الإسلاميون في الانتخابات المحلية التركية بين أربكان وأردوغان

الإسلاميون في الانتخابات المحلية التركية.. بين أربكان وأردوغان



بين أربكان وأردوغان
حزب وجماعة
مآخذ السعادة على العدالة والتنمية

تعيش تركيا هذه الأيام من أدناها إلى أقصاها أجواء الانتخابات المحلية التي ستجرى يوم 29 مارس/آذار الحالي، وسط احتدام الحملات الانتخابية للأحزاب السياسية والكم الهائل من الوعود التي يقطعها المرشحون على أنفسهم وسيل من الاتهامات المتبادلة بين الحزب الحاكم والمعارضة.

والسؤال البديهي الذي يطرح نفسه في هذا السياق وسيجد جوابا له صباح اليوم التالي من الاقتراع هو: هل سيحافظ حزب العدالة والتنمية على شعبيته أم لا؟

في 22 يوليو/تموز 2007 حصل حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية على ما يقارب نصف الأصوات (46.58%) نتيجة للتعاطف الشعبي الذي حظي به لدى الشارع التركي إبان محاولة القوى العلمانية المتطرفة منع انتخاب عبد الله غل رئيسا للجمهورية، الأمر الذي حوََّل الانتخابات إلى استفتاء شعبي على رئاسة غل ومواصلة مسيرة الإصلاحات والديمقراطية، ودفع الناخبين باتجاه التصويت لصالح حزب العدالة والتنمية.

أما اليوم فلا شك أن الوضع مختلف، فالظروف تغيرت وعبد الله غل يتربع حاليا على كرسي الرئاسة وليس هناك خطر انقلاب محدق يحوم حول الحكومة التركية يستدعي معه التأييد الشعبي لإنقاذها، وبالتالي ستختلف العوامل المؤثرة على سلوك الناخبين وآرائهم حين توجههم إلى صناديق الاقتراع.

لكن هناك من يرى، إن على صعيد المحللين والمثقفين أو على صعيد الناخبين العاديين، أن الخطر على الديمقراطية في تركيا مستمر، وهو ما يستوجب دعم الحزب الحاكم لفترة إضافية لاستكمال الإصلاحات المطلوبة بغض النظر عن اعتبارات أخرى.

وهي رؤية قد تساعد حزب العدالة والتنمية في الحفاظ على شعبيته، إضافة إلى ميل الناخبين عادة في الانتخابات المحلية إلى التصويت لصالح مرشح الحزب الحاكم حتى يكون رئيس بلديتهم مقربا من الحكومة فتحظى مدينتهم بأكبر قدر من الخدمات والمشاريع.

بين أربكان وأردوغان

"
على الرغم من الإخفاقات المتتالية أمام حزب العدالة والتنمية، فإن حزب السعادة بقيادة رئيسه الجديد نعمان كورتولموش يتطلع في الانتخابات المحلية إلى تحقيق قفزة عالية واسترجاع أكبر قدر من شعبيته التي خطفها منه الحزب الحاكم
"

وبينما تثار التساؤلات حول ما إذا كان الحزب الحاكم سيحصل على النسبة العالية التي حصل عليها في الانتخابات الأخيرة أم لا، تتجه الأنظار إلى حزب السعادة باعتباره الممثل الأصلي للتيار الإسلامي الذي انشق عنه رجب طيب أردوغان ورفاقه ليؤسسوا حزب العدالة والتنمية، في محاولة لتحديد مدى قدرته على كسب أصوات الناخبين الذين صوتوا للحزب الحاكم في الانتخابات السابقة، علما أن حزب السعادة برئاسة زعيمه السابق رجائي قطان كان قد حصل على 2.49% في انتخابات الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 2002 وعلى 2.34% في انتخابات 22 يوليو/تموز 2007، في حين حصل حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان على 34.29% في الأولى وعلى 46.58% في الثانية. وهذا يعني أن الأتراك أيَّدوا حزب العدالة والتنمية على حساب حزب السعادة في الانتخابات التي خاضاها سويا.

وعلى الرغم من الإخفاقات المتتالية أمام حزب العدالة والتنمية، فإن حزب السعادة بقيادة رئيسه الجديد نعمان كورتولموش يتطلع في الانتخابات المحلية إلى تحقيق قفزة عالية واسترجاع أكبر قدر من شعبيته التي خطفها منه الحزب الحاكم.

وإن كان الزعيم الشاب نعمان كورتولموش تولى رئاسة الحزب أخيرا نتيجة لإلحاح الأوساط الشبابية داخل الحزب، فإن نجم الدين أربكان يبقى زعيمه الحقيقي ومرجعه الأساسي في جميع شؤونه، خاصة أن كورتولموش يفتقد رغم سمعته الطيبة إلى الشخصية الكاريزمية التي يتمتع بها كل من نجم الدين أربكان ورجب طيب أردوغان.

ولهذا فإن التنافس في الواقع يظل قائما بين رئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان ورئيس الوزراء الحالي رجب طيب أردوغان، أو بعبارة أخرى بين الأستاذ وتلميذه، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى الحديث ولو باختصار عن طبيعة الحزبين وما يجمعهما وما يفرّقهما لنفهم موقف الناخبين منهما.

حزب وجماعة
يعتبر حزب السعادة الحلقة الأخيرة من سلسلة الأحزاب التي كان أسسها تيار نجم الدين أربكان، وهو تيار إسلامي يطلق على نفسه "مللي غوروش" أي "الرأي الوطني" ويعتبر من أكبر الجماعات الإسلامية التركية.

وبينما يقوم حزب السعادة على أرضية جماعة إسلامية تنافس الجماعات الإسلامية الأخرى، فإن حزب العدالة والتنمية قائم على عموم الشعب التركي بكل أطيافه وقادر على احتواء جماعات إسلامية مختلفة تحت مظلته. وهنا يكمن سر الخلاف الشديد الذي وقع بين جماعة أسعد جوشان النقشبندية وجماعة أربكان، حيث زعم كل واحد منهما أنه الأصل والآخر فرع يجب أن يتبع الأصل.

وإن كان الالتزام بقواعد الحزب واحترام زعيمه أمرا مطلوبا في جميع الأحزاب السياسية، فإنه يعتبر طاعة مفروضة في حزب السعادة. فنجم الدين أربكان كزعيم للجماعة يُعدّ المرجع الوحيد ويجب طاعته وعدم الخروج عليه، وهو ما يحد من الآليات الديمقراطية داخل الحزب حيث يتم اختيار أعضائه في جميع مؤتمراته بعد أن يشير إليهم أربكان الذي يبقى الممسك الحقيقي بزمام الأمور كلها ويرسم حدود المساحة التي يمكن أن يتحرك في داخلها رجائي قوطان أو نعمان كرتولموش أو غيرهما.

إن هذا التداخل بين ما هو ديني وما هو سياسي هو الذي دفع جماعة فتح الله غولن ذات النفوذ والانتشار الواسع إلى تأييد حزب أردوغان على حساب حزب أربكان.

"
إذا كان حزب السعادة يقوم على أرضية جماعة إسلامية تنافس الجماعات الإسلامية الأخرى، فإن حزب العدالة والتنمية قائم على عموم الشعب التركي بكل أطيافه, وإذا كانت طاعة أربكان مفروضة فإن حزب العدالة والتنمية مبني على المشاركة وليس على سلطة الرجل الواحد
"

وهناك عامل آخر يعزز قبضة أربكان على حزب السعادة، وهو تولي ابنه وابنته مناصب قيادية في الحزب ومشاركتهما بشكل كثيف وفعال في أنشطته، ما حّوَّله في نظر بعض المراقبين من حزب سياسي إلى مؤسسة عائلية، بل ويذهب آخرون إلى أن أربكان الابن يتم تجهيزه ليرث زعامة أبيه، وأن نعمان كورتولموش سُمِحَ له في الوقت الراهن بتولي رئاسة الحزب لتتم تصفيته بعد إخفاقه أمام أردوغان في الانتخابات المحلية.

أما حزب العدالة والتنمية فهو مبني على عقلية المشاركة وليس على سلطة الرجل الواحد، يتبادل فيه أقطابه الأدوار والمهمات حسب الظروف والمؤهلات مقدمين مصلحة الحزب على المصالح الشخصية الضيقة.

إذ نلاحظ أنه بينما كان محظورا على أردوغان ممارسة العمل السياسي، تولى عبد الله غل رئاسة الوزراء ثم حمل حقيبة وزير الخارجية في رئاسة أردوغان للحكومة لتنتهي مسيرته مع حزب العدالة والتنمية بصعوده إلى قصر رئاسة الجمهورية.

وفي المقابل، فقد تولى أردوغان رئاسة الوزراء تاركا كرسي رئاسة الجمهورية –وهو أعلى منصب- لرفيق دربه عبد الله غل، في حين تولى بولنت أرينتش، وهو الضلع الثالث لمثلث القيادة في الحزب الحاكم، رئاسة البرلمان لمدة طويلة.

إن التخلي عن مثل منصب رئاسة الجمهورية، وهو بين يديه ينتظر قدومه وإيثار غيره على نفسه، لهو أمر في غاية الصعوبة، إن لم يكن من مستحيلات الحياة السياسية، ولكنه حدث بالفعل في حزب العدالة والتنمية، فأمسك أردوغان بعد جسه نبض الناخبين واستماعه إلى رأي الشارع بيد صاحبه ليرفعه من منصب أدنى من منصبه إلى منصب أعلى منه، في تضحية كافأها الشارع التركي بأصواته.

مآخذ السعادة على العدالة والتنمية
يركّز الموالون لأربكان في انتقاداتهم الموجهة إلى حزب العدالة والتنمية على أنه مشروع أميركي يعمل لصالح مشروع الشرق الأوسط الكبير، وأنه ذو توجه غربي في سياسته الخارجية يدير ظهره إلى العالم الإسلامي ويهمل قضايا المسلمين في الداخل والخارج، في حين يسعى حزب السعادة بقيادة أربكان الروحية إلى إنشاء تركيا الكبيرة من جديد والتكامل مع العالم الإسلامي ويولي الأهمية المطلوبة لقضايا الأمة.

وقد وصلت هذه الانتقادات في شدتها إلى مستويات استاء منها المنصفون من أعضاء حزب السعادة، كقول أربكان في أحد التجمعات الانتخابية بإسطنبول مخاطبا جماهير حزبه إنهم أبناء العثمانيين وأما المشاركون في تجمع حزب العدالة والتنمية بميدان آخر في إسطنبول فهم أبناء البيزنطيين.

وإن كان هناك من يظن أن السعادة حزب إسلامي وأن أربكان هو شيخ الإسلاميين في تركيا وأما حزب العدالة والتنمية فهو حزب علماني، فهو متوهم يجهل الواقع التركي، لأن الدستور التركي لا يسمح بتأسيس حزب سياسي على أسس دينية، فكلا الحزبين علماني يعمل في إطار دستور وقوانين النظام العلماني، وإنما الفرق بينهما كما أسلفنا آنفا أن أحدهما حزب وراءه جماعة إسلامية ويستخدم في أدبياته شعارات دينية ولكنه -بلا أدنى شك- لن يطبق الشريعة الإسلامية في حال وصوله إلى الحكم ولا يعد بها أصلا، وأما الآخر فيرفض مبدئيا تسميته بـ"حزب إسلامي" ويرى أن الإسلام لا يمكن أن يمثله حزب سياسي وأن زج الإسلام في التنافس السياسي يسيء إلى الإسلام نفسه، كما يتحاشى استخدام شعارات دينية في خطاباته.

ومهما كانت انتقادات قادة حزب السعادة الموجهة إلى حزب العدالة والتنمية شديدة اللهجة، فإنها تظل غير مقنعة في نظر كثير من الإسلاميين وعموم الشعب التركي، وتدحضها مواقف أردوغان وحكومته من قضايا المنطقة والعالم الإسلامي كدعم القضية الفلسطينية والوقوف بجانب أهالي غزة في الحرب الأخيرة وعدم سماح البرلمان التركي للولايات المتحدة باستخدام الأراضي التركية لاحتلال العراق، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول العربية والانفتاح على أفريقيا بالتوازي مع مواصلة مسيرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

"
المعطيات تشير إلى أن الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) سيحافظ على شعبيته في هذه الانتخابات, وقد تكون نسبة التصويت له أكثر بقليل مما حصل عليه في الانتخابات الماضية, أما حزب السعادة فلا يتوقع أن يحقق القفزة الكبيرة التي يتطلع إليها
"

وهناك مسألة مهمة تعيق حزب السعادة وتمنعه من حصد المزيد من الأصوات وهي أن حزب العدالة والتنمية أثبت قدرته على مواجهة القوى الانقلابية والانفلات من سيف الإغلاق المسلط على رأسه، بخلاف حزب السعادة الذي ينحدر من حركة سياسية أغلقت المحكمة الدستورية أحزابها الواحد تلو الآخر.

ولا بد في هذا السياق أن يشرح حزب السعادة للناخبين بشكل مقنع كيف سينجو من شبح الحظر في حال وصوله إلى الحكم وتطبيقه برنامجا أكثر "إسلامية" من برنامج حزب العدالة والتنمية، وإلا فستبقى وعوده مجرد شعارات جوفاء غير قابلة للتنفيذ، إذ إن القوى العلمانية المناوئة لحكومة أردوغان ستتكالب عليه لتشل حركته وتبعده عن السلطة، وإن كانت تشجعه حاليا بهدف إضعاف الحزب الحاكم، ولا يعقل أن تنصب تلك القوى عداءً لحزب معتدل كحزب العدالة والتنمية، ثم تسكت عن حزب السعادة وترضى عنه.

وبالعودة إلى الانتخابات المحلية، فإن المعطيات في مجملها تشير إلى أن الحزب الحاكم سيحافظ على شعبيته في هذه الانتخابات, وقد تكون نسبة التصويت له أكثر بقليل مما حصل عليه في الانتخابات الماضية أو قد تكون أقل بقليل، وأن الإسلاميين سيواصلون تأييدهم للحكومة في مواجهة القوى العلمانية المتسلطة.

أما حزب السعادة فلا يتوقع أن يحقق القفزة الكبيرة التي يتطلع إليها في ظل نجاح حزب العدالة والتنمية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.