إيران تتسنّن

إيران تتسنّن



في البدء كانت الثورة
مبدأ ولاية الفقيه خطوة نحو التسنّن
مؤسسة ولاية الفقيه

سُئل أدونيس (علي أحمد سعيد) عن الثورة الإسلامية في إيران وهي تخطو خطواتها الأولى في عالم ما زال محكوما، يومها، بما كان يُعرف بالحرب الباردة. فقال "إنّها ثورة بالدين وفي الدين". وإلى جانب بلاغة هذا القول وجمال صياغته فإنه كان يصدر عن مثقف من أبرز ممثلي تيّار الحداثة نظرا وعملا، بما تعنيه الحداثة في الفكر العربي المعاصر من يأس جذري من الدين وأمل كبير في العقل.

وبعد ثلاثين سنة من عمر الثورة قام شبه إجماع على أنها حلّت في الدولة بعد تجربة فاشلة في تصدير الثورة. وهي في ذلك ليست بدعا من الثورات، حتى كأن الغاية التي تجري إليها الثورة، كل ثورة، هي الدولة. ورغم ذلك بقيت الجمهورية الإسلامية حاضرة في المشهد الدولي مثيرة للانتباه.

وتمثل انتخابات الثاني عشر من يونيو/حزيران 2009 إحدى المحطات البارزة في تاريخ هذه التجربة وهزّة سياسية حقيقيّة. ونودّ في هذا المقال أن نقرأ مبدأ "ولاية الفقيه" قادحَ الثورة الإيرانية وعمادَ دولتها، في ضوء الانتخابات الأخيرة. ونريد التشديد على أنّ الأحداث المتولّدة عن الانتخابات ليست شرطا لقراءة مبدأ "ولاية الفقيه"، غير أنّه من الصعب فهم هذه الأحداث ذاتها بمعزل عن المبدأ المذكور.

في البدء كانت الثورة

"
منذ الأسابيع الأولى للثورة أطّرت قيادتها عنفوان العملية السياسية المتولّدة عن اجتثاث نظام الشاه بشعار الجمهورية الإسلامية، بعد استفتاء، اضطُرّت نُخب حداثية إيرانية واسعة إلى مجاراته، تحت زخم المدّ الجماهيري
"

منذ الأسابيع الأولى للثورة أطّرت قيادتها عنفوان العملية السياسية المتولّدة عن اجتثاث نظام الشاه بشعار الجمهورية الإسلامية، بعد استفتاء، اضطُرّت نُخب حداثية إيرانية واسعة إلى مجاراته، تحت زخم المدّ الجماهيري بقيادته الروحية ذات الكاريزما العالية والألق غير المسبوق.

وأهمّ من كل هذا تبنّي المذهب الجعفري مذهبا رسميّا للجمهورية الناشئة. ولئن فاجأت استعادة المطلق المذهبي الجميع فإنّ ردود الأفعال تجاهه تباينت. فرأت النخب الحداثية في الداخل والخارج، في المذهب، تفصيلا من تفصيلات رؤية دينية للعالم تصدر عنها الثورة، مرفوضة في عرف هذه النخب، ذلك أنّ من رفض الأصل رفض تفريعاته.

وأمّا التيار الإسلامي الواسع فقد غضّ الطرف عن هذه الاستعادة المذهبية، رغم أنه كان أكثر المتفاجئين بها. فقرأ كتاب الإمام الخميني الحكومة الإسلامية بعين سياسية عَشِيتْ عن كل ما هو مذهبي وعن كل ما كان يُظنّ أنّه في حُكم الميّت من التراث الإسلامي ويمعن الكتاب في إحيائه.

كان التيار الإسلامي لا يصدّق عينيه وهو يرى الإسلام ( بصورة من صوره) يُحدث ثورة عظيمة وينتفض بعضُ أهله لردّ الظلم ونصرة المستضعفين. وكان التيار الإسلامي، في الوطن العربي خاصة، محاصرا فكريّا وسياسيّا من قبل النخب الحداثية وفي طليعتها عتاة الفرنكفونية سليلو الثورة الفرنسية ذات المزاج المتوتر ضدّ ما كان يعتبر ثقافة دينية.

