مناكفات الأحزاب السودانية حول ملتقى جوبا

مناكفات الأحزاب السودانية حول ملتقى جوبا





 
وقعت زعامات القوى السياسية المشاركة في ملتقى جوبا على "إعلان جوبا للحوار والإجماع الوطني" مساء الأربعاء (14/10) بقاعة الصداقة في الخرطوم وسط أجواء احتفالية وحضور كثيف لمنسوبي الأحزاب السياسية وممثلي البعثات الدبلوماسية ومنظمات المجتمع المدني.

كان على رأس الموقعين الدكتور رياك مشار نائب رئيس حكومة الجنوب والإمام الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي والدكتور حسن الترابي الأمين العام للمؤتمر الشعبي والأستاذ محمد إبراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي والسيد مبارك الفاضل رئيس حزب الأمة الإصلاح والتجديد والأستاذ فاروق أبو عيسى المتحدث باسم التجمع الوطني الديمقراطي، واعتمدت السكرتارية توقيع الأستاذ علي محمود حسنين نائب رئيس الاتحادي الديمقراطي (الأصل) في وقت سابق نسبة لسفره خارج البلاد وتوقيع أركو مناوي رئيس حركة تحرير السودان، وآخرين بلغ عددهم 28 من قادة القوى السياسية والمدنية.

"
وصف المهدي ملتقى جوبا بأنه أوسع قاعدة للإجماع الوطني منذ الاستقلال، وأنه المرة الأولى التي تكون فيها البوابة الجنوبية مدخلاً للحل القومي، وأنه قام بجهد سوداني خالص، وأن المتخلفين عنه مثل المنبت الذي لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى

"

وخاطب الجلسة كل من باقان أموم رئيس اللجنة التحضيرية الأمين العام للحركة الشعبية ورياك مشار والصادق المهدي. نقل مشار رسالة من رئيس الحركة الشعبية سلفاكير ميارديت تحمل أمنياته بنجاح الملتقى وأن ينضم الآخرون إليه وعلى رأسهم المؤتمر الوطني الذي تغيب عن حفل التوقيع كما قاطع حضور الملتقى في جوبا عاصمة الإقليم الجنوبي، وأكد أن حزبه يعمل مع بقية القوى السياسية من أجل هدف نبيل يتمثل في وحدة البلاد ويلتزم بإنفاذ إعلان جوبا لإخراج البلاد من الأزمات الحالية.

ووصف المهدي ملتقى جوبا بأنه أوسع قاعدة للإجماع الوطني منذ الاستقلال، وأنه المرة الأولى التي تكون فيها البوابة الجنوبية مدخلاً للحل القومي، وأنه قام بجهد سوداني خالص، وأن المتخلفين عنه مثل المنبت الذي لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.

والذي دفع الحركة إلى احتضان ملتقى جوبا والدعوة إليه في الفترة من 26 إلى 30 سبتمبر/أيلول 2009م هو المشاكسة بينها وبين المؤتمر الوطني حول بعض قضايا الفترة الانتقالية وهي: قانون الاستفتاء على حق تقرير المصير لأهل الجنوب ونتيجة التعداد السكاني الذي ترفضه الحركة وتعديل قوانين التحول الديمقراطي وقانون المشورة الشعبية لولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق.

وقد فشلت ثلاثة اجتماعات بين الشريكين بحضور مبعوث الرئيس الأميركي أسكوت غرايشون في واشنطن والخرطوم وجوبا في الوصول إلى حل مقبول لتلك القضايا. لذا سعت الحركة بعد تردد إلى كسب حلفاء لها من بين أحزاب المعارضة الشمالية تتقوى بهم على شريكها المتمنع، ورحبت قوى المعارضة الشمالية بهذا التحالف الجديد ضد المؤتمر الوطني فقد سامها الخسف وتجاهلها طيلة الفترة الماضية وتنكر للاتفاقيات التي عقدها مع التجمع الوطني الديمقراطي في القاهرة ومع حزب الأمة القومي تحت مسمى "التراضي الوطني" وجمّد الحوار الذي بدأه مع الحزب الشيوعي، أما حزب غريمه الترابي فلا يستحق في تقدير الحزب الغالب إجراء حوار معه.

