بين جولة التسليح والتفتيت ومؤتمر السلام والتطبيع

تصميم فني لصفحة تحليلات - بين جولة التسليح والتفتيت ومؤتمر السلام والتطبيع



– مؤتمر سلام وصفقات سلاح
– معادلة "التطبيع أولا"
– "تجريب المجرب" سياسة عقيمة
– المستقبل لمشروع المقاومة

لم تعد الدعوة الصادرة عن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن لعقد "مؤتمر سلام دولي" عائمة المعالم كما ظهرت يوم أعلنها، ولم تعد مجرد محاولة للتغطية على انهيارات متتابعة في سياسات عسكرة مسيرة الهيمنة الأميركية عالميا بإنجاز ما قبل نهاية فترته الرئاسية الثانية، بل اتخذت شكل ما يسمى "الهروب إلى الأمام" بوضع بذور مرحلة جديدة للمنطقة، تستهدف بناء محور جديد يبتعد عن القضية المصيرية بفلسطين، جنبا إلى جنب مع توجيه مسار القضية فيما يمكن أن يوصل إلى تصفيتها وفق المنظور الصهيوأميركي.

والمعالم الأساسية التي يراد أميركيا أن تكون لتلك المرحلة القادمة، أصبحت ظاهرة للعيان أيضا من خلال جولة وزيري الخارجية والدفاع، رايس وغيتس، في المنطقة، وما سبقها وواكبها من مواقف وتصريحات.


"
المقصود في مؤتمر السلام الجديد هو تحويل محور المواجهة المصيرية الكبرى في المنطقة من الجبهة العربية الإسرائيلية إلى جبهة مواجهة عربية إيرانية عتيقة يجري تجديدها لتأخذ صورة جديدة، لا يستثنى فيها إحداث شروخ إضافية في الساحة العربية نفسها
"

مؤتمر سلام وصفقات سلاح
أما مؤتمر "السلام" الذي أعطت الدعوة إليه إشارة بدء الإعداد لتلك المرحلة، فيراد له على ما يبدو أن يكون في نهاية المطاف الأرضية التي يتم فيها إخراج الصورة التي تنشأ عن الجهود الجارية لإعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة، ليس بالمعنى التقليدي من حيث إعادة تشكيل الدول والحكومات، ناهيك عن أوهام نشرتها فترة من الزمن دعوات ملغومة إلى الديمقراطية والإصلاح وحقوق الإنسان، بل المقصود هو تحويل محور المواجهة المصيرية الكبرى في المنطقة، من الجبهة العربية الإسرائيلية، إلى جبهة مواجهة عربية إيرانية عتيقة يجري تجديدها لتأخذ صورة جديدة، لا يستثنى فيها إحداث شروخ إضافية في الساحة العربية نفسها.

لم يشهد تاريخ الرؤساء الأميركيين مثل تاريخ بوش الابن إشعالا للحروب المدمرة، وتجاوزا لكل الاعتبارات الإنسانية والقانونية الدولية التي أصبحت عناوينها مثل غوانتانامو وأبو غريب وغيرهما أمثلة نموذجية للبشرية، على المستوى الذي يمكن أن تنحط إليه السياسات العسكرية إذا فقدت ضوابطها. لهذا لم يكن طرح دعوته إلى "مؤتمر سلام" يختلف من حيث درجة الغموض والتمييع والضبابية، عما كان يوم طرح ما سمي "رؤية" أميركية لدولة فلسطينية، فكان التعلق بأهداب صاحبها من قبيل التعلق الصبياني بأحلام وأوهام لا تنتهي إلا بالكوابيس والكوارث.

إن تسمية المؤتمر المراد عقده "مؤتمر سلام" تسمية مجازية بحد ذاتها، لاسيما عند صدورها عن جورج بوش الابن، وقد كان ولا يزال رجل حرب وليس رجل سلام، بل يمكن أن يمضي في حروبه الوقائية والاستباقية كما أسماها إلى درجة المقامرة العسكرية، ولا يمكن أن يتحرك على طريق سلام على سبيل المغامرة أو المقامرة أو التخطيط على السواء.