ولم يكن من مرادف لعبارة "الرجعية العربية"، يومها، سوى الحركات الإسلامية والأنظمة العربية الدائرة في فلك الإمبريالية الأميركية. فوجد التيار الإسلامي في الثورة الإسلامية في إيران طوق الّنجاة وسبيل الخروج من حالة الحصار المطبق، لذلك لم يكن مستعدّا لإثارة ما يفسد عليه "نشوته السياسية".

فكان تبنّي الثورة هو الموقف الغالب وبالأخص في أوساط الاتجاه الإسلامي في الحركة الطلابية في الوطن العربي. كما كان الانفتاح على كتابات رموز الثورة وعلماء الحوزات العلمية في "النجف" و"قم" دون توجّس من خلفيّتها المذهبية. ومثّلت كتابات علي شريعتي التي لم تكن الحركات الإسلامية تدرك علاقتها المتوتّّرة بتياّر علماء الدين في إيران، الصيغة المقبولة ضمن فضاء سنّي طال عليه الأمد فنسي أنّه سنّي.

ولاية الفقيه خطوة نحو التسنّن
مبدأ ولاية الفقيه اجتهاد شيعي متأخّر سليل التدافع المذهبي عبر قرون من تاريخ المسلمين. ونُذكِّرُ في هذا السياق بأنّ الخلاف في تجربتنا التاريخية يبدأ سياسيّا وينتهي عقديّا. وتمثل الخلافة أول ما استلت فيه السيوف بين المسلمين. ومع الوقت تبلور موقفان رئيسيان: موقف صار يعرف به من سُمّوا بأهل السنة والجماعة يقوم على اعتبار الخلافة مؤسسة بشرية سياسية يختارها الناس عن طريق ضرب من التعاقد يسمّى البيعة.

فالأمة تختار من يسوسها. وقد يدير شأنها مفضول ظاهر على أفضل مغمور (لقد ولّيت عليكم ولست بخيركم..). فيكون الاختيار مطلوبا لذاته، في مستوى الواجب على الأقل. أمّا في الواقع فقد تحولت الخلافة إلى ملك بالغ في عضّ الأمّة.

وموقف عُرف به الشيعة يرى في الخلافة -ويسمّونها الإمامة- أمرا إلاهيّا دينيّا. والإمامة بمعناها الواسع جزء من العقيدة: آلية انتقالها من إمام إلى آخر الوصية ومنطلقها وصية النبي (صلى الله عليه وسلم) لعلي (رضي الله عنه) ومنتهاها الوصية للمهدي الإمام الثاني عشر الذي غاب. وسيعود يوما ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا وظلما.

كان التشيّع في تاريخنا أقليّا مقارنة بالتيّار السنّي شديد التنوّع والغالب على الأمّة. ومثل كل أقلية مضطهدة سعى إلى أن يتميّز تشريعا لوجوده ولأحقّيته بالإسلام. ولا شكّ في أن التشيّع لم ينضج دفعة واحدة، مثله مثل التسنّن. فكان التأثر بالروافد الأجنبية فيه أظهر. فتوتّر بين الاعتدال والمغالاة (الزيدية، الإسماعيلية).

وكان التأثر متبادلا بين التشيّع والتسنّن، فكما أثّر التشيع في الدائرة السنّية (علم الكلام الاعتزالي) تأثر بالتسنّن. ويعتبر مبدأ "ولاية الفقيه" أبقى بصمات التسنّن عليه. وأوّل ما يلفت الانتباه هو العبارة: ولاية الفقيه، وهي عبارة تبدو متوترة بين مرجعيتين إذا اعتبرنا في مفردة ولاية إحالة على المرجعية الشيعية/الصوفية وفي مفردة فقيه إحالة على المرجعية السنيّة.

"
يعكس التوتّر في مستوى عبارة ولاية الفقيه اختراقا سنّيا للمجال الشيعي, أي أن مبدأ ولاية الفقيه مضمون سنيّ بلسان شيعيّ, وهو محصّلة للسجال السنّي الشيعيّ الذي اتخذ أشكالا شتّى عبر تاريخنا
"

كلمة فقيه صارت سنية الهوى ممّا أوجب مرادفا لها عند التشيّع هو كلمة إمام. ويعكس التوتّر في مستوى عبارة ولاية الفقيه اختراقا سنّيا للمجال الشيعي. أي أن مبدأ ولاية الفقيه مضمون سنيّ بلسان شيعيّ. وهو محصّلة للسجال السنّي الشيعيّ الذي اتخذ أشكالا شتّى عبر تاريخنا.

