خيارات إسرائيل بين تجديد التهدئة وتصعيد المواجهة

خيارات إسرائيل بين تجديد التهدئة وتصعيد المواجهة



جولة لم تكتمل
سيناريو افتراضي
البدائل المتوقعة
درس من حرب غزة

مهما قيل عن كلام وتسريبات عن اتفاق التهدئة الجديد، في ظل الشكل المتوقع للحكومة الإسرائيلية القادمة، فقد بدا واضحا لكل ذي بصر وبصيرة أن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة لم تحقق أهدافها، لا إسرائيليا ولا فلسطينيا ولا إقليميا، كيف ذلك؟


"
النقاش الجاري في مصر حول الإعلان عن اتفاق تهدئة لمدة عام أو عام ونصف، لا يقوى كثيرا على الصمود ما لم تكن إسرائيل الرسمية حاضرة في تفاصيله ومقرة ببنوده، ومتعهدة بالإيفاء باستحقاقاته
"

جولة لم تكتمل
إسرائيليا، فإن آلة الحرب الأعتى في المنطقة لم تنجح في الإطاحة بحماس وحكومتها في غزة رغم آثار الدمار المنتشرة في كافة أرجاء القطاع، ولم تسيطر على المقاتلين في ميدان المقاومة في مواجهات عز نظيرها في التاريخ العسكري الإسرائيلي الحديث والمعاصر.

وما زالت المقاومة تحتفظ بمخزونها "المعلن" على الأقل من القذائف الصاروخية التي تستطيع تذكير حكام تل أبيب بقدرتها على إزعاجهم بين الحين والآخر. أكثر من ذلك، فمن الواضح أن توسيع "بقعة الزيت" التي هددت بها كتائب القسام بات أمرا موثوقا به.

كما أن "تغيير الواقع الأمني" الذي بات "سمفونية" يرددها القادة الإسرائيليون -الساسة والعسكر على حد سواء- طوال فترة أيام الحرب، لم يجد طريقه للتنفيذ. وعلى العكس من ذلك، فقد "ترسخ" الواقع الأمني والسياسي، وخرجت حماس من هذه الحرب التدميرية أقوى من ذي قبل.

فلسطينيا، يبدو أن الأهداف التي رغبت في تحقيقها قوى المقاومة من وراء هذه المواجهة لم تجد طريقها للتنفيذ، لاسيما فيما يتعلق بفتح المعابر، والاعتراف بالحكومة القائمة، والتعامل معها كنظيرتها في رام الله، إلى حين تسوية الأزمة الفلسطينية الداخلية، ونصل إلى حكومة واحدة لسلطة مهترئة استنفدت فترة صلاحيتها منذ زمن، ويا ليت قومي يعلمون!

إقليميا، فإن المطالبة "بحز الرؤوس" التي سربت للإسرائيليين، ومنحوا بموجبه الضوء الأخضر، والسقف الزمني اللازم، أخفقت وباءت بالفشل، وبقيت حماس "غزة" في خاصرة بعض العواصم المجاورة، تعاني "صداعا مزمنا" من حدودها الشرقية تحديدا.

دوليا، للمرة الثانية "تخيب" إسرائيل ظن العالم، لاسيما الدول الصديقة والحليفة التي منحتها الدعم السياسي والغطاء العسكري والزمن المفتوح بدون حدود، ولم تنجح في يناير/كانون الثاني 2009 في إيقاع "الهزيمة" بتنظيم مسلح يخوض حرب عصابات، كما تكرر في حرب يوليو/تموز 2006.

هذه الوقائع تشير بما لا يدع مجالا للشك إلى أن الحرب لم تنته عمليا، بأبعادها السياسية والإستراتيجية، وما توقف فعلا هو هدير المدافع وأزيز الرصاص وغبار الدبابات، ليس أكثر، وأن الأطراف مجتمعة لم "تقض وطرها" من الحرب بعد.

وهذا ما يشجعها على العودة من جديد، سواء لتحسين شروط التفاوض، أو محاولة تطبيق توصيات منظريها العسكريين، والاطمئنان إلى أن مقاتلي الجانبين قد أتقنوا فنون المواجهة العسكرية، بصبغتها "الغزية" هذه المرة.


