بحثًا عن الإسلام في المجر

بحثا عن الإسلام في المجر



الحاضر مفتاح الماضي
الداعية والترجمان
الصليب فوق القبلة

على مقربة من مبنى البرلمان الوطني بالضفة الشرقية لنهر الدانوب أنهيت جولة استطلاعية للعاصمة المجرية بودابست. دفعني الجوع والتعب إلى اختيار أول مطعم يقابلني. من بين لافتات متنوعة لأطعمة مجرية وأميركية شدني مطعم عربي يحمل اسم "ملك الفلافل"، بعد أن جلست إلى طاولتي تذكرت عهدًا كنت قد قطعته على نفسي ألا أدخل تلك المطاعم التي تحمل أسماء المشكلات النفسية والسياسية التي نحملها معنا في المهجر على شاكلة "إمبراطور" البيتزا، و"برنس" الشاورما، وكباب "الزعيم".

ما أن تعرف على ملامحي العربية حتى قابلني البائع العربي بجفاء، لا بأس.. لم يعد تضيرني الآن تلك المقابلة العبوس، فقد فهمت السبب من أسفار وخبرات سابقة. عليك أن تتحمل ذلك الجفاء لخمس دقائق إلى أن يتأكد "شقيقك" العربي أنك لم تأت حاملا إليه مشكلة أو "ورطة".

عادة ما تكون "الورطة" إلحاحًا في طلب عمل، أو ترتيب الإقامة بدون نفقات، أو التعامل مع السلطات المحلية، أو طلبا للمال لشراء تذكرة العودة إلى الوطن بعد انسداد السبل.

نجحت الدقائق الخمس الأولى في طمأنة البائع مازن الذي سرعان ما أسلم نفسه لرغبة الحكي عن تجربته القاسية. ترك مازن وطنه هربا من ثنائية البطالة والاستبداد ودفع كل ما يملك لسمسار تهريب لاجئين. كانت الوسيلة سيارة نقل خضراوات متجهة من تركيا إلى أوروبا، دفن المهرب مازنا بين أقفاص الخيار والطماطم مع التشديد عليه ألا يتحرك خطوة من مخبئه.

بعد أسبوع من سفر السيارة عبر جنوب شرق أوروبا وصولا إلى وسط القارة، تمكن المفتشون على الحدود المجرية من العثور على مازن بين الأقفاص، كانت صحته قد تدهورت لدرجة بالغة. بقي مازن في المستشفى شهرين بين الموت والحياة، وحين أفاق خضع لعدد من التحقيقات إلى أن سمحت له السلطات المجرية بوثيقة إقامة في المجر.

بمزيج من الأسى والأسف ابتلعتُ لقيمات طعامي مع أحزان مازن وودعته مستأنفا رحلتي، متمنيا أن يمنحه الله العزم في مواجهة مشكلاته الكثيرة، وفي مقدمتها تعلم اللغة المجرية، وإعادة بناء مستقبله، واختيار زوجة تفهم تعاليم دينه الإسلامي، ثم الحفاظ على هويته، أو بالأحرى ما تبقى منها.

الحاضر مفتاح الماضي

"
في نهاية التجوال في بودابست ستقلب كفيك وأوراقك، فالعمارة اقتبست من الفن الإسلامي الكثير، والكنيس اليهودي ليس سوى نسخة طبق الأصل من مسجد بمئذنتين, وكلها تحمل بصمات شرقية: بيزنطية وتركية وإسلامية
"

بودابست عاصمة المجر وقلبها النابض، لن يكفيك شهر من التجوال الجاد بين المتاحف والكنائس والشوارع والمسارح والأزقة حتى تقف على كافة تفاصيلها، هذا إن أردت التدبر والتأمل ولم تكن رغبتك فقط أن تمر على المدن فتوقع في دفاتر الحضور وتعود إلى الأصحاب فتقول "كنت هناك".

المحطة الأولى للتعرف على العاصمة المجرية لابد أن تبدأ من كنيسة ماتياس التي يعود تاريخها للقرن الثالث عشر الميلادي. داخل الكنيسة قد تجذبك الأسقف المصممة على طراز الفريسكو والتشكيلات المختلفة للتصميم القوطي واللوحات الزيتية المبهرة لقصص ومواقف من الإنجيل، رسمت على طراز عصر النهضة.