إنّنا نعتبر لحظة غياب المهدي استعادة للحظة غياب النّبي. كانت إجابة التشيع عن وفاة النّبي الوصيّة، وهي في اعتقادنا بعدية: أملتها شروط الصراع مع بني أمية بأخرى من حكمهم. وكانت الحجة أنّ النّبي (صلى الله عليه وسلم) لا يمكن أن يترك الناس هملا. فلا بدّ من أن يوصي، وكانت الوصيّة لعلي (رضي الله عنه) فكيف يترك المهدي وريث النبيّ الناس هملا ولا يوصي لمن يخلفه قبل غيبته التي لا بدّ أنه كان يعلم بها. فهو المعصوم الموصول.

إن ّ مبدأ ولاية الفقيه إجابة متأخّرة عن خلافة النبي، تختلف عن الرأي السائد عند الشيعة. وإن ّ المهدي كالنبي (صلى الله عليه وسلم)، والفقيه الولي كأبي بكر (رضي الله عنه) فيكون القول بولاية الفقيه تبنّيا متأخّرا لمبدأ الاختيار لمن يخلف النّبي وإقرارا بختم النبوّة، لأن في الوصيّة والعصمة رفضا ضمنيّا لأساس الإسلام: ختم النبوّة. ومن الطريف الإشارة إلى أنّ عمر (رضي الله عنه) كان أول الرافضين لفكرة ختم النبوّة عندما هدّد بقتل كل من يقول بموت النبي قبل أن يذكره أبو بكر ذلك الرجل الاستثنائي في تاريخنا بالآية الكريمة "و ما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل. أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم. ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين" (آل عمران 142-144) .

واستنتاجا ممّا سبق يكون الشيعي القائل بمبدأ ولاية الفقيه سنيّا حتّى ظهور المهدي. ولعلّه لهذا السبب ووجه الإمام الخميني من قبل المراجع في قم مواجهة عنيفة.

مؤسسة ولاية الفقيه
أخرج الإمام الخميني وهو رجل استثنائي بكل المقاييس، بتحريك مبدأ ولاية الفقيه، قسما من جمهور الشيعة من غموض وسريّة وانعزال طبعت مسيرة التشيع في إيران. ورأى أنّه لا يعقل أن يتواصل الانتظار وأن لا يشهد الإنسان العالِمُ على عصره. فكانت خطب الإمام قريبة من "الأدب الخارجي" في الانتفاض في وجه الظلم وإباء الضيم. وكانت الكلمة المأثورة "الساكت عن الظلم شيطان أخرس" كثيرة الدوران في كلامه إلى الناس. ولم يعتبر سيطرة الإمبرياليّة الأميركيّة واقعا لا يُواجَه.

كان الخميني شبيها بلينين في المدرسة الماركسية. وإذا كان الخميني ينتظر قيام المهدي الذي لا خلاص للعالم إلا به، فإن لينين انتظر طويلا قيام الثورة البروليتاريّة في أوروبّا التي لا تحرّر للعالم بدونها. فاجتهد لينين وقام اجتهاده على فكرة أساسية تقول بأنّ قيود الرأسمالية يجب أن تقطع في أضعف حلقاتها. وقام اجتهاد الإمام الخميني على تحريك مبدأ ولاية الفقيه وسيلةً لضرب ما يسمّيه الاستكبار العالمي في أقصى امتداداته في المنطقة. وفي الحالتين كان الخروج من حالة الانتظار والإرجاء. ومثلما اُتهم لينين بالانحراف عن الماركسية وقد انحرف، اتهم الخميني بالخروج عن التراث الشيعي وقد خرج.

في التشيع انتظار تحت تأثير تصور عقدي يجعل من ظهور المهدي حتمية تاريخية. وفي الماركسية انتظار تحت تأثير فهم ميكانيكي وتصور حتمي للتاريخ يكاد يلغي دور الإنسان. وفي الانتظارين يتنكر التاريخ لتاريخيته. اختار الرجلان أن يكون التاريخ تاريخيّا ففعل كل منهما بطريقته.