وليس غريبا أن يقترن عقد المؤتمر وما يعنيه في 17 شهرا باقية من وجوده في السلطة، بأكبر صفقات سلاح عرفتها المنطقة، وهي في سائر الأحوال وعود، يمكن أن يشهد تنفيذها خلال عشرة أعوام قادمة العديد من "التعديلات" على حسب ما يمكن من استخدامها لصناعة وجه جديد لمحاور المواجهة، مقابل وعود أكبر للإسرائيليين، لم يُعرف مرة واحدة أنها لم تنفذ وزيادة.


معادلة "التطبيع أولا"
تأتي الخطوات التالية للدعوة إلى المؤتمر لتثبت معالم "الرؤية السياسية" للمنطقة بأكملها، وما يراد لها من مواجهة عربية إيرانية، فعلية أو من حيث الانشغال فيها باستعدادات تشل مفاصل أطراف المنطقة سياسيا عن الحركة خارج نطاقها، ولكنها لا تثبت شيئا لتوضح ما كان وبقي غامضا فيما يراد صنعه في "مؤتمر سلام" لا يتجاوز حدود الدردشة دون جدوى.

لذلك كان أهم تصريحات بوش ومن أرسلهم إلى المنطقة ما يؤكد الرغبة في جمع أكبر عدد ممكن ممن وصفهم بالدول المعتدلة في المؤتمر، من المغرب إلى الخليج، وأن القصد هو إضعاف الجبهة المتمثلة في إيران وسوريا والمقاومة.

بينما كان أهم تصريحات الشريك الإسرائيلي متمثلا في التأكيد على أن المطلوب هو في حدود إطار "اتفاق مبادئ"، وأن الوقت "مبكر" للحديث عما يسمى المشكلات الأساسية، أي الحدود والقدس وحق العودة. والحصيلة هي التي تحدد عنوان المؤتمر بما بات يطرح عبر معادلة "التطبيع أولا".

"
لا ينبغي تصوير الأمر وكأن مستقبل القضية المصيرية متعلق بهذا المؤتمر أو متعلق بإرادة الدولة الداعية إليه، فليس من مخرج لقضية فلسطين على الإطلاق سوى مخرج الاعتماد على الإمكانات والتصورات الذاتية، عندما يخرج صانع القرار الفلسطيني والعربي من قفص الهيمنة الأميركية
"

إنما لا ينبغي عند الحديث عن ذلك "المؤتمر" تصوير الأمر وكأن مستقبل القضية المصيرية متعلق به، أو متعلق بإرادة الدولة الداعية إليه، فإن كانت جادة تجد القضية حلا مرضيا، وإن كانت هازلة بقيت المأساة مستمرة، فليس من مخرج لقضية فلسطين على الإطلاق، سوى مخرج الاعتماد على الإمكانات والتصورات الذاتية، عندما يخرج صانع القرار الفلسطيني والعربي من قفص الهيمنة الأميركية، ويستقل بإرادته السياسية عن "الرؤى" الأجنبية على اختلافها، ليصل إلى مستوى القدرة على أن يكون ممن يصنعون الواقع، ولا يبقى في حدود ردود الفعل على ما يصنعه سواه في واقعه هو، وبالتالي في واقع البلاد والشعوب والقضايا التي يحكم أمرها بقرار لا يملك صنعه كما ينبغي.

إن "المؤتمر" سواء انعقد أم لم ينعقد، وكان حافلا بالإملاءات أو بالمواجهات، لا يمكن أن يخدم القضية المصيرية، ما دامت النظرة إليه محصورة في نطاق الوهم القائل إن مجرد الدعوة إليه تعني "اهتماما أميركيا بقضية فلسطين كان غائبا من قبل".

فما كان هذا الاهتمام غائبا قط، وما أسفر عند تغييبه شكلا أو استعراضه عمليا، إلا عن الكوارث على حساب شعب فلسطين وشعوب المنطقة، وأصحاب السلطة في فلسطين وسائر المنطقة، سيان كان على رأس الآلة العسكرية الإسرائيلية ومن ورائها الأميركية، رابين أو باراك أو شارون أو كلينتون، أم شارون وأولمرت وبوش، فالحصيلة واحدة، كوارث عسكرية وإنسانية، وليس مؤتمرات واتفاقات على سلام وأمن!.


"تجريب المجرب" سياسة عقيمة
إن السياسة الأميركية لا تأتي بجديد وهي تستثمر عشرات المليارات تسليحا، ولا تستثمر عشر معشارها في أي ميدان من ميادين الإصلاح إقليميا، فبناء محور ضد آخر، يكون الطرف المستهدف منه هذه المرة جامعا لإيران وسوريا والمقاومة الشعبية، لا يختلف عن السياسات التي مارسها الأميركيون في فترة ما سمي العصر الذهبي للقومية العربية، وكانت "إيران الشاه" آنذاك من بين وسائل استهداف مصر وسوريا ومن معهما في تلك الفترة.

وهذا ما يدفع الخبراء في الشؤون السياسية الدولية مثل مدير مؤسسة العلوم والسياسة في ألمانيا فولكر بيرث الذي عارض علنا السياسة الأميركية الجديدة، إلى حد القول إن التحرك الأميركي الجديد يعني عودة بوش إلى السياسة التقليدية القديمة للولايات المتحدة الأميركية.

ولا يمكن لتسليح أي بلد عربي من أجل خوض معركة أميركية إقليمية بعيدا عن جبهة القضية المصيرية وفق الإعلان الأميركي الواضح الصريح عنها، أن تختلف نتائجه مستقبلا، من حيث الأصل وإن اختلفت من حيث التنفيذ والشكل، عن نتائج تسليح العراق في حربه لمدة ثمانية أعوام ضد إيران إبان ثورتها التي أسقطت الشاه، وقامت بممارسات كان منها المرفوض ومنها المقبول، إذ المهم بالنسبة إلى السياسات الأميركية، أن إيران أصبحت تتحرك آنذاك خارج فلك الإرادة الأميركية، وتضاعف الخطر على ركيزتها الإسرائيلية.

بوش الابن يتحرك في آخر أيامه على أرضية جديدة في المنطقة وتاريخها، تختلف جذريا عن الأرضية التي تحرك عليها هو وأسلافه من قبل، فمصير المنطقة لم يعد قابلا للعجن وإعادة التشكيل عن طريق صفقات سلاح ومؤتمرات تستبيح البقية الباقية من شعارات سابقة مثل "الأرض مقابل السلام"، لتطرح بدائل أسوأ منها مثل "التطبيع أولا"، كي تدفع إلى خطوة أخرى على منحدر قديم من التنازلات.

كما أن سياسات المحاور وإن أعطيت أشكالا جديدة، لا يمكن أن تسفر –بالموازين الأميركية- عن أفضل مما أسفرت عنه سياسات المحاور من أيام حلف بغداد، العاصمة الحضارية التاريخية التي حولتها آلة الحرب العسكرية الأميركية إلى ساحة اقتتال وسط ساحة القتل والاقتتال العراقية الكبرى.

ولا يمكن الفصل بين التحرك الأميركي الجديد وما تعنيه التطورات الأخيرة في المنطقة، فقد أتى متزامنا مع مرور عام واحد على أشد هزيمة عسكرية لحقت بالقوات العسكرية في عدوان على بلد عربي مجاور، كما أتى لاهثا وراء نتائج أكبر هزيمة سياسية لحقت في غزة بالتصورات الصهيوأميركية حول مسار تصفية قضية فلسطين رغم البطش العسكري لتنفيذها على مدار سنوات عديدة ماضية، وهو بذلك تحرك من قبيل الهروب إلى الأمام، على أرضية لا يوجد المزيد من "الأمام" فيها.


"
اعتماد المقاومة على الاحتضان الشعبي مكنها من البقاء رغم القوة الباطشة التي تعرضت لها، كما أن اعتماد الحكومات على الاحتضان الشعبي يمكنها من استعادة استقلال إرادتها السياسية ومن إعادة عجن المنطقة وتشكيلها بما يحقق المصلحة العليا
"

المستقبل لمشروع المقاومة
إن الجيوش مهما بلغ تجهيزها بالسلاح والدعم يمكن أن تكسب أو تخسر جولات عسكرية، ذاك ما أسفر عنه تاريخ المنطقة العربية (ومن ورائها الإسلامية عموما) على امتداد الفترة التي مضت منذ بداية عجن المنطقة وإعادة تشكيلها وفق خرائط سايكس بيكو.

أما المقاومة المشروعة المحتضنة شعبيا، فلا يمكن إلا أن تكسب، آجلا أو عاجلا، منذ إخراج قوات الاستعمار التقليدي من معظم البلدان العربية، إلى ما يمكن وصفه بحقبة ولادة المقاومة مجددا في فلسطين ولبنان والعراق، وفيها ما يكفي للتأكيد على أن خرائط بوش الأب في مدريد والابن في مؤتمر قادم، وإن أعادت عجن المنطقة وتشكيلها، فالمستقبل سيرتبط بما تصنعه المقاومة الشعبية أولا وأخيرا، آجلا أو عاجلا.

إن من طبيعة السياسة العدوانية الصهيوأميركية ألا تسلم بما تتفق عليه أقوال الدراسات والبحوث من داخل المنطقة وخارجها، من أن المشروع الصهيوني وقد أصبح مشروعا صهيوأميركيا، وصل إلى أقصى مداه في حرب 1967م، ولم يعد يسجل منذ ذلك الحين إلا النكسات والهزائم صغيرة وكبيرة، رغم تصعيد عسكرة هجمة الهيمنة إقليميا وعالميا.

إنما لا ينبغي للحكومات المحلية أن تمضي -طمعا في البقاء أو خوفا من الزوال- على طريق تكرر ما صنعه أسلافها، حذو النعل بالنعل، دون أن يمنع التسليح الرهيب شاه إيران من السقوط رغم الدعم الأميركي، ولا أن يضمن التسليح الرهيب لصدام في العراق النجاة من غدر أميركا، ودون أن يضمن دعم المحاور القديمة بأقصى درجات الدعم خلال الحرب الباردة أيا منها ليتمكن من البقاء أكثر من سنوات معدودة.

إن المرحلة الراهنة لا تطرح تاريخيا مخرجا من الأزمات والكوارث عن طريق تكرار ما أوصل إلى الأزمات والكوارث، إنما تطرح السؤال عن بديل عنها، فمهما بلغت أسباب التناقض إلى درجة العداء بين دول إقليمية، فإنها لا تبلغ موضوعيا معشار ما هو قائم منذ عشرات السنين مع العدو الإسرائيلي المدعوم أميركيا.

وبالتالي لا يمكن أن تكون قابلية التفاهم مع ذلك العدو موجودة، وقابلية التفاهم بين القوى الإقليمية لتتحول إلى التكتل بدل العداء مستحيلة.

وإن اعتماد المقاومة بفصائل محدودة القدرات عددا وعدة، على الاحتضان الشعبي في بقع جغرافية صغيرة، مكنها من البقاء والنماء رغم القوة الباطشة التي تعرضت وتتعرض لها، كما أن إقدام الحكومات المحلية، بعد أن بلغت ارتباطاتها بالقوى الدولية مداها، على اعتماد أرضية الاحتضان الشعبي وعلى السعي إليها، في بقعة جغرافية كبيرة ممتدة بين مياه المحيطات، يمكن أن يجعلها قادرة على استعادة استقلال إرادتها السياسية والأمنية والاقتصادية، وأن تتمكن هي من إعادة عجن المنطقة وتشكيلها بما يحقق المصلحة العليا المشتركة والمصالح الذاتية لسائر الأطراف الإقليمية في إطارها، وأن تصبح لها مكانتها المفقودة على خارطة العالم المستقبلية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.