لكن الذي سيلفت انتباهك حقا أن هذه الكنيسة حولها الأتراك خلال حكمهم الذي دام نحو 160 سنة إلى مسجد جامع. احتفظ الأتراك بكل شيء في الكنيسة ولم يعدلوا في الداخل أو الخارج سوى موضع المحراب والقبلة. ومن ثم كانت المهمة سهلة على المجريين حين أعادوا تحويل المسجد إلى كنيسة بعد "طرد" الغزاة.

العمارة المسيحية هي المعلم الأساسي للمدينة، وكتب الإرشاد السياحي ستدلك على كنائس مختلفة الفرق والمذاهب، وستجمع كافة المصادر السياحية المطبوعة والمرئية على أن تهمس في أذنيك ألا تفوتك زيارة ثاني أكبر المعابد اليهودية في العالم، وأكبر المعابد اليهودية في أوروبا ألا وهو "سيناجوج بودابست".

في نهاية التجوال ستقلب كفيك وأوراقك، فالعمارة اقتبست من الفن الإسلامي الكثير، والكنيس اليهودي ليس سوى نسخة طبق الأصل من مسجد بمئذنتين. صحيح أن بعضًا من العمارة بنيت وفق الفن القوطي وعصر النهضة والتصميم الباروكي، لكن كثيرًا من المعمار يحمل بصمات شرقية: بيزنطية وتركية وإسلامية.

وسط هذا الزحام ستندهش حقا كيف لا تعثر على أية معالم إسلامية في مدينة تحكي صفحاتها عن الفترة الإسلامية التركية حين حكم الإسلام المجر بين عامي 1541 و 1699، ولك أن تقدر عدد المساجد التي أقيمت خلال تلك الفترة الطويلة قبل أن تزال وينالها التدمير بعد أن استعاد الصليب هيبته من جديد.

على بعد نحو ساعة من مركز المدينة، وبعيدا عن أية معالم سياحية يقع المركز الإسلامي لمسلمي المجر في ضاحية "كيلينفولد"، بناية من ثلاثة طوابق بلا قباب أو مآذن ولا يمكن تمييزها عن أية عمارة سكنية مجاورة. الصورة النمطية عن المسلمين هنا أنهم أقلية هامشية لا وزن لها، حيث لا يزيد عددهم عن 30.000 مسلم في بلد تعداده 10 ملايين، ويمكن تقسيمهم إلى فئتين، الوافدين من العرب والترك والبلقان وجنوب آسيا، وهؤلاء يمثلون الأغلبية بنسبة 90%، والمجريين الذين اعتنقوا الإسلام ويمثلون النسبة الباقية.

في المركز الإسلامي التقيت سلطان شولوك، وهو شاب مجري في نهاية العقد الثالث من عمره، يعمل في المجال الاقتصادي، اعتنق الإسلام حين كان في المرحلة الجامعية بعد رحلة بحث وقراءة انتهت إلى ديانة التوحيد.

يشغل شولوك منصب رئيس هيئة مسلمي المجر، ولديه وعي كبير بآمال وآلام المسلمين في الغرب بشكل عام. يلخص شولوك أهم آلام المسلمين في المجر في تدني المستوى الاقتصادي والثقافي. فمعظم مسلمي المجر يعانون من عدة مشكلات تجعلهم يمثلون عبئا وليس مصدر قوة، فمستواهم المهني والمهاري ضعيف وجاؤوا إلى المجر هربا من مشكلات اقتصادية وسياسية في أوطانهم، ويعانون من عدة مشكلات اجتماعية ونفسية تجعل التعويل عليهم في المستقبل مراهنة محفوفة بالمخاطر.

