابها وتطويع كوادرها بالكامل في المنظومة المخزنية ولخدمتها. إلا أن المشكلات الاقتصادية وأزمات انسجام اختصاص الكوادر العلمية والأدبية مع الاحتياجات الفعلية للمجتمع تجعل تطويع وتدجين الصحفي والمثقف مهمة غير صعبة في بلداننا.

فثمة قطاعات واسعة من الكوادر المعرفية لا تبحث عن لقب بطل ولا يهمها الأمثولة الإغريقية للفيلسوف ولا تتعدى طموحاتها سلّم المصالح المباشرة في الهرم الاجتماعي و/أو السياسي. ويعرف الحاكم قبل المحكوم جيدا بأن الإلتزام ليس الكلمة السحرية لغالبية الصحفيين حتى في البلدان الأكثر اعتزازا بحرية الإعلام، وأن رفض جان بول سارتر لجائزة نوبل لا يحول دون وجود عشرات آلاف المتهافتين على التعيين في منصب من الدرجة الثالثة في مؤسسة أو صحيفة خدامة أو مكافأة مغمورة.

وبالتالي فهمت المنظومة المخزنية منذ تسعينيات القرن الماضي على الأقل، الطابع الزئبقي للمثقف، والقدرة على توظيف انسدادات المستقبل المهني ومشكلة اللقمة في زمن الأزمات، بل مختلف مداخل ومخارج ما يمكن تسميته تجارة البؤس (وهي بالمناسبة غربية المنشأ).

ما لم يستوعبه المخزن، هو أن التمرد عند البعض فيروس غير قابل للمعالجة، وأن خرق الفراغ جريمة يبحث عنها عدد كبير من الأحرار في المغرب وخارجه. وأن تدجين المؤسسات والأحزاب أحيانا أسهل من تدجين المواهب الفردية.

هنا تبدو معضلة صاحب القلم غير القابل للاحتواء، باستعمال جملة مأثورة لأدورنو، أي الإشكالية الحقيقية لمصطلح السلطة الرابعة في العالم العربي، ليس فقط بعلاقتها مع الدولة، وإنما أيضا بعلاقتها مع الناس. فقبل وبعد تجربة الفضائيات، كانت تجربة الصحافة المكتوبة من "الأستاذ" لعبد الله النديم إلى "المساء" تحاول أن تكسر كل أشكال الوساطة بين الصحفي والقارئ، في تحرير للألفاظ والكلمات من سلطان المراضاة المغري والسهل.

من صلب فكرة اشتعال الكلمات في مستنقع الواقع ولدت ممارسات نقدية ودينامية قادرة على الفعل والتأثير في أعلى هرم السلطة وأدناه، داخله وخارجه، في مغامرة حرية التعبير.

"
الحرية حنين ومشروع, ومن يحتقر رقابة الحاكم لا يمكن أن يخضع لقيود المحكوم، وبهذا المعنى لا يمكن أن ترضخ الكلمة الحرة لمصالح وضوابط وقيود مادامت لا تشكل عدوانا غير أخلاقي أي وسيلة تشهير وتزوير بحق الأشخاص والمؤسسات
"

فالحرية حنين ومشروع كما يقول جورج حنين، ومن يحتقر رقابة الحاكم لا يمكن أن يخضع لقيود المحكوم، وبهذا المعنى لا يمكن أن ترضخ الكلمة الحرة لمصالح وضوابط وقيود مادامت لا تشكل عدوانا غير أخلاقي، أي وسيلة تشهير وتزوير بحق الأشخاص والمؤسسات.

وعندما يقول لنا فريق "المساء" مثلا إنه لن يغادر التراب المغربي، ندرك المعاني العميقة لفكرة الالتزام، بالمعنى النبيل للكلمة. فعدد كبير من الصحفيين المغربيين يعرف أن له مكانا طبيعيا في صحف أوروبية كبيرة، ولكنه يعرف أن دوره في المغرب أكثر أهمية لأنه يتعدى الانتقال من صحيفة وثقافة لأخرى إلى استيعاب معاني وجود سلطة رابعة في المجتمعات النامية والانتقالية.

لم يعد بإمكان أي بلد أن يتنصب فوق ثورة الاتصالات التي خلقت تواصلا للعالم مع العالم بلا حدود. بل لعل في المقاومات البدائية لبضع السلطات التسلطية ما يعطي عكس المفعول تماما. فرغم أن نسبة الاعتقال السياسي بعلاقة مع عدد السكان في مصر والعراق أعلى بكثير منها في سوريا، جعل الجدار السوري في وجه حرية الإعلام من الاعتقال التعسفي في السنوات الخمس الأخيرة على صفحات الإنترنت أهم سمات الوضع السوري.

بحيث نسمع أحاديث عن عشرة آلاف وخمسة عشر ألفا، والعدد الصحيح لا يتجاوز الآلاف الثلاثة بأعلى الأرقام. لماذا؟ لأن صمت السلطة ومنعها للأصوات الحرة الناقدة يفتح الشهية لكل الشائعات. ويجعل من الدكتاتورية الموضوع المثير في المعمعان الفوضوي والعشوائي لثورة الإعلام.

ولعل الدكتاتوريات تصل يوما إلى نتيجة منطقية وعقلانية تقول إن عدم انقراض تماسيح الحجب والرقابة وبال عليها أولا، لأن هذه الفوضى الانتقالية أوجدت شعورا، حقيقيا أو كاذبا، بأن كل مشارك فيها، طرف كامل العضوية في الفعل الثوري ألمشهدي، وبالتالي قادر على استعماله وتوظيفه، إن لم يكن كمالك لوسيلة الإعلام، ففي الحد الأدنى كموضوع إثارة وجلب أنظار بل وتحريك مشاعر. وبذلك فقد شوهت، حتى لا نقول بتعبير متفائل حطمت، ما يسمى أشكال الرقابة والرقابة الذاتية التقليدية.

أنجبت ثورة الاتصالات سلطة رابعة على الصعيد العالمي، قبل أن يكون بوسعنا الحديث عن سلطة رابعة في كل كيان سياسي وطني، أي أن البشرية، وبعكس آليات بناء السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية التي بدأت من الدولة الواحدة للإقليم الأوسع ثم العالمي، اكتشفت القدرة الفعلية للثورة الإعلامية بآلية معاكسة تماما تجعل سيطرة الدولة على الإعلام إجراء لاحقا لاكتشاف عولمته وعوالمه.

كل هذه المواصفات غير النمطية للسلطة الرابعة تخلق حالة اضطراب عند السلطات السياسية والأمنية في التعامل معها. وتضطر الأخيرة، بحكم طابعها غير الديمقراطي، إما أن تأخذ موقفا تونسيا سوريا يقوم على الحروب الاستباقية بما يحمله ذلك من صورة رديئة للحاكم كما أوضحت أعلاه، أو اللجوء إلى النمط المصري المغربي القائم على مبدأ "دعه يعمل تحت العين وحاسبه بحيث ترى كل عين".

بالطبع، ولأسباب عديدة، يطالب الناس الصحافة في أحيان كثيرة بما يتجاوز وظيفتها، ولأسباب كثيرة، يقوم الصحفي بدور الملتزم بالمعنى الواسع للكلمة وليس فقط بالمعنى المهني. في ظل سلطات متنورة، يشكل هذا الوضع حالة انتقال صحية بين جيلين بعدة معان لكلمة الجيل، المعنى الأيديولوجي، المعنى السياسي البراغماتي، المعنى النقابي، المعنى الاقتصادي والمهني، المعنى الثقافي.

لأن حالة الانتقال هذه تخلق فراغات يصعب على الحركة السياسية والمدنية التعامل معها. أما في ظل تراجع الحريات، فيعتبر هذا الدور خطرا على أمن الدولة!

أشارك صديقي المصطفى صوليح في أن الاستمرارية هي المنظم الأساسي لتمحين حرية التعبير في المملكة المغربية. وأن قانون مكافحة الإرهاب وتعديل قانون الصحافة عام 2002 ليست المحطات المفصلية في العلاقة بين المقاومة المدنية وسيرورة تشكل السلطة الرابعة في المغرب من جهة والمنظومة المخزنية من جهة ثانية, بقدر ما يتعلق الأمر بآليات إعادة بناء السلطة لنفسها بين ملكين.

ولعل أكثر من تقرير وبحث تفصيلي يوضح هذه المسألة التي تابعناها في المشهد المتقن الإعداد والإخراج لهيئة الإنصاف والمصالحة، وتصرفات المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي لم يمتنع مؤخرا وفي حالتين، عن رفع دعاوى قضائية بحق الصحفيين.

"
الاستشراس المدروس ضد الصحافة المستقلة هو المؤشر الأهم على قوتها واتصالها بالناس والحدث والفعل الاحتجاجي، أي عزمها على أن لا تكون شريكا في المنظومة السائدة، وأن تفتح أبوابا أخرى تعمق معرفة الذات وتنير معالم اختيارات مجتمعية جديدة
"

إن الغياب الدستوري لتعبير السلطة القضائية في المغرب والتحجيم المزمن للسلطة التشريعية يجعل السلطة الرابعة والسلطة المضادة (أي التعبيرات الدينامية للفضاء غير الحكومي) المصدر الأهم للاحتجاج السلمي الفعّال، من هنا ضرورة تحويل الصحفيين المشاغبين إلى رهائن برسم جلسات قضاء التعليمات، بل وزجهم في ملفات إرهابية كما يحدث مع عبد الحفيظ السريتي الصحفي في قناة المنار، رفع ضبع الإفلاس في وجه الصحف المستقلة غير القابلة للتدجين (حالة "الأسبوع الصحفي"، "لوجورنال"، "نيشان"، "الأيام"، "الصحيفة" سابقا) وحرمان صحفيين من مزاولة مهنتهم الإعلامية سواء بشكل نهائي (أبو بكر الجامعي مدير جريدة لوجورنال سابقا) أو لأمد يصل إلى عشر سنوات (علي لمرابط مدير جريدتي دومان بالعربية والفرنسية). سحب بطاقة الاعتماد من مدير مكتب قناة الجزيرة بالرباط حسن الراشدي، ومحاكمته وتغريمه ماليا، تثبيت الحكم على الصحافي رشيد نيني مدير جريدة المساء بأداء تعويض مالي قدره 600 مليون سنتيم (824 ألف دولار) لفائدة أربعة مشتكين يحملون صفة نواب لوكيل الملك (النيابة العامة) في مدينة القصر الكبير، وأداء غرامة مالية تبلغ 120 ألف درهم للخزينة العامة للدولة يوم 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أو ما أصبح يعرف بقضاء القضاء على صحيفة المساء.

هذه العقوبة القرقوشية القاتلة، احتاجت لكي تؤكد رأي المتشائمين بأوضاع حرية التعبير في المغرب، لسلوك سريالي من نمط خاص يوم أقام المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان دعوتين استعجاليتين لدى المحكمة الابتدائية بالرباط ضد كل من يومية "الجريدة الأولى"،  "الحياة الأسبوعية" على التوالي، من أجل أمرهما بوقف نشر شهادات سبق أن تم الإدلاء بها من قبل ضحايا ومزامنين لسنوات "الجمر والرصاص" أمام "هيئة الإنصاف والمصالحة" المنحلة، وهو ما استجابت له المحكمة فقضت بإيقاف هذا النشر مع غرامة تهديدية مالية عن كل يوم تأخير في الانضباط لهذا الحكم.

فإذا ما أضفنا ملاحقات مواقع الإنترنت بل والطلب لمحطات تلفزيونية غربية عدم دعوة رموز معارضة سياسية أو أقلام ناقدة كما حصل في إسبانيا مؤخرا، يظهر مدى الخوف من عملية تشكل السلطة الرابعة في المغرب.

رغم كل هذه الإجراءات التعسفية والضربات القاتلة، يمكن القول إن هذا الاستشراس المدروس ضد الصحافة المستقلة هو المؤشر الأهم على قوتها واتصالها بالناس والحدث والفعل الاحتجاجي، أي عزمها على ألا تكون شريكا في المنظومة السائدة، وأن تفتح أبوابا أخرى تعمق معرفة الذات وتنير معالم اختيارات مجتمعية جديدة.
ــــــــــــــ
مفكر وناشط حقوقي عربي

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.