صفقة شاليط.. مرحلة جديدة وفجر جديد

صفقة شاليط.. مرحلة جديدة وفجر جديد



في ربع الساعة الأخير الذي يحسم صفقة "شاليط"، سلبا أم إيجابا، تخفق قلوب وتتلاحق أنفاس وترتجف أوصال على ضفتين متقابلتين بين يدي اقتراب الميقات المنتظر الذي طال أمده منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات.

الكلّ الفلسطيني يعيش اليوم أشد لحظاته عصبية وانشدادا عاطفيا مع تسارع خطى الصفقة، وتكرار التسريبات "المقصودة" التي تضفي على الفضاء الفلسطيني هالة من التفاؤل والاستبشار غير مسبوقة.

على جانب تقف حركة حماس وحركات المقاومة والفصائل المنتفعة من إنجاز الصفقة، عوضا عن أهالي الأسرى ومختلف شرائح وأطياف شعبنا الفلسطيني، الذين يترقبون ثانية بثانية دنوّ بارقة الأمل والخلاص التي تحمل أعزاءهم إلى أحضانهم وتعيدهم إلى موئلهم الطبيعي الذي حرموا منه قسرا فترة من الزمن تحت ثقل مطرقة الأحكام الإسرائيلية العنصرية التي لم تعرف معنى الرحمة أو سبيل التخفيف يوما ما.

"
تبدو الأمور فلسطينيا أشد ما تكون صعوبة وحساسية اليوم فيما يخص صفقة شاليط، فلكل طرف رهاناته المتناقضة وحساباته الخاصة التي تنبني عليها تطورات وتغيرات تمس صلب الوضع الفلسطيني
"

وعلى الجانب الآخر تقف شريحة محدودة تمثل سلطة رام الله وأوساطا عديدة داخل حركة فتح ومن لفّ لفها من المنتفعين وأصحاب المصالح والنفوذ، في ترقّب كامل وحذر منقطع النظير انتظارا لخبر عاجل يحمل لهم "بشرى" فشل الصفقة وانسداد الأفق أمام إمكانيات إنجازها، ويريحهم من تجشّم عناء ضربة سياسية ومعنوية جديدة تحمل طابعا قاسيا وتداعيات حساسة.

تبدو الأمور فلسطينيا أشد ما تكون صعوبة وحساسية اليوم، فلكل طرف رهاناته المتناقضة وحساباته الخاصة التي تنبني عليها تطورات وتغيرات تمس صلب الوضع الفلسطيني الداخلي وموازين القوى الداخلية، وخاصة في ظل الحصار الذي استهدف وأد التجربة الديمقراطية الناشئة، وخنق تجربة حكم حماس الوليدة، وأورث حماس مشكلات وأزمات لا حصر لها على أكثر من جبهة وصعيد.

تدرك حماس أنها أمام صفقة تاريخية ذات أبعاد إستراتيجية بكل معنى الكلمة، وأن هذه الصفقة الأولى من نوعها في الداخل الفلسطيني قد لا تتكرر مرة أخرى على المديين القريب والمتوسط على الأقل، مما استوجب عليها الالتزام بالمعايير والقواعد التالية:

– الإصرار -الذي يرتقي إلى مستوى التجذر- على تحرير كافة الأسرى، وخاصة القدامى منهم، الذين صدرت بحقهم أحكام بالسجن مدى الحياة.

– الإصرار الراسخ على شمول الصفقة كافة تلاوين الطيف الفلسطيني الفصائلي، فلا فرق بين مجاهد من حماس أو مناضل من فتح أو غيرها جمعتهم أسوار السجون على حبّ الوطن والتضحية من أجله.

– الرفض الحازم لاستثناء أية أسماء، ولو كانت خارج الانتماء الحمساوي، فنجاح الصفقة مرتبط باعتمادها كرزمة واحدة دون أي انتقاص.

– التحلي بالمرونة التكتيكية في إطار الثبات الإستراتيجي، مما يقتضي التعاطي مع الحلول والمقترحات الخلاقة التي تتناول مسائل التوقيت والإبعاد دون مساس بمبدأ الإفراج بعيدا عن أي إفراط أو تفريط.

وفي إطار إدراكها لمدى خطورة وحساسية الصفقة في ظل المرحلة المعقدة التي يعيشها الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، تراهن حماس على تحقيق المكاسب والإنجازات التالية:

– رفع الرصيد الشعبي وأسهم التأييد الجماهيري للحركة التي تراجعت نسبيا بفعل سياسة الحصار والإغلاق وبعض الممارسات الداخلية الخاطئة في قطاع غزة، وتعزيز مواقعها الشعبية القوية أصلا في الضفة الغربية.

– كسر المعايير الإسرائيلية الحديدية التي حكمت السياسة الإسرائيلية إزاء العلاقة مع قضايا تبادل الأسرى داخل فلسطين، والتي لم تكن تسمح بأي طرح أو صفقة يُفرج بموجبها عن أسرى قتلوا إسرائيليين بأي حال من الأحوال في الداخل الفلسطيني السلطوي الخاضع لهيمنة واستباحة الاحتلال.

– قهر العنجهية الإسرائيلية وإذلال الموقف الصهيوني والظفر بنصر مجلجل يسعد به الفلسطينيون ومجموع الأمة ضد الصهاينة الذين أدمنوا الاستعلاء والاستكبار ولم يروا في العرب والمسلمين سوى قطيع من الرعاع يُساق إلى ما يريده الآخرون دونما فكر أو عقل أو إرادة.

– دعم وإسناد مشروعها السياسي والوطني الذي يرتكز على أرضية إدارة الصراع مع الاحتلال عبر المقاومة بأشكالها المختلفة، وفي طليعتها المقاومة المسلحة، وهو ما ينعكس –بالتالي- في مزيد من الإثخان في "المشروع السياسي والوطني" للطرف الآخر المتداعي أصلا.

الحقيقة التي لا ريب فيها أن هذه المكاسب والإنجازات سوف تحدث انقلابا دراماتيكيا في إطار المعادلة الفلسطينية الداخلية، وتضيف إلى حماس رصيدا ثمينا وحصيلة قيّمة تعزز مصداقية الشعارات التي رفعتها دوما حول تحرير الأسرى، والتي بدأت أولى تباشيرها المدوّية باختطاف شاليط، وتضع سياساتها ومواقفها إزاء قضايا الوضع الفلسطيني الداخلي فوق مستوى الشبهات، لتتجاوز –بالتالي- حملات التشكيك والاتهام التي رمتها بنفي المقاومة والانسلاخ عنها والتمترس بكرسيّ الحكم ومغانم السلطة، وتعيدها بقوة إلى صدارة المشهد المقاوم بمعناه الحقيقي وأبعاده الشمولية.

"
ليس سهلا على سلطة رام الله وأوساط عديدة داخل فتح أن تتقبّل فكرة صعود حماس مجددا وتستوعب أي انتصار جديد لحماس رغما عن أنف الجميع، في الوقت الذي تعيش فيه فتح أزمة سياسية ووطنية وقيمية 
"

وهكذا، ليس سهلا على سلطة رام الله وأوساط عديدة داخل فتح أن تتقبّل فكرة صعود حماس مجددا على أكتاف الرضوخ الإسرائيلي، وتستوعب أي انتصار جديد لحماس رغما عن أنف الجميع، في الوقت الذي تعيش فيه أزمة سياسية ووطنية وقيمية إثر فشل خيارها السياسي ومشروعها الوطني، وافتضاح أمر ارتباطها المصيري وعلاقتها العضوية بواقع واستمرار الاحتلال.

لذا من الصعوبة بمكان توقّع استسلام القوم لصيرورة الأمر الواقع والاكتفاء بمراقبة مجريات الأحداث، فقد وضعوا العصيّ في دواليب الصفقة أكثر من مرة بعد أن أوشكت أن ترى النور مرارا من قبل، ونافحوا بكل ما أوتوا من وسائل ضاغطة من أجل وأد أي تحرك حقيقي في اتجاه إنجاز الصفقة، وأسهموا في تأخيرها وقتا طويلا، ولن يكونوا في وارد تجرّع "مراراتها" و"تداعياتها" بدون ثمن مقابل يحفظ لهم ماء وجوههم، ويمنحهم شيئا من "إكسير الحياة" اللازم لبقائهم سياسيا ووطنيا بعد أن خذلهم الحلفاء والأصدقاء، وبعد أن اخترقت فضائحهم أردية الوطنية المزيفة التي تسربلوا بها ردحا من الزمن.

تحاول بعض الأنظمة الإقليمية والدولية أن تقترن الصفقة –حال إنجازها- ببادرة حسن نية من العيار الثقيل يتم تقديمها إسرائيليا لـ"أبو مازن"، وتفرج إسرائيل بموجبها عن مئات الأسرى التابعين لحركة فتح، في ظل قناعتهم بأن تلك الخطوة كفيلة بإحداث نوع من التوازن مع صفقة شاليط، والتغطية إلى حد ما على ضخامة الإنجاز النوعي الذي يُتوقع أن يُحدث هزة وطنية في عمق الوضع الفلسطيني.

وذلك أقرب ما يكون إلى الوهم، فلا مجال للمقارنة بين صفقة تاريخية انتزعت بالدماء والآلام والمعاناة، وتصطبغ بصبغة وطنية كاملة، وتفضي إلى إطلاق مئات الأسرى ذوي الأحكام المؤبدة الذين لا أمل لهم في الخروج على الإطلاق، وبين مسرحية سياسية ذات لون فصائلي بحت لم تتأسس على قواعد وطنية أصيلة أو محددات أخلاقية سليمة.

يخشى النظام الإقليمي والدولي كثيرا التداعيات الناجمة عن تقلبات الوضع الفلسطيني، وتبدو خشيته أكثر ما تكون من نجاح الصفقة في إعادة إنتاج واقع فلسطيني جديد تتمكن حماس من توظيفه بجدارة بغية تجذير دعائم حكمها في غزة، ومن ثم امتلاك أوراق قوة وزخم شعبي مهم لتحقيق الفوز في الانتخابات التشريعية المقبلة إذا تم إجراؤها مستقبلا أو بلوغ نتيجة مهمة تُبقي عليها لاعبا أساسيا ومقررا في إطار اللعبة الديمقراطية ذات الصبغة السلطوية.

ولا ريب أن تلك المخاوف والهواجس لم تُبنَ على فراغ، فالجميع لربما –باستثناء فتح و"أبو مازن"- يتابعون بقلق اتجاهات الرأي العام الفلسطيني، ويدركون تماما أن حماس تحتفظ بقوة تأييدها الشعبي في الضفة الغربية، وأنها تحاول استعادة ما فقدته في غزة جراء الحصار الخارجي والصدام الداخلي، وأنها لا تتوانى في إعادة صياغة علاقتها الداخلية مع الجمهور الغزي على أسس سليمة وبسط جسور التفاهم والوداد مع كافة شرائحه كهدف أساس خلال المرحلة المقبلة، مما يؤهلها لقلب التوقعات إبان أية انتخابات مستقبلية.

"
القراءة المتأنية لتطورات ومستجدات صفقة شاليط تظللها مخاوف حقيقية حول إمكانية إنجازها خلال الأيام القليلة القادمة، بما يجعل أمر فشل التوصل إلى صيغة توافقية بين حماس وإسرائيل قائما
"

لا يراهن "أبو مازن" وفتح سوى على استمرار المعطى الإسرائيلي والحصار الإقليمي والدولي الذي يفرض الحصار الشامل المشدد على غزة، ويحكم قبضته العسكرية على قيادات حماس على أرض الضفة، ويحرم حماس من فرصة إنفاذ برنامجها وشعاراتها حول التغيير والإصلاح التي يشكل تحسين الوضع الاقتصادي أحد أركانها الأساسية، والدفع باتجاه إنجاح نموذجها الحاكم في غزة اقتصاديا كمقدمة لنجاح سياسي مماثل بعيدا عن سطوة الحصار ونتائجه المدمرة.

ولعل من السذاجة بمكان توقّع أي انفراج حقيقي على هذا الصعيد حال نجاح صفقة شاليط، إذ إن إسرائيل لن تفرّط مطلقا في ورقتها الأهم (الحصار) التي تضرب بها حماس ليل نهار، ولن تكون على استعداد لرفع حصارها عن غزة بدون جباية أثمان سياسية معروفة تؤكد حماس أنها لن تقدم شيئا منها حتى لو فنيت عن بكرة أبيها.

ومن هنا فإن القراءة المتأنية والاستقصاء المبصر لتطورات ومستجدات صفقة شاليط تظللها مخاوف حقيقية حول إمكانية إنجازها خلال الأيام القليلة القادمة، بما يجعل أمر فشل التوصل إلى صيغة توافقية بين حماس وإسرائيل قائما رغم الجهود الحثيثة التي يبذلها الوسيط الألماني، وذلك للأسباب المباشرة التالية:

– تمسك حكومة الاحتلال بموقفها الصارم إزاء رفض الإفراج عن بعض الأسرى الذين يشكلون أهمية خاصة واستثنائية لديها بالنظر إلى طبيعة دورهم في المقاومة المسلحة وقتلهم أو تخطيطهم لأعداد كبيرة من الإسرائيليين، وعقبات أخرى.

– اعتراض الإدارة الأميركية الحادّ على إنجاز الصفقة خلال المرحلة الحالية، وتفضيلها التريّث إلى ما بعد إنقاذ سلطة أوسلو برمتها التي يتهددها التيه والضياع جراء فشل مشروعها السياسي التفاوضي.

– رفض سلطة رام الله وأوساط متعددة في فتح إنجاز الصفقة في ظل السقوط المريع لـ"أبو مازن" ومشروعه السياسي الذي تتبناه فتح، والخشية الكبرى من استثمار حماس هذا الإنجاز وتحويله إلى مكسب داخلي كبير يؤثر قطعا على موازين القوى الداخلية.

– خشية مصر آثار وتداعيات الصفقة فيما يخص "أبو مازن" وحركة فتح ذوي الانسجام التام مع المواقف والسياسات المصرية، واكتساب حركة حماس قوة سياسية ومعنوية كبيرة تجعلها في موقع أفضل في مواجهة عوائق النظام الإقليمي والدولي، وتمنحها اليد الطولى مرحليا إزاء قرار المصالحة الداخلية.

لكن ما يتعلق بالصفقة وقيمتها التاريخية وأهميتها الإستراتيجية فلسطينيا شيء، وما بعد إنجاز الصفقة أو فشلها، ولو مؤقتا، في إطار الحسابات الإسرائيلية شيء آخر.

إن فداحة الثمن المدفوع إسرائيليا حال نجاح الصفقة، والانتصار المدوّي الذي ستحققه حماس، ومن قبل ذلك امتلاك حماس صواريخ ذات مدى بعيد، لن يمر إسرائيليا مرور الكرام.

السيناريو الأرجح الذي يمكن ترجيحه يكمن في توجيه ضربة عسكرية بالغة الشدة والقسوة إلى حماس في غزة، وذلك عبر عملية عسكرية سريعة ومباغتة تضع مئات الأهداف والمواقع الخاصة بحماس، وخاصة العسكرية منها والإستراتيجية، في دائرة الاستهداف المباشر، بغية تفريغ النصر الذي ستزهو به حماس من أية قيمة فعلية وفق المفهوم الإسرائيلي، وتركها تلعق وتلملم جراحاتها وتنشغل بإعادة بناء ذاتها وبنيتها العسكرية شهورا طويلة أخرى.

"
السيناريو الأرجح الذي يمكن ترجيحه في حال إتمام الصفقة يكمن في توجيه ضربة عسكرية بالغة إلى حماس في غزة لتفريغ نصرها، وهو السيناريو ذاته الذي يمكن توقعه في حال الفشل لتأديبها
"

وذات السيناريو يمكن توقعه أيضا حال فشل الصفقة، وذلك رغبة إسرائيلية في "تأديب" حماس التي ظهرت كندّ قوي وعدوّ عنيد في إدارتها لملف الصفقة منذ أكثر من ثلاث سنوات، فضلا عن "سحق" قدراتها العسكرية التي باتت تشكل هاجسا إستراتيجيا للمؤسستين السياسية والعسكرية في دولة الاحتلال.

وإذا كانت حرب غزة في العام الماضي هي حرب الأيام، فإن الحرب الجديدة –كما خُطّط لها- هي حرب الدقائق والساعات، التي سيتم تحضير أرضيتها وتهيئة شكلها الإخراجي عبر تسخين مبرمج وتصعيد عنيف للجبهة الميدانية.

وأيا تكن نتائج المخاض الراهن، وسواء أنجزت الصفقة حاليا أم مستقبلا، فإنها تشكل نقطة فاصلة ومنعطفا تاريخيا في مسيرة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفاتحة لمرحلة جديدة تنتفي عنها ما تسمى المحرمات أو الخطوط الحمراء الإسرائيلية، وهي –بالتأكيد- فجر انتصار للشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية ورافعة مهمة لاستنهاض وتفعيل مشروع المقاومة في مواجهة المشاريع الأخرى المتهالكة، كما هي في الوقت ذاته عنوان انكسار جديد للمشروع الصهيوني العنصري على أرضنا المباركة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.