سيناريو افتراضي
في أعقاب انتهاء عملية "الرصاص المنصهر"، لم يبق مجال للنقاش في أن إسرائيل وحلفاءها من العرب والعجم لم ينتصروا، وفي المقابل فإن حماس وأخواتها لم تنكسر هي الأخرى، الأمر الذي يقفز بالأذهان تلقائيا إلى فرضية عدم تجديد التهدئة الهشة أصلا، حتى لو سمعنا عن تقدم هنا وموافقة هناك، فإسرائيل هي اللاعب الأساسي في هذا الملف العسكري الميداني البحت.

وما دامت الأطراف الفلسطينية والمصرية الماثلة أمامنا في المشهد السياسي، راغبة في تهدئة طويلة الأمد نسبيا، فماذا عن الطرف الإسرائيلي الذي سيتغير حتما خلال أيام قليلة، ولن أفسح خيال القارئ ليتصور طبيعة التحالفات المتوقعة في الحكومة الإسرائيلية القادمة.

النقاش الجاري في مصر حول الإعلان عن اتفاق تهدئة لمدة عام أو عام ونصف، لا يقوى كثيرا على الصمود ما لم تكن إسرائيل الرسمية حاضرة في تفاصيله، ومقرة ببنوده، ومتعهدة بالإيفاء باستحقاقاته، وإلا سنعود من حيث انتهينا، وتعود دورة الدمار الإسرائيلي من جديد في شوارع غزة وأزقتها، التي باتت تشكل ساحات جغرافية يتناثر بها الفلسطينيون، ولا يتقنون فيها سوى المهرجانات والاستقبالات، ومنح الهدايا والتحيات.

الحوادث الأخيرة التي أعقبت توقف العمليات نظريا، واستهدفت بعض المقاومين والمستوطنين، وعمليات متبادلة من قوى المقاومة وإسرائيل، تدفعنا للبحث عن طبيعة الرد الإسرائيلي المتوقع، ما دمنا نسمع ارتفاعا للهجة الساسة الإسرائيليين التي تهدد وتتوعد. ولو افترضنا أنها تهديدات انتخابية، فتعالوا بنا نرسم السيناريو المتوقع لحكومة مستقرة، يقف على رأسها أحد الثلاثي القادم، نتنياهو وليفني وباراك.

أي عملية قد تبادر إليها قوى المقاومة من الآن فصاعدا، سواء تفجيرا لدورية عسكرية، أو تكرارا لإطلاق صواريخ، أو عودة طال انتظارها للعمليات الاستشهادية، وربما من يعلم، الإتيان برفيق درب للجندي الأسير جلعاد شاليط يؤنسه في وحشته، ستعني للحكومة الإسرائيلية دون أدنى شك توجيه رد بصورة قوية ضد العناصر التي نفذت العملية، والرؤوس التي دبرتها وأرسلتها لتنفيذها.

لكن ذلك يتطلب منها وكجزء من استفادتها من حربها الأخيرة على غزة، أن توفر عددا من العوامل الأساسية، وهي:

أ‌) الإطار الزمني للعملية العسكرية.
ب) تحديد الأهداف المرشحة للهجوم عليها.
ت) الشروط الواجب توفرها لإنهائها.

وإلى جانب ذلك، ستكون الحكومة منساقة للموافقة على ما وصلها من قبل الجيش من معطيات وتوصيات عسكرية، آنية وإستراتيجية.

"
الاقتصاد الإسرائيلي في وضع يمكنه من توفير دعم وإسناد لمختلف التبعات الاقتصادية المحتملة لأي مواجهة عسكرية قاسية، كما حصل في المواجهة الأخيرة داخل قطاع غزة
"

البدائل المتوقعة
وفقا لقراءتي التقديرية، سيتحدد الرد الإسرائيلي المتوقع في نطاق ثلاثة بدائل أساسية:

الأول– عملية عسكرية محدودة، دون دخول قوات الجيش إلى قلب الأراضي الفلسطينية، إلى جانب القيام بجهود سياسية دبلوماسية، في محاولة للتأثير، أو إيصال رسائل إلى الأطراف الإقليمية، والدخول في مفاوضات مكثفة –غير مباشرة- مع قوى المقاومة، حماس تحديدا.

الخطوط العامة التي سترسم أمام صانع القرار حين ينظر لهذا البديل مشابهة إلى حد كبير لطبيعة الرد الإسرائيلي في أعقاب خطف شاليط أواسط 2006، وموجة الصواريخ المكثفة أواخر 2007، وهو ما يعني أن يتلخص رأي الساسة الإسرائيليين في أن بإمكاننا المضي قدما في نفس السياسة التي درجت عليها الدولة منذ سنوات.