"
مرّ على مؤسسة ولاية الفقيه حين من الدهر شهدت فيه مع العالم أحداثا مزلزلة, فكانت حرب الخليج الأولى مقدّمة لوأد الثورة في المهد وحرب الخليج الثانية تمهيدا لنظرية الاحتواء المزدوج وحرب احتلال العراق مدخلا إلى الفوضى الخلاقة
"

لقد مرّ على مؤسسة ولاية الفقيه حين من الدهر شهدت فيه مع العالم أحداثا مزلزلة. فكانت حرب الخليج الأولى مقدّمة لوأد الثورة في المهد وحرب الخليج الثانية تمهيدا لنظرية الاحتواء المزدوج وحرب احتلال العراق مدخلا إلى الفوضى الخلاقة.

وكان لهذه المنعرجات الثلاثة أثر على مؤسسة ولاية الفقيه. ورغم وجهها الديني وطابعها الشمولي لم تلغ المؤسسة حقّ الشعب الإيراني في الاختيار، تحت ذريعة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. وكان للقيادة الإيرانية العُلمَائية من المبرّرات من التراث الشيعي ما هو كفيل بإلجام جميع الأصوات. ولكنّها اختارت غير هذا السبيل منذ الأيّام الأولى للثورة.

ففي تلك الأجواء العاصفة كان الاستفتاء على الجمهورية وكانت الانتخابات الرئاسية. لِمَ لمْ يتجنّب الخميني هذه المخاطر واختار مشاركة الناس -لو في حدودها الدنيا– وهو المرجع الذي يأمر فيطاع؟ هذا جانب مثير يرقى إلى درجة المفارقة في شخصية الإمام وفي هويّة الثورة وفي تجربة الدولة في إيران المعاصرة.

ولكن ما أثر المنعرجات الثلاثة المذكورة على المؤسسة؟ نشير، في اختصار، إلى أنّ حرب الخليج أفضت إلى ظهور التيار الإصلاحي من داخل المؤسسة تحت تأثير الانكسار العسكري بعد ثماني سنوات من الحرب بقيادة الإمام نفسه، في حين كان من نتائج حرب الخليج الثانية وصول التيار الإصلاحي إلى الرئاسة ومجلس الشورى. وترسّخ ثنائية المحافظين/الإصلاحيين في الحياة السياسية.

أمّا سقوط بغداد فقد كان تأثيره على الجهتين: ضعف الإصلاحيين أمام الغطرسة الأميركية وعودة الاستعمار المباشر وغلبة أطروحة هنتنغتون في صراع الحضارات على أطروحة خاتمي في حوار الحضارات. وعجْز المحافظين عن مواجهة الأزمات الاجتماعية رغم بعض النجاحات السياسية في الخارج (انكسار الكيان الصهيوني أمام حزب الله، عجزه عن تحقيق أهدافه في الحرب على غزة، توسّع تيّار الممانعة إلى النظام العربي ومحيطه الإسلامي: قمّة الدوحة).

ومثّلت انتخابات 12 يونيو/حزيران 2009 وما تلاها من احتجاجات منتهى لتحولات شهدتها مؤسسة ولاية الفقيه. ويبدو ما رافق الانتخابات وتلاها من تجاذب صراعا بين المحافظين والإصلاحيين. ولكنّه في عمقه أمارة على درجة قصوى من التحول يُخرِج مؤسسة ولاية الفقيه عن مرجعيتها بالكامل.

لقد اعتبرنا ظهور مبدأ ولاية الفقيه خطوة مهمة نحو التسنّن في تاريخ التشيّع وكانت الخطوة الثانية لإيران الشيعية نحو التسنّن مع اندلاع الثورة والانتخابات. ولسنا نعني البتّة أن الانتخابات سنية الهوية (العالم السني، في معظمه، خال من كل انتخابات حقيقية) وإنما نعني الصلة الفكرية بين الانتخابات والتسنّن النظري الذي يَعتبر الخلافة شأنا سياسيّا يختار فيه الناس من يسوسهم. وهذا ما تنفيه السياسة العمليّة في المجال السني المتّسمة بالاستبداد. كما نعني أيضا انتفاء العلاقة بين الانتخابات والتشيّع النظري الذي يعتبر الإمامة أمرا دينيّا لا شأن للناس به. وهذا ما بقيت عليه المرجعية في قم والنّجف حتّى بعد قيام الثورة.

