الديمقراطية العصية والمسؤولية الوطنية

الديمقراطية العصية والمسؤولية الوطنية



سليم بن حميدان

– الحقائق المرة
– تحرر ذاتي أم مهدي منتظر؟
– من الدمار إلى السلام

عسيرة جدا لكنها ممتعة رحلة النضال ضد الظلم والاستبداد، جميل وعظيم حلم قيام مجتمع الحرية ودولة القانون العادل والمواطنة الكاملة.

مسيرة عقود من التجارب السياسية الثورية ومن الملاحقات والسجون والتعذيب والتشريد أفضت إلى بعض الحقائق التي يحلو للكثيرين وصفها بالواقعية، واقعية تعني عند بعضهم الاعتراف بالواقع والتعايش معه ولدى آخرين معرفته أملا في إصلاحه أو تغييره.


"
الخوف عندنا تحول من مجرد حالة مرضية إلى ثقافة توتاليتارية تغذيها حماقات الفاعلين، كل الفاعلين دون استثناء، ليصبح الشلل هو الأفق الوحيد لحركتنا الجماعية في عالم الرمال المتحركة
"

الحقائق المرة
أما أولى هذه الحقائق فهي استعصاء التحول نحو الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية لاعتبارات جيو إستراتيجية تضع منطقتنا في قلب معركة التدافع الحضاري للسيطرة على العالم وتقرير مصيره.

فالمسألة الديمقراطية تتجاوز إذن المسألة الوطنية، وقراءتها حصرا ضمن الإطار الوطني تنتج في أفضل الأحوال وعيا ثوريا إراديا يعيش إما على أمجاد الماضي التليد أو على أحلام المستقبل السعيد فلا يكون كسبه من نضاله سوى التعاطف المحدود أو العدو اللدود.

الحقيقة الثانية هي استحالة تحويل مجرد الالتقاء السياسي بين أطراف المعارضة قاربا للخلاص الوطني لاعتبارات سوسيولوجية وأنثروبولوجية تجعل من التمايز والاختلاف غاية للخلق وقدرا لم تستطع الدولة القومية الحديثة نفسها كإبداع إنساني أرقى في التنظيم الاجتماعي إلغاءه نهائيا رغم قدرتها الخارقة على تسكينه وصهره في بوتقة المصلحة العامة عبر احتكار العنف.

لقد ترسب في مخيالنا السياسي أن الدولة القطرية هي سبب مآسينا القومية جميعا، فهي دولة الاستبداد والتجزئة والتبعية والعمالة، لذلك أصبح الاعتقاد في مقاومتها وتحطيمها وبناء دولة الأمة أو الشعب على أنقاضها في مرتبة الواجب القومي والفريضة الدينية.

وغاب عنا تماما أنها أضحت، طوعا أوكرها، البوتقة التي تصنع فيها كينونتنا وأنه لا وجود لنا ولا هوية خارجها، رغم أنف التاريخ، ورغم أنها التنين المرعب الذي لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه فلا سبيل لخلاصنا بغير ترويضه وتأنيسه.

ليس التوحد السياسي إذن ممكنا ولا مثمرا إذا كان تحريمه أو تجريمه مشروعا من المشاريع الإستراتيجية للدولة وللنظام الدولي من فوقها، ما يفاقم الأزمة عندنا حيث تتناقض الدولة مع علة وجودها الحضاري، في التعالي على ظاهرة الانقسام الاجتماعي الطبيعي، بتحولها هي الأخرى إلى فريق من فرقاء الصراع.

هذا ناهيك عن اختلافنا النظري والظاهري في كل شيء: في العلاقة مع الغرب وفي النظام السياسي للدولة ومصادر التشريع والحريات والهوية والمرأة والحجاب والعمامة وربما في الختان وطقوس دفن الأموات.

الالتقاء الوحيد الذي يمكن أن يثمر إجماعا حقيقيا تفيد منه المجموعة الوطنية هو ذلك الذي ينعقد مع الدولة لا ضدها أو رغما عنها لأنها تملك من أدوات الفتك والتدمير ما لا تستطيع أي قوة داخلية صده.

وهذا الأمر يفسر لنا بوضوح سقوط كل "التحالفات السياسية" و"الجبهات الوطنية" و""الهيئات الوحدوية"" و""البيانات التاريخية"" لتصبح جميعها ولو بعد حين من أساطير الأولين وقصص الغابرين.

عبثا إذن أن نحاول إيهام أنفسنا أو شعوبنا بقدرتنا السحرية على التوحد وصياغة الإجماع خارج مشروع بناء الدولة أو ضده، وهذا الأمر يفسر انتكاساتنا وضياع نضالنا وفشلنا الذريع في بناء وحدة وطنية ثابتة ومتماسكة.

أما الحقيقة الثالثة فهي استحالة الانتقال بوجودنا، مجتمعا ودولة، من وضع التبعية والتوحش إلى حال الاستقلال والحضارة دون تجاوز مرحلة الخوف، وهذا هو مكمن الداء في أزمتنا الحضارية بجميع تجلياتها.

سرطان الخوف هذا ينخر كيان الدولة نظاما ومؤسسات، فهي دولة مذعورة من العالم الفوقي (قوى عظمى ومؤسسات دولية ولوبيات مالية)، ومن العالم التحتي (النقابات والأحزاب والطلاب وعلماء الدين)، فهي تحتمي تارة بسطوة القانون وأخرى بمرارة العصا من أجل إثبات فحولة مترهلة والإيهام بقوة جوفاء.

خوف الدولة من مجتمعها يرتكز على حقيقة التهديد الذي تشكله نزوعات الطعن في شرعية نظام الحكم والمطالبة بمقاومته، ناهيك عن التهديد بملاحقته قضائيا بجرائم الفساد والتعذيب وانتهاك الحقوق، وهو ما ترفضه طبيعيا غريزة حب البقاء وتتجه إلى استئصاله لتأمين وجودها حاضرا ومستقبلا.

أما خوف المجتمع فهو مزدوج، خوف من الدولة وخوف من ذاته، فلا يحتاج خوفه من الدولة إلى دليل أو تعليل لأنه يتجلى في كل مظاهر اللامبالاة والعزوف عن الشأن العام كما هي الحال في مظاهر الاحتجاج الباهت المتقطع أو التطرف الذي هو أشبه بالانتحار منه بالشجاعة والثورية.

أما خوفه من ذاته فتعبر عنه ظاهرة التشرذم واستحالة التقاء الفرقاء على الحدود الدنيا من المطالب السياسية وحتى الاجتماعية، ناهيك عن تحول التصامم والغيبة وانتهاك الأعراض والنبش في النوايا وعقلية الثأر من الآخر إلى ثوابت في التدافع السياسي ليصبح المغاير غريما بدل أن يكون حليفا.

لقد تحول الخوف عندنا من مجرد حالة مرضية إلى ثقافة توتاليتارية تغذيها حماقات الفاعلين، كل الفاعلين دون استثناء، ليصبح الشلل هو الأفق الوحيد لحركتنا الجماعية في عالم الرمال المتحركة.


"
على الدولة ونخبة الحكم المسيرة لها أن تتحرر من عقدة الخوف من أسياد الخارج والعمل على ترويضهم مستفيدة في ذلك من التجارب الآسيوية أو حتى من التجربتين الإيرانية والتركية
"

تحرر ذاتي أم مهدي منتظر؟
أعتقد أن نضالنا الوطني ينبغي أن يعدل بوصلته إن نحن أردنا الخروج من سرداب الغيبة الحضارية الكبرى، وأن نخرج إلى العالم فنملأه عدلا وعمرانا بعد أن امتلأ جورا وخرابا كما هي صورة المهدي المنتظر أو المسيح العائد في مخيالنا الجمعي.

ينبغي علينا أولا أن نتحرر جميعا من عقدة الخوف العدمي في مستوياته الثلاثة.

في مستوى الدولة بأن يتحول مشروع إعادة بناء الثقة إلى إستراتيجية رسمية ترصد لها الإمكانيات المادية والخبرات الوطنية من باحثين في مجالات الاجتماع والقانون والسياسة والتاريخ والفلسفة والتربية والفن دون احتكار أو توجيه.

ولن يكون هذا العمل الحضاري ممكنا دون أن تتحرر الدولة ونخبة الحكم المسيرة لها من عقدة الخوف من أسياد الخارج والعمل على ترويضهم مستفيدة في ذلك من التجارب الآسيوية أو حتى من التجربتين الإيرانية والتركية في التعامل مع المجتمع الدولي، بمعنى أن تكون لنا دبلوماسية حقيقية لا مجرد شخصيات دبلوماسية مهما كانت كفاءاتها.

في هذا الإطار ينبغي أن نذكر دائما أن الدبلوماسية هي سياسة وأن السياسة هي بالتعريف الوظيفي فن تحويل اللازم إلى ممكن وأنها إدارة للحرب بوسائل أخرى.

اللازم الذي ينبغي تحويله ممكنا وطنيا تتفاوض فيه الدولة من أجل رفع الفيتو الخارجي عنه هو الانفتاح السياسي الذي هو في الآن نفسه مصلحة وطنية وإقليمية ودولية دونها انسدادات خطيرة وبراكين إرهابية أضحى الجميع يدرك أن حممها تتطاير أرضا وسماء لتطال أكثر عواصم العالم أمنا وأبعدها مسافة.

ويستوجب هذا العمل جهدا كبيرا لدى نخبة الحكم ويفرض عليها، من موقع المسؤولية الأخلاقية والإنسانية، إعادة النظر في المعارضة لكي تكون شريكا لا غريما، وفي السلطة لتصبح تكليفا وطنيا ووظيفة حضارية بدل أن تبقى تشريفا وغنيمة تنتظر كل مرة فارسا جديدا.

أما في مستوى المعارضة فإن التحرر من عقدة الخوف تجاه الدولة يتمثل في تجاوز خطاب التخوين بالعمالة والنظر إلى نظام الحكم على أنه سلطة تابعة اضطرارا لا اختيارا، وأنه ينبغي مساعدة الدولة للخروج من مأزقها التاريخي الذي وضعها فيه الاستعمار الغربي وتسعى العولمة اليوم إلى إعادة إنتاجه وتسويقه في تعليب جديد.

ضمن هذه القراءة لا نرى حلا في القضاء على أنظمة الحكم القائمة والاستبدال بها أخرى لن تكون قطعا أكثر كفاءة في إدارة حياتنا، لأنه يجب علينا لأجل ذلك تغيير العالم.

بل الحل الصحيح هو البحث عن تسويات معقولة والعمل المشترك لطمأنة الدولة والمجتمع الدولي من فوقها إلى إمكانية تقاطع المصالح القومية والدولية، وإلى أن السلام الحقيقي والدائم هو السلام العادل الذي لا يوقعه ملك أسير.

لقد آن الأوان أن ندرك، وبغض النظر عن المسؤول الرئيسي والمباشر عن عملية الإقصاء والتهميش والحرمان من المشاركة في البناء الوطني والإسهام في الحياة العامة، أن خلق فضاءات موازية للدولة تحاول عبثا بناء الشرعية والتشريع خارج نسقها سيفضي بنا في أحسن الأحوال إلى إنتاج أشكال جديدة من الطائفية السياسية، تصبح فيها الطوائف دويلات مستقلة بزعمائها ومؤسساتها وتشريعاتها متجاهلة لسلطة الدولة المركزية وقانونها بل ومتعالية عليها.


"
للمثقفين دور مركزي وواجب أخلاقي في تحرير الدولة والمجتمع من حالة الخوف وتعميم ثقافة المسؤولية التي تريد اجتثاثه وإحلال الثقة محله بدل تحويله إلى المعسكر الآخر ثأرا وانتقاما
"

من الدمار إلى السلام
لن يكتب النجاح لهذه الإستراتيجية ما لم تتخلص معارضاتنا العربية نهائيا من أسلحة الدمار الشامل التي تملكها حقيقة وأثبتت التجارب أنها لا تجيد استعمالها بل إنها كثيرا ما تقع ضحية لنيران صديقة.

فأسلحة التخوين والتجريح والقدح في الأشخاص والذم والتكبر والعجب وفرض الذات على الآخرين وتسفيه أقوالهم وأطروحاتهم أضحت صدئة نخرة لفرط استعمالها وتخزينها.

ينبغي علينا إذن كمثقفين معارضين للاستبداد تجديد أسطول أسلحتنا، فنطور مخزوننا الديني والتاريخي الأقوى في العالم والمتمثل في قيم الاحترام والأخوة والتجاوز والرفق والتراحم والتواضع والكلمة الطيبة والدفع بالتي هي أحسن دون نفاق زائف أو تملق دنيء ينسينا الصدع بالحق أو يزين الباطل نورا وهداية.

أما على المستوى الفردي فالخطاب موجه هنا إلى شريحة المثقفين والسياسيين لتجاوز السلبية وتجذير ثقافة النقد الذاتي على الصعيدين الشخصي (المحاسبة) والجماعي (مراجعة الخيارات)، إذ العقل، على قول الفيلسوف ديكارت، هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، والأمر بالقراءة كنص سماوي مؤسس هو خطاب موجه للمكلفين بالاقتضاء وجوبا عينيا على قول الأصوليين.

إن للمثقفين دورا مركزيا وواجبا أخلاقيا في تحرير الدولة والمجتمع من حالة الخوف وتعميم ثقافة المسؤولية التي تريد اجتثاثه وإحلال الثقة محله بدل تحويله إلى المعسكر الآخر ثأرا وانتقاما.

وإذا جاز لنا أن نشبه الحرية بالعروس التي نخطب جميعا ودها فإن الطريق إلى مملكتها شاق طويل وكما يقول المثل الصيني الذائع، مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.

أولى خطوات هذه المسيرة هي ردم الهوة وإعادة ترميم الجسور بين الدولة والمجتمع وبين مكونات هذا الأخير بعد أن أعملت فينا خطوب الدهر وحماقاتنا (دعاوى التكفير والتحريض والتشدد الديني والعلماني) فتكا وتدميرا وتركتنا ألعوبة يتقاذفها الكبار.

بناء الثقة هو مفتاح الباب الحديدي الأول في جدار الوطن ثم نفتش بعدها عن بقية المفاتيح.

لسنا نطمح في هذا المقال إلا لزرع بذرة خير وصدق ليصبح النضال من أجل السلام الأهلي الدائم والشامل مشروعا وطنيا ينبذ القطيعة والمواجهة كما يرفض التملق والاستسلام.

وإلى من اعتبر رأينا وهما، فردنا أن وهما يُحيي خير من حقيقة تُميت.
__________________
كاتب تونسي

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.