مفارقات الخطاب المغربي الرسمي بشأن الإصلاح الديني

العنوان: مفارقات الخطاب المغربي الرسمي حول الإصلاح الديني



إمارة المؤمنين وأوهام تحديث الدولة
إشكالية "فرض" المذهب المالكي

لا يكاد يختلف اثنان من المهتمين بالشأن العربي العام حول أهمية إصلاح البنية الثقافية العربية، باعتبار هذا الإصلاح مدخلا أساسيا لباقي عمليات الإصلاح في المجالات الأخرى.

وإذا كان الأمر كذلك فإن الإصلاح الثقافي يمر حتما عبر إصلاح الشأن الديني نظرا لما له من أهمية في تسهيل الإصلاح في باقي المجالات، بحكم مركزية التفكير الديني في حياة المجتمع العربي.

لكن عن أي إصلاح نتحدث؟ وهل يمكن أن نعتبر أن كل خطاب حول الإصلاح الديني خطابا مستوفيا لشروط الإصلاح؟ وما هي المفارقات التي يحملها خطاب الإصلاح الديني خاصة في الأطروحة الرسمية للدولة المغربية؟

إمارة المؤمنين وأوهام تحديث الدولة 

"
موضوع إمارة المؤمنين لا يمكن فصله عن مشروع إعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية وتطويرها نحو أفق يتجاوز جوهرها الاستبدادي القائم على منح سلطات مطلقة للمؤسسة الملكية في إطار نموذج تقليدي للحكم يعيد إنتاج شكل الدولة السلطانية المعروف تاريخيا
"

إن مقاربة ملف تدبير الحقل الديني بالمغرب ينبغي أن يتجاوز كل نظرة تبسيطية تحاول أن تختزل النقاش حول هذا الإشكال في مسألة الحديث عن إمارة المؤمنين ووظائفها وأبعادها، رغم أهمية هذه القضية، ووضعها في سياق أعم يستحضر إشكالية تدبير الدولة ككل، وطبيعة الخلفيات الكامنة وراء المفاهيم الناظمة للخطاب الرسمي حول هذه القضية.

واختصارا يمكن القول إن موضوع إمارة المؤمنين في تصورنا لا يمكن فصله عن مشروع إعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية وتطويرها نحو أفق يتجاوز جوهرها الاستبدادي القائم على منح سلطات مطلقة للمؤسسة الملكية في إطار نموذج تقليدي للحكم يعيد إنتاج شكل الدولة السلطانية المعروف في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية والقائم على شرعية التغلب. وفي هذا السياق ينبغي أن نحدد بعض المفاهيم من أجل تسليط الضوء حول هذه المسألة.

فبالرجوع إلى أصل التسمية "أمير المؤمنين" نعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الراشد الثاني هو أول من سمى نفسه بهذا الاسم تفاديا للقب طويل هو "خليفة خليفة رسول الله" ولم يكن هذا اللقب ينطوي على معان تمنحه أي قداسة في سلوكياته تحد من قدرة الناس على نقده ومراقبته وتوجيهه، ولا على سلطات مطلقة تجعله يتصرف في الحكم بالشكل الذي يريد، كما يحاول الكثير من المدافعين عن استمرار هذه الوظيفة التي يؤطرها الفصل الـ19 من الدستور المغربي.

لقد وضع هذا الفصل في دستور 1962 الذي رفضه الشعب المغربي في سياق تصديه للمحاولات التي عرفها المغرب مطلع الاستقلال لإقامة نظام شمولي يأخذ شكل ملكية مطلقة تستفرد بالسلطة والثروة.

ويستذكر أحد رموز تلك المرحلة الكالحة حكاية اقتراحه على الملك الحسن الثاني إضافة هذا الفصل للدستور لإضفاء "شرعية دينية" على منصب الملك في مواجهة المعارضة القوية التي كان يقودها حينذاك الفصيل الرئيس من الحركة الوطنية (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) لبناء دولة وطنية مستقلة في إستراتيجيتها عن أجندة الاستعمار ومتحررة من الارتباط به.

غير أن المفارقة المثيرة هي أن يتحول اقتراح من أحد الأطراف المحسوبة على السلطة إلى مصدر إلهام لقوى أخرى أسست شرعيتها على مناهضة رموز تلك المرحلة والتصدي لتبعاتها (مواقف لأطراف محسوبة على اليسار التقليدي أو على التيار الديني التقليدي بدواع مختلفة).