وشن المؤتمر الوطني حملة شعواء على ملتقى جوبا الذي رفض المشاركة فيه واصفًا إياه بحوار الطرشان لأن الأحزاب المشتركة فيه لا يجمع بينها جامع، وأنها تهدف لوقف التحول الديمقراطي وعدم قيام الانتخابات في موعدها المضروب (أبريل/نيسان 2010)، وأن الملتقى ممول من خارج البلاد.

وساير الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يتزعمه محمد عثمان الميرغني حليفه المرتجى بعدم حضور الملتقى دون أن يسمي ذلك مقاطعة، وهو يتطلع إلى توصيات وقرارات الملتقى فإن كانت تتفق مع مواقف الحزب في قضايا الوحدة والسلام والديمقراطية والوفاق أيدها ورحب بها رغم عدم المشاركة، أما نائب رئيس الحزب علي محمود حسنين الذي ضاق ذرعًا بزعامة الميرغني التقليدية السلطوية فقد حضر خصيصًا من لندن وشارك بحماسة في مداولات الملتقى دون أن يأبه لرأي زعيمه الطامع في القربى مع الحزب الحاكم!

ويبدو أن السبب الحقيقي من وراء مقاطعة المؤتمر الوطني للملتقى هو خوفه من أن يجابه بتكتل القوى السياسية ضده فيما يتعلق بمطالب المعارضة الشمالية في الاستحقاقات الديمقراطية التي يتضمنها الدستور الانتقالي وظلت تنادي بها منذ إجازة الدستور في يوليو/تموز 2005م دون استجابة من الحزب الحاكم الذي لا يريد إضعاف قبضته على مقاليد الأمور في مناخ تعددي لم يعتد عليه، كما يخشى من تأييد المعارضة الشمالية لمواقف الحركة في القضايا المختلف عليها بينهما مثل قانون الاستفتاء والتعداد السكاني وترسيم الحدود بين الشمال والجنوب وقانون المشاورة الشعبية.

"
السبب الحقيقي من وراء مقاطعة المؤتمر الوطني للملتقى هو خوفه من أن يجابه بتكتل القوى السياسية ضده فيما يتعلق بمطالب المعارضة الشمالية في الاستحقاقات الديمقراطية التي يتضمنها الدستور الانتقالي
"

وحدث ما يخشاه المؤتمر الوطني فقد نجح الملتقى في حشد أكثر من عشرين حزبًا، وتوصل المؤتمرون إلى اتفاق تام حول القضايا التي ناقشوها وكانت أقرب إلى مواقف الحركة الشعبية والمعارضة الشمالية في مقابل مواقف الحزب الحاكم، بل هدد المؤتمرون بمقاطعة الانتخابات القادمة إن لم يستجب المؤتمر الوطني لتوصيات الملتقى في القضايا الرئيسية.

ولو حضر المؤتمر الوطني لجاءت التوصيات أخف وطأة عليه ولما وصلت حد التهديد بمقاطعة الانتخابات التي يحرص عليها المؤتمر كثيرًا. وقد كان منهج المؤتمر الوطني دائمًا هو تجنب اللقاء مع القوى السياسية مجتمعة حتى لا تصطف ضده، وهو يميل إلى عقد الاتفاقات الثنائية مع التنظيمات السياسية منفردة رغم ما جره ذلك من تعقيد في حالة أزمة دارفور التي أدت إلى تشظي الفصائل المسلحة إلى أكثر من عشرين فصيلاً بسبب انفراد المؤتمر بها واحدة بعد الأخرى.

أصدر الملتقى بعد أربعة أيام من التداول بيانًا ضافيًّا (إعلان جوبا للحوار والإجماع الوطني) اشتمل على مقدمة وستة محاور هي: الحوار والإجماع الوطني، المصالحة الوطنية، اتفاقيات السلام، التحول الديمقراطي، الوضع الاقتصادي والاجتماعي، السياسات الخارجية.

