شبهات متهافتة للنيل من مشروع الخلافة

شبهات متهافتة للنيل من مشروع الخلافة



في ظل حالة عدم التوازن التي تحياها أمتنا تشكلت شرائح سياسية وفكرية وثقافية تتباين وتختلف فيما بينها، إلا أنها تتقاطع معا في مخاصمة مشروع الأمة الحضاري والسياسي والتاريخي المتمثل في دولة الخلافة، تلك التي تشكل نظام حكم يصوغ حياة الفرد وعلاقات المجتمع وأجهزة الدولة حسب معايير ومقاييس ورؤى حددها الإسلام.

"
تطبيق غير الإسلام على شعوب غالبيتها الساحقة من المسلمين يعني طبقا لمنطق منع تطبيق الخلافة في بلد فيه أقليات غير مسلمة، إكراه المسلمين على التزام غير دينهم مما يؤدي إلى القلاقل والاضطراب وعدم الاستقرار
"

وقد استنكرت تلك الشرائح فكرة إحياء الخلافة من جديد كما استهزأت بالعاملين لإقامتها على اعتبار أنها فكرة تمت إلى ماض طواه الزمن، أو أنها تمثل رمز الفردية والاستبداد، أو لأنها في أحسن الأحوال مجرد حلم لا يمت للواقع بصلة في زمن الديمقراطية والعولمة والثورة الرقمية الهائلة والهيمنة الغربية على الأمة ومقدراتها.

رغم تلك الهجمة نجد مشروع الخلافة بمفارقة نادرة، يفرض نفسه وسط زحام المشاريع الترقيعية والواقعية والتغريبية التي تفرض على الأمة علمنة صريحة أو مبطنة وحلولا تستبدل هوية الأمة بغيرها تحت عناوين براقة كالتحديث والتجديد والدمقرطة والمواطنة ومجاراة العصر.

ومن أكثر الأمور إثارة للطعن في الخلافة هي تلك الرواية التاريخية المجترة الشوهاء التي تطبع في الذهن صورة مقززة عنها، جاعلة منها مصدر الشرور، كالاستئثار بالسلطة واقتتال الأقرباء عليها والبطش بالعلماء والنزاعات الدموية والمؤامرات التي لم ينج منها الخلفاء أنفسهم.

ورغم الحاجة إلى التدقيق في كثير من تلك الروايات التاريخية وسياقاتها، فإن أخطر ما في هذه المقدمة هو أنها تفترض ضمنيا أن وقوع مثل تلك المآسي هو نتيجة لوجود نظام الخلافة، وهي مغالطة واضحة تماما، إذ إن تلك التصرفات هي مما يتعارض مع قطعيات الإسلام التي تجعل الشريعة فوق الحاكم أو الخليفة.

وهي تحظر بشكل جازم أي اعتداء أو إيذاء مادي أو معنوي لأي من أبناء الأمة أو رعاياها مسلما كان أو غير مسلم، وتجعل السلطان للأمة التي تجعل الخليفة نائبا عنها في رعاية شؤونها حسب أحاكم إسلام يوجب بدوره نصح الخليفة وتقويمه، بل عزله وخلعه إذا اقتضى الأمر.

والنصوص القرآنية والنبوية في هذا الصدد مستفيضة ومعلومة لدى القاصي والداني وغنية عن السرد.

وهذا لا يعني التغاضي عن الأخطاء، بل ينبغي معالجتها من خلال وضع آليات تضمن سير الخلافة حسب أحكام الإسلام دون إلغائها.

ولو كانت طريقة معالجة كل خطأ يرد تتمثل في إلغاء نظام الحكم المطبق لما استتب الأمر لأي نظام في أي وقت من الأوقات مطلقا، ولانتقل الناس من فوضى إلى أخرى.

والغريب هو أن مروجي تلك الدعاية التاريخية من "باحثين" و"مفكرين" يقتصرون في تطبيق استنتاجاتهم تلك على نظام الخلافة دون غيره من أنظمة الحكم، فهم لا يرجعون مثلا فساد الحاكم أو أعوانه أو الأجهزة المرتبطة به للنظام الديمقراطي القائم في الغرب عند وقوعه، مما يعني أنهم مغرضون في بحثهم، جل همهم الطعن في الخلافة كيفما اتفق.

وفي هذا مجافاة للحقيقة والموضوعية، إذ إنه ينبغي أن يفرق بين الخلل الناتج عن الأشخاص والخلل الناتج عن الأنظمة المطبقة، بمعنى أن الخلل الصادر عن الأشخاص وارد في كل الأنظمة، وهذا راجع لطبيعة تركيبة الإنسان بغض النظر عن صلاحية النظام المطبق أو فساده. والمطلوب في هذا السياق محاكمة الأنظمة لا الأشخاص.

على سبيل المثال لا بد -عند مناقشة صلاحية النظام الاشتراكي أو فساده- من دراسة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تقدمه الاشتراكية وتقديم قراءة نقدية لها ولانعكاساتها على الفرد والمجتمع والدولة لا سرد فضائح غورباتشوف وخروتشوف وستالين ولينين.

ومن الشبهات المتهافتة التي تلقى في وجه إقامة دولة الخلافة في العالم الإسلامي وجود أقليات غير مسلمة، وعليه فإن تطبيقه سيكون إرغاما لها على قبول وضع كارهة له، مما يؤجج الصراع بين أهل البلد الواحد ويزيد احتمال وقوع الفوضى والتمرد وبالتالي التشرذم والتفكك.

ولذلك يقترح هؤلاء إقصاء الدين عن الحياة واتخاذ الخيار الذي سلكته أوروبا من قبل، أي تطبيق النموذج العلماني في الحكم للخروج من هذا المأزق المفترض.

"
منذ أن تضعضعت الخلافة ثم زالت ذهب جل كفاح المسلمين فضلا عن ثرواتهم أدراج الرياح في سياق مشاريع الدول الكبرى التي كانت تضع للمسلمين بوصلة التحرك وتقطف هي وليس المسلمون ثمار ذلك الكفاح
"

وفي الواقع فإن هذا الافتراض ينقض نفسه، حيث إن تطبيق غير الإسلام على شعوب غالبيتها الساحقة من المسلمين يعني طبقا لنفس المنطق إكراه المسلمين على التزام غير دينهم مما يؤدي إلى القلاقل والاضطراب وعدم الاستقرار، خاصة إذا ما علمنا أن وجوب تطبيق الإسلام في المجتمع والدولة هو من الأحكام الإسلامية القطعية، والإخلال به موجب للثورة والخروج على الحاكم وإقصائه، بينما هو ليس كذلك عند غير المسلمين إذ لا توجد عندهم شرائع دينية تفصل شؤون المجتمع والدولة.

وهذا يعني أن إقصاء الإسلام عن الحياة ليس حلا وسطا بين فريقين يتنازع كل منهما تطبيق دينه! أضف إلى ذلك أن تطبيق الإسلام نفسه يراعي تطبيق غير المسلمين لشؤون دينهم في حياتهم الخاصة، مما يدرأ شبهة إكراه غير المسلمين على الانقياد لغير دينهم، كما أنه مدرك أيضا أنه لا دولة في العالم إلا وتحكمها قوانين وأنظمة خاصة بها ملزمة لكل من ارتضى العيش فيها.

بل إن أكثر تلك الدول وعلى عكس ما عليه الحال في دولة الخلافة، تعتبر أن حق المواطن في الإقامة فيها مشروط باعتناق قيمها والاندماج في مجتمعاتها وإلا فعليه أن يرحل.

يضاف إلى ذلك أن دولة الخلافة تحافظ على حقوق كل فئة دينية بتطبيق شعائرها فيما بينها ضمن قوانين تتسم بالوضوح والاستمرار، مما يمنح الشعور بالأمان والاستقرار لغير المسلمين، على عكس ما هو قائم في الدول الغربية التي لا تفتأ تبتدع قوانين تضيق على الأقليات وخاصة المسلمين معيشتهم وتجعل مستقبلهم مبهما يتأرجح على كف عفريت.

وقد عاشت الأقليات في ظل دولة الخلافة أكثر من ألف سنة ولا تزال، معتبرة أن بلاد الإسلام أوطان أصيلة لها، لما تجده فيها من انسجام مع محيطها المسلم ومن الحماية والأمان والاستقرار الذي تضمنه الدولة لها.

ومن الاعتراضات المتهافتة كذلك دعوى أن وجود الخلافة لا يقتضي بالضرورة وضعا أمثل لحال الأمة الآن، فقد اجتاح التتار والصليبيون بلاد المسلمين والخلافة قائمة والخليفة عاجز والمسلمون يذبحون، وقد حظي المسلمون بمقاومات باسلة كما في العراق وفلسطين حاليا ولا خلافة ولا خليفة.

ولذلك فإنه لا يعول كبير أهمية عليها ولا ينبغي ربط نهضة المسلمين بضرورة إقامة الخلافة، بل إن التركيز على الخلافة وإيلاءها أهمية كبرى نوع من العبث والسطحية، كما يفترض هؤلاء.

ويقلب هذا الاعتراض الحقائق رأسا على عقب، ذلك أن دولة الخلافة هي التي حققت للأمة تاريخيا الوحدة والمجد والظفر على خصومها من العرب والعجم، وهي التي قهرت إمبراطوريتي فارس والروم، لتتحول دولة الخلافة إلى الدولة الأولى في العالم بلا منازع قرونا طويلة من الزمن.

بل إن ما أصاب الأمة من وهن وسقم وتمزق كان جراء الثغرات التي لحقت بنظام الخلافة أولا ثم انهيارها التام ثانيا.

أضف إلى ذلك أن ربط الأمور بما لا يلزم منها خطأ منهجي، فمثلا لا تعني هزيمة المسلمين في معركة حنين تحت قيادة نبيهم صلى الله عليه وسلم بطلان الإسلام، إذ لا علاقة بين الأمرين، كما لا يعني وصول بعض العلمانيين في العالم العربي كالبعثيين وغيرهم إلى السلطة صحة منهجهم.