"
الإسلام نشأ في تربة المجر الأولى ولم تكن فترة الحكم التركي خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر هي أول معرفة للمجر بالإسلام، كما لم تجلب هجرات العرب الحديثة إلى المجر الإسلام بصفته دينا وافدا على نحو ما يصور القوميون المجريون
"

المفتاح الأساسي الذي سيقوي من موقع المسلمين في المجر بحسب شولوك هو تحسين صورتهم النمطية، فالمقولة السائدة لدى بعض القوميين المتشددين في المجر هي "حمدا للرب أننا لسنا مسلمين" وهو موقف يأتي نتيجة الحالة المتردية لعدد كبير من المسلمين في المجر اليوم، كما يعود جزء منه إلى الصورة المتحيزة التي ينقلها الإعلام المجري عن العالم الإسلامي.

حين تعود إلى كتب التاريخ لن يعطيك الحاضر مفتاحا للماضي فحسب، بل يدلك على مقارنة صارخة. فعلى خلاف الصورة النمطية السائدة التي تربط الإسلام في المجر باللاجئين الفارين من الاستبداد والفقر أو بالسيطرة التركية على جنوب شرق أوروبا خلال العصر الحديث، يؤكد عدد من المصادر التاريخية (وكثير منها مجري) أن المسلمين وصلوا إلى المجر ضمن أول موجات استيطان للقبائل المجرية التي هاجرت من منطقة الأورال وشمال بحر قزوين إلى حوض الكربات في نهاية القرن التاسع الميلادي (895 م).

كان عدد من المؤسسين الأوائل للدولة المجرية في القرن العاشر الميلادي من مسلمي خوازرم، ذلك الإقليم الذي مثل الامتداد الشرقي للخلافة العباسية في تلك الأثناء. وحين تم تحول القبائل المجرية إلى المسيحية في مطلع القرن الحادي عشر (بعد تعميد الملك المجري سان ستيفان) كان المسلمون في المجر تجارًا ورحالة وخبراء في العسكرية ومستشارين للقصر الملكي.

الإسلام هنا أصيل وليس وافد، إسلام نشأ في تربة المجر الأولى ولم تكن فترة الحكم التركي خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر هي أول معرفة للمجر بالإسلام، كما لم تجلب هجرات العرب الحديثة إلى المجر الإسلام بصفته دينا وافدا على نحو ما يصور القوميون المجريون.

الداعية والترجمان
في المركز الإسلامي في بودابست جلست مستمعا إلى لقاء دعوي للنساء يتقدمن فيه بأسئلة إلى داعية جاء من شبه الجزيرة العربية. أشفقت على الداعية الحديث العهد بالمجتمع الأوروبي، فالأسئلة كانت بالغة الصعوبة بالنسبة لخبراته السابقة، انهالت على الرجل الأسئلة: كيف توافق بين ما تلقنه لأبنائك في البيت وما يتلقونه من قيم ومبادئ علمانية في المدرسة والجامعة؟ ما هي الحجج العقلية التي يمكن أن تسوقها الفتاة المسلمة في سن المراهقة لزميلاتها اللائي يفتخرن بعلاقتهن الجنسية مع الشباب؟ كيف تصبح مسلما ومواطنا مجريا في ذات الوقت؟

الداعية العربي كان يقدم إجابات "سابقة التجهيز" تعلمها وتدرب عليها في مجتمع محافظ بطبيعته، إجابات تحيلك إلى ما هو "نقلي" لا "عقلي". ولأن المترجم من العربية إلى المجرية كان عربيا من الذين عاشوا في المجر لعقدين ولديه فهم أكثر للواقع فقد سمح لنفسه بتحويل الإجابات المقتضبة غير الشافية إلى إجابات مسهبة في نسختها المترجمة، وبينما كانت إجابة الداعية عن كل سؤال تأخذ نصف دقيقة استغرقت الترجمة إلى المجرية نحو خمس دقائق!

لماذا لا يصبح المترجم داعية؟ جاءتني الإجابة: ألا ترى الداعية بزيه الإسلامي ولغته العربية ولحيته الطليقة!؟ المسلمون هنا يعتقدون أن الداعية الحق هو من يأتيهم من قلب ديار الإسلام، السعودية، اليمن، والأزهر.

بدا أنه لكي يكون الشيء "مقدسا" فلابد أن ينطق بلسان "عربي" مبين، وهو مطلب يبدو أنه ارتبط بحسن قراءة القرآن أكثر مما ارتبط بحسن قراءة الواقع.

خرجت من المركز أودع الأصدقاء الجدد، وحين أعربت لهم عن أمنيتي لو كان المركز مسجدا بمعالمه الروحية، حيث القبة والمئذنة والباحة والأسوار الخارجية، نصحني الأصدقاء بالسفر إلى بلدة "بيهتش" في جنوب المجر على بعد نحو 300 كلم من العاصمة بودابست، على أن أحبس أنفاسي هناك لأني سأجد من الإثارة الكثير.

الصليب فوق القبلة
في قطار من الحقبة الشيوعية مزود بتجهيزات عصرية قطعت الطريق إلى "بيهتش" متطلعا إلى حالة التناغم المعماري في الأراضي المجرية. فعلى خلاف ما تعانيه مراكز العمران في دول العالم الثالث من التباين الكبير بين العاصمة ومدن الأطراف، تتسم مدن وبلدات المجر، كغيرها من مدن وسط أوروبا، بانسجام وتناغم معماري بين المركز والأطراف على السواء. ربما يعود الفضل في تضييق الفوارق المعمارية وخدمات البنية الأساسية إلى الفترة الشيوعية.

الفارق الأساسي الذي ستلحظه حين تقارن بين بودابست وبيهتش أن الأولى تعرض عليك في بانوراما معمارية حلقات متجاورة من تاريخ الألف سنة الماضية أمضاها الشعب المجري في صدام واشتباك مع القوى الإقليمية المجاورة، مسيحية وقومية وإسلامية وشيوعية. في المقابل ستبدو بيهتش بلدة تجمع بين عمارة القرون الوسطى ورفاهية القرن الحادي والعشرين.

"
المشهد في بيهتش يؤكد أن الدين لمن غلب، فبهو المسجد وأروقته صارت مقصورات كنسية، والمشهد النادر الصادم تمثله قبلة المسجد، في وسط القبلة "بسم الله الرحمن الرحيم" وفوق المحراب تمثال يجسد المسيح مصلوبا ينزف الدم من صدره!
"

بيهتش مدينة صغيرة أنيقة يبدأ كل شيء فيها من الميدان الرئيسي الذي يتوسطه المسجد الذي حوله المجريون إلى كنيسة. من أي مكان في وسط المدينة يمكنك رؤية المسجد وقد علا الصليب فوق هلاله. الأمر مختلف هنا عما مارسه المسيحيون في روسيا خلال العهد القيصري حين كسروا الأهلة ووضعوا الصلبان فوق المساجد وحولوها إلى كنائس (في العهد السوفياتي تفنن الشيوعيون في مضمار آخر، إذ حولوا المساجد إلى حظائر للماشية).

داخل المسجد/الكنيسة في بيهتش يؤكد لك المشهد أن الدين لمن غلب، فبهو المسجد وأروقته صارت مقصورات كنسية، وتم تحويل مشربيات المسجد وقبته الفخمة إلى منصات للأيقونات والتصاوير المسيحية. المشهد النادر الصادم تمثله قبلة المسجد، في وسط القبلة "بسم الله الرحمن الرحيم" وفوق المحراب تمثال يجسد المسيح مصلوبا ينزف الدم من صدره!

إذ أردت الصلاة فليس أمامك في "بيهتش" –التي كانت مركزا إسلاميا رائدا في وسط أوربا– سوى مسجد صغير بمئذنة بالغة التميز، تم تحويل نصف هذا المسجد إلى متحف للتاريخ التركي والنصف الآخر زاوية للصلاة.

حين تصلي في آخر بقعة مما تبقى للإسلام في المجر ستغمرك حقا مشاعر مختلطة، لن يقطعها سوى أجراس كنيسة البازيلكا المجاورة.

ستمضي بك الأفكار إلى شعاب شتى، بعضها يشغلك بمستقبل المسلمين في جنوب ووسط أوروبا في القرن الحادي والعشرين؟ وبعضها يحبسك في تركة التاريخ ومشكلات الحاضر؟

لكن الأكيد أن رحلة البحث عن الإسلام في المجر ووسط أوروبا ستقنعك في النهاية بأن البوابات تفتح على عوالم أكبر، تتجاوز المشاغبات الدائرة في "حارة" الشرق الأوسط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.