كانت أهم التوصيات هي: الدعوة إلى حوار شفاف لمعالجة الأزمة الوطنية بين كافة القوى الوطنية ومنظمات المجتمع المدني والنساء دون إقصاء لأحد. أن هناك مظالم تاريخية لحقت بالجماعات والأفراد خاصة في الجنوب ودارفور تستدعي الاعتراف بها والاعتذار عنها وتكوين لجنة مستقلة للحقيقة والمصالحة تتقصى الحقائق في كل التعديات وانتهاكات الحقوق منذ الاستقلال واتخاذ الإجراءات اللازمة لرد المظالم عن طريق المحاسبة القانونية أو التعويض المادي. ضرورة الإنفاذ الكامل لاتفاقية السلام الشامل بما في ذلك إجراء الاستفتاء في موعده وإجازة قانون الاستفتاء في دورة البرلمان الحالية واعتماد الأغلبية البسيطة للحسم بين خياري الوحدة أو الانفصال وترسيم الحدود والالتزام بقرار هيئة التحكيم في قضية أبيي.

وتعهد الملتقى بالعمل على تعزيز الوحدة بتدابير سياسية واقتصادية وتشريعية، ورفض تصعيد العمل العسكري في دارفور، وأمّن على مطالب أهل دارفور في نصيب الإقليم في السلطة والخدمة الوطنية وفق حجمه السكاني وحقه في التعويضات الفردية والجماعية لما لحق به من أضرار، وضرورة المساءلة القانونية أمام قضاء مستقل ونزيه عن كل الجرائم والانتهاكات التي وقعت في دارفور، وأن تحل مشكلة دارفور سلميا قبل الانتخابات حتى يتمكن مواطنو الإقليم من المشاركة فيها، وأن ينزع سلاح الجنجويد والمليشيات القبلية، وأن تنفذ كل بنود اتفاقية الشرق واتفاقية القاهرة التي تتضمن التحول الديمقراطي والإصلاح الاقتصادي وإنصاف المفصولين تعسفيًّا.

وطالب الملتقى ببسط الحريات المنصوص عليها في الدستور الانتقالي وتعديل القوانين ذات الصلة حتى تتواءم مع الدستور وأن لا يتعدى ذلك الثلاثين من نوفمبر، وأن الملتقى يعتبر تعديل القوانين شرطًا لمشاركة أحزابه في الانتخابات القادمة. ودعا إلى استمرار النسب المعتمدة لقسمة السلطة في اتفاقية نيفاشا بدلاً من التعداد السكاني المختلف عليه. وطالب المجتمعون بتقليص الإنفاق الحكومي وإلغاء الجبايات والضرائب خاصة في مجال الإنتاج الزراعي والحيواني وإلغاء قرارات الفصل التعسفي والشروع الفوري في تنفيذ خطة لربط الشمال بالجنوب بمختلف وسائل المواصلات.

"
اختتم ملتقى جوبا توصياته بالاتفاق على قيام آليات تعمل على تعميق وتوسيع الحوار الوطني تتكون من مجلس للرئاسة ومجموعة عمل وسكرتارية تستمر في مواصلة اللقاءات الرامية إلى بلورة الإجماع الوطني والتصدي لقضايا الوطن
"

واختتم الملتقى توصياته بالاتفاق على قيام آليات تعمل على تعميق وتوسيع الحوار الوطني تتكون من مجلس للرئاسة ومجموعة عمل وسكرتارية تستمر في مواصلة اللقاءات الرامية إلى بلورة الإجماع الوطني والتصدي لقضايا البلاد الكبيرة وتتابع إنفاذ ما توصل إليه الملتقى.

وليس في توصيات الملتقى ما يستدعي غضبة المؤتمر المضرية عليه وإن ساءته الدعوة إلى مساءلة قضائية ضد الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان. وحاول رئيس الجمهورية استباق توصيات الملتقى برفع الرقابة القبلية عن الصحف التي كان يمارسها جهاز الأمن بكثافة كل ليلة، ونادى بالسماح لكل الأحزاب السياسية بأن تعقد ندواتها في الساحات العامة وكانت تلك المكرمة حكرًا فقط على المؤتمر الوطني وواجهاته العديدة.