أما هزائم المسلمين أمام المغول والصليبيين فقد أعقبتها انتصارات مشهودة عليهم في زمن الخلافة نفسها.

وأما الزعم بأن الأمة حققت من غير خلافة ممانعة للمشاريع الكبرى لم تحققها زمن الخلافة فإنها مغالطة فادحة، ناهيك عن أن الحقيقة التي تتحدث عن نفسها بأنه منذ أن تضعضعت الخلافة ومن ثم زالت فقد ذهب جل كفاح المسلمين فضلا عن ثرواتهم أدراج الرياح في سياق مشاريع الدول الكبرى التي كانت تضع للمسلمين بوصلة التحرك وتقطف هي لا المسلمون ثمار ذلك الكفاح، والأمثلة على ذلك كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.

والدقة تقتضي القول في هذا الصدد إن هذه الأمة رغم تمزقها وغياب خلافتها الجامعة تقاوم وتخفق بالحياة، فما بالك إذا ما أعيدت الخلافة التي تلم شعثها وتستجمع قواها وتستثمر ثرواتها في صالح قضاياها.

"
هذه الأمة رغم تمزقها وغياب خلافتها الجامعة تقاوم وتخفق بالحياة، فما بالك إذا ما أعيدت الخلافة التي تلم شعثها وتستجمع قواها وتستثمر ثرواتها في صالح قضاياها
"

ومن الأمور المنكرة حقا أن يقود مثل تلك الحملة على نظام الخلافة مفكرون وكتاب وباحثون "إسلاميون"! مع أن انتحالهم تلك الصفة يوجب عليهم التفكير في كيفية إقامة الخلافة لا الهجوم عليها والنيل منها وتثبيط همم العاملين لإقامتها، لأن إقامة نظام الخلافة فريضة شرعية وردت فيها النصوص وانعقد عليها إجماع الأمة كما نقله الإمام القرطبي منبها إلى "أنه لم يخالف في ذلك سوى الأصم الذي هو عن الشريعة أصم".

ومن المفارقات أن ينسجم هؤلاء "المفكرون" بحملتهم تلك مع الحملة التي يقودها أرباب النظام السياسي القائم في الغرب للحيلولة دون إحياء دولة الخلافة إذ اعتبر رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير "أن تحكيم الشريعة في العالم العربي، وإقامة خلافة واحدة في بلاد المسلمين.. وإزالة نفوذ الغرب منها أمر غير مسموح به ولا يمكن احتماله البتة".

كما أعلن وزير الداخلية في حكومته تشارلز كلارك أيضا "أن مسألة إعادة الخلافة وتطبيق الشريعة الإسلامية أمران مرفوضان لا يقبلان النقاش ولا المساومة".

وهذا ما ذهب إليه الجنرال الأميركي مايرز ووزير الدفاع الأميركي رمسفيلد وكذلك الرئيس الأميركي جورج بوش في عدة مناسبات، منبهين حسب قول الأخير إلى: "أن إستراتيجية أوسع لناشطين إسلاميين تهدف إلى إنهاء التأثير الأميركي في الشرق الأوسط، واستغلال الفراغ الناجم عن ذلك، في الإطاحة بأنظمة الحكم في المنطقة" مضيفا "أن المخطط الأكبر هو إقامة إمبراطورية إسلامية متطرفة من إسبانيا وحتى إندونيسيا".

ولم يفت الرئيس الروسي بوتين كذلك التحذير من "أنه يوجد من يعمل على إسقاط الأنظمة العلمانية بغية إقامة دولة إسلامية في آسيا الوسطى".

وخلاصة القول أن الموضوعية والتجرد في البحث يقتضيان عند تناول موضوع الخلافة مناقشة شكل نظام الحكم وقواعده والتفاصيل التي تحكمه وتداعيات تجسيده في المجتمع والدولة بديلا لأنظمة الحكم الأخرى من قبلية وديمقراطية واشتراكية وغيرها.

أي هل يتسبب ذلك النظام في الفوضى والتخلف والجمود والاضطراب وكبت المجتمع كما كان حال نظام الملك المستند إلى الكنيسة في القرون الوسطى في أوروبا مثلا، أم أنه يفكك المجتمع ويدمر العلاقات الإنسانية فيه ويحوله إلى مجرد سوق نخاسة يعتبر فيها الإنسان مجرد سلعة يقتنيها من يملك ثمنها كما هو حال النظام الديمقراطي الرأسمالي؟

أم أنه ينزع الإنسان من إنسانيته ويحوله إلى آلة خرقاء كما كان عهد الأنظمة الاشتراكية البائدة! أم أنه يفتح الآفاق أمام الأمة ويحولها من قبائل أمية مبعثرة ومتقاتلة إلى أمة موحدة ذات حضارة سامية تنتج مجتمعا مترابطا ومتكافلا ومستقرا كما فعل الإسلام مع العرب ومع غيرهم ممن اعتنقوه وطبقوه وحملوه إلى البشرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.