تمثل الانتخابات ذات المصداقية العالية في إيران علامة فارقة، حتى وإن كانت مؤطرة فكريّا (دائرة الإسلاميين) ومذهبيّا (دائرة التشيّع الإمامي في الوظائف السيادية).  وهل تخلو تجربة تقوم على الاختيار الحر من قيم مؤطرة وتابوهات؟ وإنه ليس أبلغ عندنا من أن نرى الولي الفقيه والمرشد العام للثورة يأتي يوم الانتخابات فردا. ويقف أمام صندوق الاقتراع، صوته كصوت أيّ إنسان آخر. أليست المفارقة صارخة إذا نظرنا إلى المشهد من المنظور الشيعي؟ إنّه بمجرد الوقوف أمام صندوق الاقتراع يكفّ الإمام عن أن يكون إماما بالمعنى الشيعي.

ولنا أن نتساءل ماذا بقي من التشيّع مع ولاية الفقيه؟ ونوجّه السؤال إلى من اعتبر أزمة الانتخابات الأخيرة تعبّر عن رغبة في التحوّل من ولاية الفقيه إلى ولاية الأمّة: هل من فارق فعلي بين ولي فقيه ينتخب مثل سائر الناس وهو مُنتَخب من قبل مجلس خبراء، وبين ولي للأمة؟ وهل تتمّ ولاية الأمة ذات الجذور السنيّة دون وسيط يدّعي تمثيله الأمة؟

"
في ضوء التجربة الإيرانية يبدو النظام العربي جادّا نحو ضرب من التشيع السياسي غريب صار معه حكّامه المحذرون من "الهلال الشيعي" أكثر عصمة من أئمة الشيعة الكرام, إنّنا أمام تشيع يتسنّن كلما اقترب من الدولة وتسنّن يتصنّم إذا صار منها وإليها
"

لئن بدت إيران سائرة نحو التسنّن بالمعنى الذي حدّدنا، متخلّصة من تمسّح (من المسيحية) شاب التشيع عبر مراحل بعيدة من تاريخه ولوّن جانبا من الفكر الغربي وهوية انتظامه (الدولة والديمقراطية)، فقد بدا النظام العربي جادّا نحو ضرب من التشيع السياسي غريب صار معه حكّامه المحذرون من "الهلال الشيعي" العاضّون بالنواجذ على الكراسي أكثر عصمة من أئمة الشيعة الكرام. إنّنا أمام تشيع يتسنّن كلما اقترب من الدولة وتسنّن يتصنّم إذا صار منها وإليها.

تجربة إيران المعاصرة مثيرة بكلّ المعاني. ونراها، مشاكَلَةً لعبارة جورج لوكاتش الشهيرة، بحثا متدهورا (منظور مذهبي تراثي) عن هوية انتظام أصيلة (علاقات أفقية = عدلا) في واقع انتظام متدهور(علاقات عموديّة = دولة).

إنها بحث عن هوية انتظام جديدة تتخطى هوية الانتظام التي استقرّ عندها الفكر السياسي المعاصر واعتبرها منتهى للتاريخ ومستقرّا يجري إليه: هي الدولة. وهذا في تقديرنا مدخل مهم جدّا لفهم ما يحدث في إيران والعالم. فلا نهاية عند المسلمين للتاريخ عند هوية انتظام بعينها وإنما هي أشكال سياسيّة تبتدع ما دام الإنسان. وليست الدولة بسدرة المنتهى. ولا نهاية للتاريخ إلاّ عند الوقوف بين يدي الله بعد الانتباه من الحياة.

لئن كان لثنائية شيعة/سنّة حضور في مقالنا، فإنّ ذلك لا يعني البتّة انخراطا في مذهبيّة ممقوتة. وإنّما الثنائيّة لا تعدو أن تكون معطى سياسيّا ثقافيّا يجنّبنا تفسير تجربتنا الخاصّة بتجارب الآخرين. كما أنّنا لا نحبّذ منهجيّا النظر إلى إيران الشيعية ولا إيران الفارسية، على أهميّة هذين المعطيين، وإنما نحن أميل إلى اعتبار إيران دولة ذات طموح إمبراطوري تنتمي إلى العالم الإسلامي وتمثل عمقا للوطن العربي انطلاقا من مصالحها. إيران ثورة بالدين التهمتها الدولة، وتبقى الثورة في الدين أفق انتظار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.