ولكن قرارات رئيس الجمهورية لا تغني عن تعديل القوانين المقيدة للحريات، فقد سبق للحكومة أن رفعت الرقابة ثم أعادتها مرة أخرى، وبقاء قانون جهاز الأمن الوطني كما هو فيه مخالفة صريحة للدستور يصعب الدفاع عنها.

واستمر الخلاف والمناكفة بين القوى السياسية، خاصة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، بعد ملتقى جوبا. فقد رفضت الحركة الشعبية محاولة رفع الحصانة البرلمانية عن رئيس كتلتها ياسر عرمان بطلب من الشرطة التي أساء إليها في تصريحات صحفية، واحتجت على عدم مشاورتها في وضع أجندة البرلمان، واتهمت المؤتمر بأنه يغير القوانين التي يتفق عليها داخل اللجنة القانونية المشتركة ويقدم للبرلمان مشروعات مختلفة.

وهدد متحدث باسم الحركة بمقاطعة جلسات البرلمان، وقالت الحركة إنها ستنزل إلى الشارع لتأييد مطالبها، وزاد على ذلك وزير التعاون الإقليمي والدولي بحكومة الجنوب حين هدد بنقل الحرب إلى الشمال. وأخيرًا بلورت الحركة مواقفها في مذكرة تقدمت بها إلى رئيس البرلمان (في 13/10) تطالب فيها بإجازة قوانين الاستفتاء والأمن الوطني والمشورة الشعبية والقانون الجنائي والإجراءات الجنائية والنقابات وملء مقاعد الحركة الشاغرة في اللجان حسب توجيهات رئيس الحركة وذلك في مدى أسبوع وإلا ستقاطع الجلسات.

وجاء رد المؤتمر الوطني في مؤتمر صحفي عقده مسؤول التعبئة السياسية بالحزب إبراهيم غندور، قال فيه إن الحركة شريك في كل مستويات الحكم ومع ذلك تتصرف وكأنها معارضة، وإن سبب تأجيل القوانين هو اختلاف وجهات النظر حولها بين الشريكين، وإن قانوني الاستفتاء والأمن الوطن على وشك عرضهما على البرلمان بعد الاتفاق حولهما في المناقشات الجارية بين نائب رئيس حكومة الجنوب رياك مشار ونائب رئيس الجمهورية علي عثمان، أما قوانين العقوبات الجنائية والإجراءات الجنائية فهي مما اتفق عليه في نيفاشا وذلك بأن تطبق الشريعة الإسلامية في الشمال ويستثنى منها الجنوب وليس هناك نية في تعديلها، وإن قانون المشورة الشعبية لم ينص عليه في اتفاقية السلام الشامل ولكنها تتم مع المجلس التشريعي المنتخب في كل من ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق ولا يحتاج ذلك إلى قانون.

"
لا خيار أمام شريكي الحكم إلا الاتفاق حول القضايا المطروحة, وسيجد المؤتمر الوطني نفسه مضطرًا إلى الوصول إلى حل وسط فيما يخص قانون الاستفتاء والأمن الوطني وحصة الجنوب في مقاعد البرلمان الاتحادي
"

ولا خيار أمام الشريكين المتشاكسين إلا الاتفاق حول القضايا المطروحة فيما تبقى من الفترة الانتقالية ولا يسمح الزمن بمزايدات وتلكؤ أكثر، وسيجد المؤتمر الوطني نفسه مضطرًا إلى الوصول إلى حل وسط فيما يخص قانون الاستفتاء والأمن الوطني وحصة الجنوب في مقاعد البرلمان الاتحادي.

ولا يستبعد في ظل المواجهة بين الطرفين أن يتحول ملتقى جوبا إلى تحالف انتخابي في مواجهة المؤتمر الوطني، وسيؤثر ذلك كثيرًا على موقف الحزب وحساباته باكتساح الانتخابات القادمة.

وقد سبق للدكتور الترابي أن دعا المعارضة إلى الاتفاق على مرشح رئاسي واحد ضد البشير الذي يرشحه المؤتمر الوطني، ورغم صعوبة ذلك الاتفاق فإن السياسة السودانية برهنت أكثر من مرة على أنها حبلى تلد كل عجيب!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.