"
احتواء الإسلام على منظومة قيمية أخلاقية واضحة يمنحنا إمكانيات تأويلية واعدة للانتصار للقيم الإنسانية الكبرى بشكل يحررنا من الارتباط بالتجارب التاريخية للحكم التقليدي والانفتاح على مكتسبات التجارب الإنسانية المختلفة
"

إن النظر إلى مسألة "إمارة المؤمنين" بالرجوع إلى النقاش الدائر في المغرب، يعكس الخلاف بين رؤيتين متناقضتين: رؤية تعتبر أن مصدر السلطة والسيادة ينبغي أن يستمد شرعيته من صاحب هذه الشرعية وهو الشعب، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يترجم على أرض الواقع إلا عبر دولة ديمقراطية تتمثل في سلوكياتها قيم الديمقراطية الحقة والمعروفة كونيا (التداول السلمي للسلطة، إقرار التعددية السياسية، استقلال القضاء…).

وإذا أخذنا بعين الاعتبار جوهر النظام الديمقراطي وابتعدنا عن المظاهر فإن هذه القيم لا يمكن أن تتحقق مغربيا إلا عبر إقامة نظام ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم، حيث إنها الطريقة الممكنة التي وفقت بها التجارب الإنسانية بين استمرار أسرة حاكمة وممارسة الشعب لسيادته.

وفي مقابل ذلك هناك رؤية تقليدية تعتبر أن مصدر السيادة ليس هو الشعب، وإنما هو شخص الحاكم الذي يستمد شرعيته من مصادر متعالية عن الشرعية التي يمنحها الشعب ( شرعية النسب، أو الحق الإلهي المزعوم…) ويدافع أصحاب هذا التصور عن استمرار الدور المحوري للمؤسسة الملكية في رسم السياسة الوطنية وتدبير أمور الدولة، رغم المآلات المخيفة لنتائج هذه التجربة في الخمسين سنة الماضية.

إن احتواء الإسلام على منظومة قيمية أخلاقية واضحة يمنحنا إمكانيات تأويلية واعدة للانتصار للقيم الإنسانية الكبرى (الحرية، الكرامة، المساواة…) بشكل يحررنا من الارتباط بالتجارب التاريخية للحكم التقليدي التي سادت في الفضاء العربي الإسلامي، والانفتاح على مكتسبات التجارب الإنسانية المختلفة في تدبير شؤون الدولة والمجتمع بطريقة ديمقراطية، مما يفتح المجال لتحقيق النهضة المنشودة.

وخلاصة القول في هذه النقطة أن موقفنا يتأسس على أن مقاربة هذه المسألة لا ينبغي فصلها عن مجمل تصورنا لشكل النظام الديمقراطي الذي يتنافى مع بقاء فصول في الدستور (ليس الفصل 19 إلا واحدا منها) تعكس مضامينها الانتماء إلى ثقافة القرون الوسطى التي تقدس الحاكم وتمنحه مكانة إلهية تتجاوز حقيقته الإنسانية المؤكدة.

إشكالية "فرض" المذهب المالكي

"
المذهب الفقهي ليس إلا اجتهادا بشريا صاغته مجموعة محددة من الناس رغبة منها في تقديم إجابات على مشاكل أفرزتها التجربة التاريخية لهؤلاء، من خلال تفاعل خلاق بين الأبعاد الثلاثة وهي: الوحي الإلهي والعقل الإنساني والواقع المعاش
"

لا يفتأ الخطاب الرسمي المغربي يرفع شعارات تتبنى "الانتماء" للمذهب الفقهي المالكي وتتقمص مواقف الدفاع عنه في مواجهة ما يعتبره مذاهب "دخيلة" على النسق الديني المغربي. وبغض النظر عن أصل هذا المذهب القادم بدوره من المشرق العربي، فإن هذه المسألة تستدعي منا أن نبدي الملاحظات التالية:

أ- إن اختيار مذهب من المذاهب الفقهية موجها لتأطير رؤية الناس العقدية، وسلوكياتهم وعلاقاتهم مع بعضهم البعض، لا ينبغي أن يكون مسألة دولية (من الدولة) تفرض من أعلى حتى ولو كان هذا الاختيار ناتجا عن قرار مبدئي تختاره دولة ذات شرعية ديمقراطية تستمدها من الشعب، بقدر ما هو اختيار ذاتي تتبناه الأمة عبر تاريخ طويل من التفاعل والأخذ والرد والتهذيب والتشذيب للآراء والمواقف الفقهية المختلفة وهو ما تؤكده التجربة التاريخية للأمة التي عرفت ظهور عشرات المذاهب الفقهية غير أنه لم تكتب السيادة والانتشار إلا لعدد منها لا يتجاوز الثمانية.

