كوسوفو وأرضية الشرعية الدولية

كوسوفا وأرضية الشرعية الدولية


 لسان التاريخ
باسم السياسة الواقعية
ابتذال الشرعية الدولية

بادئ ذي بدء التنويه بأنّ كوسوفا هي اللفظة اليابانية لِما يعرف في كتب التاريخ العربية باسم قوصوه، وما يُنقل حاليا عن طريقة اللفظ الصربية والغربية باسم كوسوفو. وغلبةُ استخدام كوسوفو في الكتابات العربية الحديثة، رمز للتعامل مع القضية نفسها بمنظور غربي.

والسؤال المطروح حول استقلال كوسوفا دوليا في الوقت الحاضر مثال نموذجي على تعامل يمتهن الشرعية الدولية، وكيف ينتشر ذلك في بلادنا وبأقلامنا، وكأنه أمر بدهي مفروغ منه، وما هو بذلك.

لسان التاريخ
ليست قضية كوسوفا مطروحة على أسس قويمة من منطلق تاريخي أو شرعية دولية، بل هي ساحة من ساحات الصراع والتنافس والمساومات الدولية، وقد صُنعت من حيث الأساس صنعا في النصف الأول من القرن الميلادي العشرين، بصورة موازية لِما صُنع في المنطقة العربية عبر محطات سايكس بيكو ووعد بلفور والوصاية والاحتلال الاستعماريين.

وكانت القوى الدولية قد بدأت صراعها آنذاك على نظام دولي "جديد" ولد لاحقا في رحم الحربين العالميتين، مثلما تصطرع الآن على معالم نظام دولي "جديد" قد يكتمل على شكل ما في قادم الأيام، وكوسوفا مادة من مواد الصراع العديدة أو ساحة من ساحاته فحسب.

على الصعيد التاريخي كان الألبان من أوائل الشعوب التي استوطنت في المنطقة المعروفة بالبلقان في الوقت الحاضر قادمين من منطقة حوض الفولجا إلى الشمال من القوقاز في آسيا، وكانوا أوّل من أنشأ "دولة" في البلقان باسم المملكة الألبانية، وقد تعرضت للغزو الروماني والإغريقي لاحقا، ولم يمكن إخضاعها تماما.

وانتشر الإسلام بين الألبان والبوشناق (أهل البوسنة) قبل ظهور الدولة العثمانية بحوالي مائتي عام، كما يؤخذ من روايات ابن بطوطة وجولاته في البلقان.

كما انتشرت النصرانية بين فريق حمل اسم "بوغوميل" وكان يرفض أطروحات "التثليث"، فتعرّض لاضطهاد الكنيستين الكاثوليكية والأورثوذوكسية معا، ولم يخضع لهما، حتى إذا انتشر العثمانيون في المنطقة، كان هؤلاء من أوائل من اعتنقوا الإسلام أيضا.

"
الألبان من أوائل الشعوب التي استوطنت في المنطقة المعروفة بالبلقان في الوقت الحاضر قادمين من منطقة حوض الفولجا إلى الشمال من القوقاز في آسيا، وكانوا أوّل من أنشأ "دولة" في البلقان باسم المملكة الألبانية
"

وتشمل ألبانيا بحدودها التاريخية ألبانيا بحدودها الرسمية الحالية إضافة إلى كوسوفا وسنجق وسازان وفلورا وجيروكاسترا وياراندا وبيرميتي وشكودرا وغيرها من المناطق التي أُخضعت في القرن الميلادي العشرين لدول أخرى، وهي إيطاليا واليونان ومقدونيا والنمسا وبلغاريا واليونان، علاوة على صربيا التي "أعطيت" كوسوفا وسنجق، بعد احتلالهما عسكريا عام 1918م.

ومع تحرّك القوى الأوروبية لإسقاط الدولة العثمانية واقتسام إرثها، أعطيت وعود الاستقلال لشعوب البلقان، فكانت ولادة دولة صربيا عام 1876م بدعم من القوى الدولية ضدّ الدولة العثمانية، بينما كان الإعلان عن ميلاد الدولة الألبانية بحدودها التاريخية مرة أخرى عام 1878م من جانب رابطة "البريسريين".

الجدير بالذكر أن وجود صربيا كدولة أو مملكة في التاريخ كان منذ استخدام تعبير "الصرب" في القرن التاسع الميلادي، مرتبطا بوجودهم تحت سيطرة إمبراطورية أوروبية، بدءا بشارلمان، مرورا بالبيزنطيين.

أما المعركة التي يكثر ذكرها مع العثمانيين على أرض "قوصوه/ كوسوفا" عام 1389م فكانت بين "ملوك النصارى والدولة العثمانية"، وليست معركة "الصرب" على وجه التحديد.

في عام 1878م مع إعلان ميلاد ألبانيا بحدودها التاريخية انعقد "مؤتمر برلين" وانطوى على انتزاع البوسنة والهرسك من الدولة العثمانية، بينما أُهمل شأن "ألبانيا"، فتجدّدث ثورة الألبان ضدّ "حلفاء الأمس "الأوروبيين، وسيطروا عام 1882م على كامل أراضيهم التاريخية، كما عاد العثمانيون إلى المناطق التي خرجوا منها في البلقان.

وعندما اندلعت حرب البلقان الأولى 1912م، صدر "إعلان فلورا" الأوروبي باستقلال ألبانيا لاستمالة الألبان، حتى إذا انتهت الحرب، تجدّد الغدر الأوروبي، فانعقد مؤتمر لندن عام 1913م، ولم يعترف بدولة ألبانيا إلاّ فيما لا يتجاوز نصف حدودها التاريخية، وهنا تحركت صربيا عسكريا وسيطرت على كوسوفا وسنجق عام 1918م، وتقاسمت الدول الأوروبية الأخرى المناطق الألبانية المذكورة آنفا.

وفي العام نفسه انعقد مؤتمر "سانت جيرمين" ليعترف بحدود صربيا وسيطرتها على كوسوفا وسنجق، بينما تم تثبيت تقسيم الأرض اليابانية مجددا في مؤتمر باريس عام 1919م، وفُرضت الوصاية الإيطالية على ألبانيا "الصغرى" المتبقية من التقسيم، ثمّ كان شرط الاعتراف باستقلالها وعضويتها في رابطة الأمم عام 1920م مرهونا بأن تعترف كارهة بحدودها "الجديدة" على نصف أراضيها التاريخية.

باسم السياسة الواقعية
قضية كوسوفا أوجدتها القوى الدولية تاريخيا، وهي التي تساوم في الوقت الحاضر على إيجاد مخرج من الوضع الراهن، بعد أن أثبت التاريخ على امتداد مائة عام على الأقل استحالةَ تحقيق هدف "التطبيع" فيما لا يمكن تطبيعه من علاقات بين الضحية من جهة وطرف يمارس الاحتلال والعدوان والقهر بأبشع صوره من جهة أخرى، وذلك عبر عدة أجيال متتالية، من عهود سيطرة الكنيسة الأورثوذوكسية فالشيوعية في صربيا إلى ما بعد تفكك الاتحاد اليوغسلافي نفسه مع سقوط الشيوعية في الشرق.

وشهدت المرحلة الأخيرة من المساومات الدولية على مصير كوسوفا سلسلة من التقلبات على حسب تقلبات مراحل الصراع على نظام دولي جديد قادم.

أثناء حرب البلقان في التسعينيات من القرن الميلادي العشرين، فرضت المذابح نفسها على الرأي العام الغربي، كما فرض تقدّم القوات البوسنية الناشئة نفسه على الأرض في مواجهة تحالف الصرب والكروات معا، فانعقد مؤتمر دايتون ليحسم مصير البوسنة والهرسك، وتعرّض لأوضاع البلقان بمجموعها، ما عدا كوسوفا، فاستثنيت بصورة مباشرة.

وعندما فرض تشريدُ مئات الألوف من ألبان كوسوفا نفسه على الساحة الغربية، وكان نتيجة العدوان الصربي الذي بدأ بإلغاء الحكم الذاتي عام 1989م، ووصل ذروة عنفوانه عام 1996م، تدخّل حلف الأطلسي، فلم يقمع بالقوة صربيا فقط، بل قضى على جيش تحرير كوسوفا أيضا.

"
في ظل احتمالات المقايضة بين روسيا والغرب حول العديد من القضايا, ليس من المستبعد أن يتم الاتفاق على صيغة ما، على حساب هذا الطرف أو ذاك، من الأطراف التي أصبحت مادة للمساومات الدولية ومنها كوسوفا
"

وفي فترة التوافق مع روسيا آنذاك، صدر عن قمة الثمانية في كولونيا عام 1998م موقف مشترك يