محنة المآذن وصورة الإسلام في أوروبا

محنة المآذن وصورة الإسلام في أوروبا



المأزق السويسري وامتداده الأوروبي
انزلاقات الإسلام المتشدد في أوروبا

أحدث تصويت الشارع السويسري الأخير، حول منع بناء مآذن مصاحبة للمساجد، رجة سياسية داخل سويسرا وفي باقي البلاد الأوروبية نظرا للخطر الذي ينطوي عليه في ظرف حساس لكل ما يتعلق بمسائل الهوية الدينية.

لقد فاجأ التصويت وما آل إليه جانبا كبيرا من الطبقة السياسية السويسرية التي دعت في غالبيتها إلى التصويت بـ"لا" على سؤال التيار القومي اليميني، كما أنه فاجأ المهتمين بشأن الهجرة والإسلام في باقي البلاد الأوروبية.

فخطوة من هذا القبيل كانت منتظرة في بلد مثل الدانمارك أو بلجيكا أو حتى إيطاليا، نظرا لحركية التيارات المعادية للهجرة. لكن ليس في سويسرا التي لم تنخرط تاريخيا في مآسي البلاد العربية والإسلامية ونظرا لتقاليد التنوع الثقافي. هذا بالضبط ما يجب الانتباه إليه لتحليل ما جرى ولفهم سياق موقف الشارع السويسري.

المأزق السويسري وامتداده الأوروبي
يستغرب هذا الموقف السويسري من البلد الذي حافظ تاريخيا على علاقات محايدة، وهو الوجهة الرئيسية للعديد من العرب الأثرياء وهو البلد الذي يعد رمزا للحياد ولحقوق الإنسان. يستغرب مثل هذا التصويت كذلك في بلد لم يعرف الإسلام الراديكالي الأكثر تشددا. فجنيف ليست لندن وبرن ليست مرسيليا من حيث أهمية الجالية المسلمة ومن حيث غلو مطالبها. ذلك أن الجالية المسلمة في سويسرا تتكون في جانب كبير من مواطني بلاد البلقان (كوسوفو، وألبانيا، والبوسنة) ثم بدرجة ثانية من الأتراك، ثم قلة من المسلمين العرب والأفارقة والآسيويين.

والمعروف أن الإسلام البلقاني أقل تشددا من الإسلام الآسيوي والعربي أين تنتعش التيارات الجهادية والأصولية. مسلمو البلقان هم من ناحية أوروبيون ومن ناحية ثانية معروفون بسهولة اندماجهم نظرا لأن الإسلام يمثل لديهم مصدرا للهوية الثقافية الوطنية وليس بديلا مجتمعيا أو مدونة للسلوك الفردي.

"
ما حصل في سويسرا هو في عمقه رد فعل مجتمع منغلق نسبيا، ضمن أيديولوجية الحياد السياسي، على الصدى الذي يصله من بلدان أوروبية بدأت تواجه حدة التيارات الإسلامية الراديكالية
"

لكن، قد نجد بعض عناصر فهم ما حصل ضمن هذه المعطيات التي تبدو للوهلة الأولى متضاربة. ففيما يخص الشارع السويسري، نفهم تجاوبه مع منع المآذن (الصوامع بالنسبة لبلاد المغرب) ضمن غياب تقاليد التعامل الرسمي والشعبي مع الإسلام.

فبالنسبة لبريطانيا وفرنسا مثلا، وفر الماضي الاستعماري في بلاد الإسلام أرضية لفهم خصوصية المسلمين وذلك على المستوى السياسي الرسمي. وتجربة مكتب الشؤون العربية في مستعمرات فرنسا المغاربية خير دليل. كما وفر هذا الماضي فرصة للاتصال الشعبي الأوروبي بالإسلام. فهذا الدين والمؤمنون به ليسوا غرباء عن النخب السياسية الفرنسية والبريطانية. وهو ما يفسر مثلا أن مشكل المآذن لم يطفو على السطح كمشكل سياسي في بريطانيا وفي فرنسا. لكنه موجود ضمنيا رغم كونه مقننا ضمن إجراءات التهيئة العقارية على مستوى البلديات.

ما حصل في سويسرا هو في عمقه رد فعل مجتمع منغلق نسبيا، ضمن أيديولوجية الحياد السياسي، على الصدى الذي يصله من بلدان أوروبية بدأت تواجه حدة التيارات الإسلامية الراديكالية. بمعنى أخر فإن الشارع السويسري صوت لمنع المآذن كرد فعل للتحصين مما يحدث في الجوار الأوروبي الغربي لأنه غير مهيأ فكريا ووجدانيا لقبول الآخر المسلم في ظرف تتواتر فيه أخبار التيارات الإسلامية الجهادية في أوروبا وفي بقية أنحاء العالم. الدليل على ذلك أن التجاوب مع منع المآذن تم بالأخص في القرى الصغيرة وفي داخل البلاد.

أما المستوى الثاني للقضية فيتعلق بخصوصية مسلمي سويسرا أنفسهم. فقد انتقل الإسلام البلقاني من سياق الحكم الشيوعي وصرامة مراقبته للمسألة الدينية نحو فترة التناحر الأهلي الديني بين المسلمين والكاثوليك والأرثوذكس. وَضْعُ الخروج من الحقبة الشيوعية والانزلاق في متاهة الصراع السياسي الديني حتم استعمال الرموز الدينية وسيلة لتعليم (أي ترك علامة) المكان وإعلان امتلاكه ومراقبته. ضمن هذه الرهانات، مثلت المآذن البلقانية أداة صراع الوجود والهوية في وجه المعالم الكنسية المرتفعة.

نفهم ضمن هذا الصراع الرمزي كذلك، المكانة التي اتخذتها التلال والمرتفعات المجاورة للمدن خلال حرب البوسنة وحتى اليوم مع استمرار التنافس الخفي. المهم أن هذا التقليد البلقاني انتقل إلى سويسرا في شكل تشديد على ضرورة بناء المآذن مع كل مسجد. وهو تشديد لا نجد له أثرا في فرنسا مثلا حيث تعتبر المئذنة ثانوية بالمقارنة مع فضاء الصلاة. فعلى مجموع الألفي مسجد لا نجد سوى عشرات المآذن وأغلبها لا يستعمل للأذان.

هناك في النهاية مستوى أوروبي لقضية المآذن السويرية كما وقعت الإشارة إلى ذلك. إذ يتميز الوضع بتصاعد الخطاب الشعبوي (populiste) ضد الهجرة وضد ثقافة المهاجرين وخاصة في ظل الأزمة الاقتصادية وما رافقها من اختلال مصاريف الدولة. المؤشر على الخطاب الشعبوي الذي يغذي الإسلاموفوبيا نجده في فرنسا أين دعت الحكومة اليمينية إلى فتح حوار حول ما تسميه الهوية الوطنية الفرنسية وكأن خطرا ما يتهدد هذه الهوية.

لكن تبين بالكاشف سهولة الانزلاق في خطاب عنصري ما انفك يشير إلى مسلمي أوروبا وإلى المسلمين في أوروبا كخطر محدق. فكلما افتتح حوار تلفزي حول الموضوع إلا وانتهى بالنقاش حول الحجاب أو حول البرقع وحول عيد الأضحى. وقد بلغ الأمر ذروته ودق ناقوس خطر في فرنسا عندما قال عمدة إحدى القرى الفرنسية النائية للصحفيين إنه "يجب إيجاد حل قبل أن يلتهمنا العشرة ملايين مهاجر والذين نعطيهم المال هباء".

"
يوجد تيار أوروبي يبدو أنه بدأ يجاهر بخطابه العنصري. لكن يجب علينا ألا ننجر وراء التنديد العاطفي وربط كل شيء بالعنصرية وبكره الإسلام, إذ يتحمل المسلمون، أو البعض منهم، مسؤولية ما فيما يحدث
"

الخطر الآخر أن مثل هذا الخطاب المشكك والمعادي للهجرة المسلمة خرج عن إطار الشارع العادي وعن دائرة الاستغلال السياسي الانتخابي لتمس عدواه فضاء العلم والبحث العلمي. مثال ذلك ما تروج له بعض الدراسات من تكذيب أي دور للفلاسفة العرب المسلمين في إدراج العقل الفلسفي في الثقافة الأوروبية الغربية.

هذا ما أورده المؤرخ الفرنسي سلفان غوغنهايم (Sylvain Gouguenheim) في كتاب صدر له مؤخرا حول الجذور الإغريقية لأوروبا المسيحية. حيث رفض الإسهام العربي في ترسيخ الفكر الفلسفي في أوروبا معتبرا ذلك غير ممكن لأن اللغة العربية لغة دينية إيمانية غير قادرة على التعامل مع مسائل الفكر الفلسفي المجرد. وهو رأي يصعب أخذه على محمل الجد خاصة وهو صادر عن شخص لا يقرأ العربية.

هناك إذن تيار أوروبي يبدو أنه بدأ يجاهر بخطابه العنصري. لكن يجب الانتباه إلي سر ما نلمسه من بعض التجاوب الشعبي مع طروحاته الفضفاضة. ولهذا السبب علينا ألا ننجر وراء التنديد العاطفي وربط كل شيء بالعنصرية وبكره الإسلام. إذ يتحمل المسلمون، أو البعض منهم، مسؤولية ما فيما يحدث.

انزلاقات الإسلام المتشدد في أوروبا
علينا الإقرار هنا بوجود انزلاقات من جانب تيارات إسلامية أعطت صورة سلبية عن الإسلام وجعلته في موقع المكتسح للفضاء الأوروبي وفي موقع المشكك في بعض المكتسبات التاريخية التي حققتها مجتمعاته.

المثال الأخير في فرنسا تمثل قي توسع ملحوظ لعدد المرتديات للنقاب الكلي بما يذكر بالبرقع الأفغاني. وعلى الرغم من محلية هذا اللباس في المجتمعات الإسلامية فإن بعضا من مناصريه المتشددين يدافعون عنه من منطلقات إسلامية غير مقنعة بالنسبة للمسلم نفسه. حتى أن بعض التيارات الفكرية اليسارية التي عرفت بمناصرتها لقضايا العرب والهجرة بدأت تتوجس من مثل هذه الانزلاقات.

أضف إلى ذلك بعض الإشكالات التي طرحت في المدارس، ليس من طرف المسلمين فحسب بل كذلك من طرف اليهود والهنود السيخ، حول التربية البدنية والسباحة أو تدريس بعض المواد. فما يحرج بعض التيارات السياسية والفكرية المناصرة للهجرة وللعرب هو انتشار فكرة الحقوق المدنية بناء على خصوصية ضوابط الاعتقاد. والحال أن الحقوق في المنظومة الغربية الوضعية تؤسس على مفهوم المواطنة لا على الاعتقاد الديني.

"
وصل الانزلاق الإسلامي حدا محرجا في بريطانيا حيث بدأ البعض يطالب علنا بتطبيق الشريعة الإسلامية على المسلمين هناك, أمر لا يمكن تصديقه بالنظر إلى الاضطرابات القانونية والاجتماعية التي يمكن أن تحدث
"

مثل هذه الصورة السلبية التي أنتجها غلو بعض المسلمين ومدى الإحراج الذي تسببه لمناصري القضايا العربية لاحظته شخصيا في باريس بمناسبة المسيرات الشعبية لمناصرة غزة وهي تحت نار الهمجية الإسرائيلية.

فشعبية تلك المسيرات تعود دون شك إلى حساسية القضية ولكن أيضا إلى استنفار القوى اليسارية من نقابات وأحزاب، مثل الحزب الشيوعي والتيارات المناهضة للعولمة. لكن ما جلب انتباه الجميع خلال هذه المسيرات، هو تجمع بعض المجموعات الصغيرة للصلاة جماعة على قارعة الطريق كل بضع مئات من الأمتار وبخاصة أمام محال تجارية أو في ساحات معروفة مثل ساحة الجمهورية.

استغرب العديد هذا التلاعب بالعبادات خاصة وأن للصلاة الإسلامية قواعدها. ولم يتأخر البعض في القول بأن الغاية من هذه الممارسة هي طبع المكان، ولو مؤقتا، بصبغة إسلامية رمزية قد توحي برغبة في أسلمته.

وصل هذا الانزلاق حدا محرجا في بريطانيا حيث بدأ البعض يطالب علنا بتطبيق الشريعة الإسلامية على المسلمين هناك. أمر لا يمكن تصديقه بالنظر إلى الاضطرابات القانونية والاجتماعية التي يمكن أن تحدث.

كما بلغ استغلال الانتماء الديني المؤسس للهوية حدا كاريكاتيريا عندما نظم بعض السيخ حركة احتجاج في بريطانيا ضد قانون الطرقات المتعلق بالدراجات النارية على خلفية أنه تمييز مسلط عليهم لأنه يفرض نزع رباط الرأس المقدس لديهم.

قد تبدو هذه الوقائع عادية في ذهن المؤمنين بها، لكن المراقب الموضوعي يفكر كذلك في الطرف المقابل، أي ذلك المواطن السويسري البسيط في عزلة الريف الجبلي السويسري أو ذلك العامل الإنجليزي البسيط وثقافتة المحدودة.

هذه الفئات غير مهيأة معرفيا لفهم الاختلاف مع الآخر ودمجه ضمن عاديات الحياة اليومية. لا يمكن أن ننتظر منه سوى أن يرى في التشدد حول فرض رموز دينية غير مألوفة أو فرض ضوابط تعقد تعامل الفرد مع بيئته الاجتماعية سوى نوع من الغزو.

كيف يمكن لهذا المواطن البسيط أن يفهم لافتة لشباب مسلم متظاهر في لندن وقد كتب عليها "الإسلام هو مستقبل بريطانيا" أو "الإسلام سيسيطر على العالم"؟ كيف يمكن لهذا المواطن البسيط أن يستوعب الفتاوى الدموية لأبي حمزة المصري ولأبي قتادة؟

علينا أن نلتفت قليلا إلى أنفسنا لنطرح أسئلة جوهرية ذلك أن أمر المآذن في سويسرا، وبالرغم من أرضيته التمييزية غير المعلنة، فإنه وقع تهويله.

"
كيف يمكن لمواطن بريطاني بسيط أن يفهم لافتة لشباب مسلم متظاهر في لندن وقد كتب عليها "الإسلام هو مستقبل بريطانيا" أو "الإسلام سيسيطر على العالم"؟ 
"

ففي مصر أعدت الحكومة المصرية مشروعا سنة 2000 لتوحيد الأذان والخروج من حالة الفوضى الصوتية التي تفقد الدعوة للصلاة كل وضوحها الدعوي. كما نعلم من خلال تاريخ المآذن واستعمالها في الإسلام أنها مرتبطة بفن العمارة أكثر من ارتباطها بالتأطير الديني. فبناء المساجد غير ممنوع في أوروبا برغم وجود مماطلة أحيانا على الصعيد المحلي.

هناك مسألة أخرى تتعلق بطريقة تلقي الطرف العربي والمسلم للاستفتاء السويسري. إذ لم يجلب انتباهنا مثلا حق المواطن في سن القوانين من خلال الاستفتاء ضمن ما يعرف في سويسرا بالديمقراطية المباشرة. والحال أن المواطن العربي يئن تحت وطأة طغاته. علينا أيضا أن نطرح على أنفسنا ما نطرحه على غيرنا من تساؤل. هل نحن على نفس الدرجة بالالتزام بالحرية الدينية في عالمنا العربي مثلا؟

إننا حريصون أكثر على إعطاء صورة قاتمة عن المسلم وعن الإسلام. وهناك أطراف سياسية وفكرية غربية تشجع على هذا المنحى لأنه يعزز مقولتهم بأحقية الغرب في اختزال الحضارة الإنسانية والعقل الإنساني وحداثته. من مصلحة هذا التيار تغييب الحضارة العربية الإسلامية بمنزعها العقلي وبفلسفتها العقلانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.