ومع ذلك، فإن ردا إسرائيليا بهذه الوتيرة سيقابله استعداد متوقع من قبل قوى المقاومة، ما يعني بقاء الوضع القائم على حدود الجنوب محافظا عليه كما كان قبل اندلاع المواجهة، علما بأن الوزراء الإسرائيليين القادمين يدركون جيدا أن استحضار بديل آخر من شأنه التأثير في الجوانب التالية:

– المس بقوة الردع الإسرائيلي.
– إزالة تهديد حماس وقوتها العسكرية.
– حرية التحرك العسكري والعمل السياسي وتحسين الموقف الدبلوماسي.
– تغيير موازين القوى السائدة بين إسرائيل وحماس لصالح الأولى بالتأكيد.

لكن منذ اللحظة الأولى سيشعر وزير الدفاع القادم ورئيس هيئة أركانه أن ثغرات هذا البديل أكثر من إيجابياته، وبالتالي من الممكن الخروج بعملية سريعة قاسية تكون مثلا هجوما جويا مركزا على أهداف لحماس في الداخل والخارج، وربما في قلب عاصمة راعية لها.

الثغرة الجوهرية في هذا البديل تتمثل في افتقاد إسرائيل لوجهة الإصابة الحقيقية للقوة العسكرية التي تمتلكها حماس، ما يعني أن رد الحركة –المؤكد بصورة حتمية- قد يستدرج إسرائيل لعملية عسكرية لم تستعد لها جيدا، أو أن يتوقف إطلاق النار بسبب التدخلات الدولية، لكن بعدما تتعرض الجبهة الداخلية الإسرائيلية لضربات مؤلمة في الصميم.

الثاني- رد عسكري فوري مشابه لما ذكر في البديل الأول، شرط تحضير القوات العسكرية والجبهة الداخلية للدخول مستقبلا في مواجهة عسكرية مع حماس، بصورة أكثر دموية واشتباكا، لدرجة اقتراب المقاتلين من مرحلة "الاقتحام والالتحام".

يتضمن هذا البديل في جوهره وضع حد لسياسة "ضبط النفس"، لكنه في نفس الوقت يستحضر القوات العسكرية ويهيئ الجبهة الداخلية والجهاز السياسي لمواجهة مستقبلية من هذا النوع، وبالتالي بالإمكان المضي قدما في تفاصيله ومعطياته التي تقربنا أكثر إلى البديل الثالث لاحقا.

والثغرات التي تصيب البديل الثاني، هي ذاتها ثغرات البديل الأول، خاصة في كل ما يتعلق بالتبعات والآثار قصيرة المدى للرد الإسرائيلي.

عيب إضافي يزيد على ما سبق، أنه يستبعد إمكانية إحداث تغيير إستراتيجي في الوضع الميداني القائم -الأسوأ من نوعه- بين إسرائيل وحماس إلى موعد غير معلوم، في الوقت الذي تستمر فيه الحركة في "تسمين" قواتها وزيادتها.

الثالث- الدخول على الفور في عملية عسكرية وسياسية كبيرة، مع الإشارة بصورة واضحة إلى ضرورة الخروج بقرار يطالب بحرب ضد حركة حماس.

وتتمثل الإيجابية الأكثر وضوحا في هذا البديل لإسرائيل في عدم توقع الخصم له، وامتلاكه لقدرة على تقييد قوة الحركة، عقب القراءات الصحيحة التي وصلت إلى خلاصة مفادها بأن ضربة عسكرية قاسية ستأتي بنتائج أهمها توجيه ضربات قاضية لمنصات إطلاق الصواريخ التي ستشكل الرد الأكثر نجاعة لحماس.

وينبغي التنبيه إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي في وضع يمكنه من توفير دعم وإسناد لمختلف التبعات الاقتصادية المحتملة لأي مواجهة عسكرية قاسية، كما حصل في المواجهة الأخيرة داخل قطاع غزة، خاصة أن القدرة الفعالة للمقاومة في الضفة الغربية ضعفت إلى حد كبير للأسف الشديد.

"
سيحظى قرار الخروج بعملية عسكرية واسعة وتوجيه ضربات مؤلمة وثقيلة على التجمعات السكانية الفلسطينية، بتأييد واسع في أوساط الجمهور الإسرائيلي
"

كما سيحظى قرار الخروج بعملية عسكرية واسعة وتوجيه ضربات مؤلمة وثقيلة على التجمعات السكانية الفلسطينية، بتأييد واسع في أوساط الجمهور الإسرائيلي.

وباستثناء التغيير في طبيعة الوضع الميداني القائم باتجاه كسر الردع الذي مثلته حركة حماس في مواجهة إسرائيل، فإن عملية عسكرية واسعة بإمكانها أن تمس بصورة مباشرة وصعبة بقوة الحركة.

وبالتالي يجيء هذا البديل باتجاه المبادرة لعملية عسكرية واسعة، ليلغي مسبقا أي إمكانية لاستدراج إسرائيل إلى حرب بعكس إرادتها في أعقاب رد حماس، ولذا فإن نجاحها في عمليتها العسكرية سيردع الحركة طويلا، وربما يصل هذا الردع إلى عواصم مجاورة كما تعتقد تل أبيب.

الثغرة الأكثر وضوحا في هذا البديل، تتمثل في افتتاح معركة عسكرية دون استكمال المعطيات العملياتية والتحضيرات اللوجستية والجبهة الداخلية، لمواجهة متوقعة مع حماس.

ومع ذلك، فإن مواجهة عسكرية بين الطرفين في منطقة ليست كبيرة جغرافيا، وعددا ليس كبيرا من مقاتلي الحركة، وفي إطار حرب كاملة تعطي هامشا واسعا أمام الجيش الإسرائيلي للتحرك، سيكون ميزان القوى بالتأكيد لصالحه، وستكون يده العليا.

ورغم كل ما تقدم، يبقى هذا البديل الأكثر إغراء لصناع القرار الإسرائيليين، سواء ما تعلق بالقدرات البشرية للجيش، أو بالأهداف المفضلة أمامه، أو حتى بالمجتمع الإسرائيلي. وفي ظل هذا الوضوح الكامل، ينبغي الخروج إلى عملية عسكرية سريعة فورا، بعيد حصول أي عملية من المقاومة الفلسطينية.


درس من حرب غزة
الدروس والعبر التي استخلصها الجيش الإسرائيلي من حربه الأخيرة على غزة، ستبقى ماثلة أمامه في الغرف المغلقة والدورات التدريبية والتأهيلية لضباطه ومقاتليه. لكن أهم ثغرة تعتقد أوساط عسكرية أنه وقع فيها أنه وجه بالفعل ضربات جوية باتجاه أهداف لحركة حماس وحكومتها، لكنه في نفس الوقت "فرط" في وقت ثمين وكبير حين تأخر في إنزال القوات البرية إلى المعركة وإدخالها مجريات الحرب.

هنا، وهنا بالذات، افتقدت إسرائيل الفكرة العملياتية الحربية الواضحة والحاسمة التي منحت بصورة أو بأخرى نقاطا إيجابية لصالح حماس، ولذلك جاءت بداية العملية العسكرية "كمهمة عملياتية"، وانتهت "كحرب"، معبرة بصورة مؤسفة عن عدم الوضوح بالنسبة لتقدير حجم العملية العسكرية وتبعاتها، وبالتالي اتضح هذا الغموض في التأثير السلبي على تحديد أهداف الحرب وكيفية إنجازها.

ويحسب رأي عدد من الخبراء العسكريين الذين بدؤوا بتوجيه سهام نقدهم إلى الأداء العملياتي الإسرائيلي في الحرب الأخيرة، فإن السلوك المتوقع في أي حرب -تبدو قادمة وقريبة على أي من الجبهات المرشحة- يتمثل في توجيه هجمات جوية مكثفة ومركزة على أهداف معروفة لحركة حماس -مرة أخرى في الداخل والخارج- مع الحاجة الماسة إلى عملية برية في قلب غزة، وضرورة "خروج سياسي سريع" بالتنسيق مع الأطراف السياسية الإقليمية والدولية.

ومن وجهة نظر أصحاب هذا البديل، فإن خطوة كهذه ستحقق إنجازات سياسية وعسكرية إسرائيلية ذات قيمة كبيرة، دون أن تتكبد خسائر بشرية من قتلى وجرحى، وعبر اختصار مدة الحرب، وحماية الجبهة الداخلية من أي ضرر.

هذه السيناريوهات المتوقعة إسرائيليا في ضوء نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، كقراءة لتقديرات من الخارج، فماذا عن تقديرات المقاومة، وفرضياتها؟ قريبا نلتقي ونحاول رسمها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.