ب- إن المذهب الفقهي ليس إلا اجتهادا بشريا صاغته مجموعة محددة من الناس رغبة منها في تقديم إجابات على مشاكل أفرزتها التجربة التاريخية لهؤلاء، من خلال تفاعل خلاق بين الأبعاد الثلاثة المنتجة لهذه المنظومات في تاريخ الحضارة الإسلامية وهي: الوحي الإلهي والعقل الإنساني والواقع المعاش.

وهذا ما يجعل من المذهب الفقهي اجتهادا من الاجتهادات الممكنة وليس الوحيدة. ناهيك عن أن تغير الظروف والأحوال يجعل من اللازم أن نتجاوز كل منظور ضيق في مقاربة هذا الإشكال، عبر الانفتاح على الاجتهادات التي خلفتها لنا جميع المذاهب دون استثناء.

مع العلم أن كل ما هو إيجابي فيها لا يستطيع أن يقدم لنا حلولا لمشاكلنا المعاصرة التي تتسم بالتعقيد والتداخل، مع فتح المجال واسعا للاستفادة من التجارب الإنسانية المختلفة.

وهي إمكانية حاضرة في الإسلام، باعتبار أنه لا يقدم، فيما يتعلق بتنظيم الدولة والمجتمع، إلا مجموعة من القيم الكبرى التي ينبغي أن يستلهمها الإنسان (الحرية، الكرامة، العدل، الأولوية للجماعة على الفرد..) ولا يقدم لنا نموذجا جاهزا يمكن تطبيقه في كل زمان ومكان.

"
تبني الخطاب الرسمي للمذهب المالكي لا يعدو أن يكون دعاية أيديولوجية فجة تحاول إسباغ نوع من "المشروعية الدينية" على نظام سياسي تقليدي يواجه تحديات التحديث الحقيقي التي تطرحها القوى الديمقراطية من جهة أو القوى الإسلامية التي تستمد "شرعيتها" من الدين
"

ج- إن الحديث عن تبني الخطاب الرسمي للمذهب المالكي لا يعدو أن يكون دعاية أيديولوجية فجة تحاول إسباغ نوع من "المشروعية الدينية" على نظام سياسي تقليدي يواجه تحديات التحديث الحقيقي التي تطرحها القوى الديمقراطية من جهة أو تحديات القوى الإسلامية التي تستمد "شرعيتها" من الدين.

وبحكم الدور المحوري للمؤسسة الملكية في النسق السياسي المغربي أصبح خطاب تبني المذهب المالكي يجد صداه لدى كل الأحزاب التي تقبل المشاركة في اللعبة السياسية المرسومة، دون تمييز أو نقد أو توضيح لأبعاد هذا النزوع وخلفياته، حتى ولو تناقض تبني هذا الخطاب مع منطلق تلك القوى ومبادئها.

وبالعودة إلى تبني الخطاب الرسمي للمذهب المالكي لا بد أن أشير إلى المفارقات التي يثيرها هذا الأمر، وكذلك الطابع الانتقائي لهذا الاختيار، عبر مجموعة من الأمثلة:

1- إن التراث الفقهي المالكي، خاصة ما تعلق منه بالفكر السياسي، تبلور أساسا، كمنظور معارض للاستبداد، وهو ما يمكن استنتاجه بالاقتصار على تجربة الإمام مالك بن أنس مؤسس المذهب وواضع لبناته، إذ تحكي كتب التاريخ صراعه المرير مع والي المدينة جعفر بن سليمان الذي قاد حملة لإكراه الناس على "بيعة" أبي جعفر المنصور عبر إلزامهم بصيغة تتضمن اليمين بالطلاق إن هم خلعوا طاعتهم له، ليصدر الإمام مالك فتواه الشهيرة التي تبطل طلاق المكره، حيث تعرض لمحنة كبيرة انتهكت فيها حقوقه الأساسية (تعذيبه وإهانته عبر تطويفه في الأسواق).

ولم يتراجع مالك عن فتواه الرافضة لطلاق المكره التي كانت تنضح برفض واضح لبيعة الإكراه التي كانت السمة المميزة لكل الدول المتعاقبة في فضاء الحضارة العربية الإسلامية، على الأقل منذ اغتيال الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقيام دولة بني أمية التي أسقطت مبدأ الشورى واستبدلته بالتغلب والإكراه.

وهو ما تسرده علينا كتب التاريخ المختلفة وفي مقدمتها تلك التي كتبها فقهاء محسوبون على المذهب المالكي كالسيوطي في "تاريخ الخلفاء" والتميمي في "كتاب المحن" إلى الحد الذي يمكن أن نعتبر معه المذهب المالكي محسوبا على الاتجاه القائل بوجوب الخروج على الحكام المستبدين وبناء القدرة للتمكن من إسقاطهم، وهو ما تؤكده مواقف العديد من رموزه عبر التاريخ.

2- إن تبني ترسيم المذهب المالكي يتناقض مع موقف الإمام مالك نفسه، حين رفض أن يحمل الناس على تقليد مذهبه بعد طلب أبي جعفر المنصور أن يتم ذلك، فما كان من الإمام مالك إلا أن أعلن رفضه لهذا الاقتراح بشكل قاطع منتصرا لفتح الباب أمام حرية الاجتهاد، واختيار التعبد والسلوك وفقا للمذهب الذي يرتضونه دون إلزام أو فرض.

3- إن الإعلان عن تبني المذهب المالكي رسميا يتناقض مع ممارسات كثيرة تقوم بها الدولة عموما أو جهازها الأيديولوجي المؤطر للحقل الديني خصوصا (وزارة الأوقاف) يمكن استحضارها على سبيل المثال لا الحصر:

– مثلا يصر النظام على مخالفة المذهب المالكي فيما يتعلق برؤية هلال رمضان، ما دام أن المالكية من أبرز المدافعين عن القول بوحدة المطالع التي تعني توحيد الإعلان عن ظهور الهلال ودخول شهر رمضان عوض البحث عن شرعية دينية مبنية على التميز عبر إلزام المغاربة بالصوم بعد يوم أو يومين من الإعلان عن ظهور هلال رمضان (في حين أن المسألة محسومة علميا في هذا العصر، لأن الأمر يتعلق بهلال واحد لا أكثر).

"
ثمة مفارقات في الخطاب الرسمي المعلن حول العديد من القضايا التي تهدف من خلالها الدولة إلى ضمان استمرار هيمنتها على المؤسسة الدينية وعدم مواجهة استحقاقات التحديث الحقيقية بما يخفي عمقا استبداديا محافظا يهدف إلى استمرار الأوضاع على حالها
"

– يعتبر الإمام الشاطبي، وهو أحد أقطاب المذهب، أن الدعاء لشخص الحاكم في المساجد (خاصة أثناء خطبة الجمعة) فعلا موجبا للتفسيق المؤدي إلى إبطال الصلاة، على اعتبار أن الدعاء لا ينبغي أن يخصص به شخص معين بل يشمل جميع المسلمين، ومن ضمنهم الحاكم إن كان مسلما، في حين تلزم وزارة الأوقاف الأئمة، في سلوك سلطوي بئيس، على الدعوة لشخص الحاكم وأسرته وفق صيغ بعينها يحاسب من لا يقوم بها حسابا شديدا.

– عدم اكتفاء الدولة أثناء صياغتها لمدونة الأسرة الأخيرة بمقتضيات الرؤية الفقهية المالكية، بل تعدتها إلى اجتهادات أخرى تضمنتها مذاهب فقهية مغايرة، قصد حل بعض الإشكالات المرتبطة بتطوير وضعية المرأة وتحسينها.

إننا أمام أمثلة تعكس مفارقات الخطاب الرسمي المعلن حول هذه القضية التي تهدف من خلالها الدولة إلى ضمان استمرار هيمنتها على المؤسسة الدينية وعدم مواجهة استحقاقات التحديث الحقيقية التي تعني تجاوز المنظور التقليدي لهذه المسألة بما يخفي عمقا استبداديا محافظا يهدف إلى استمرار الأوضاع على حالها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.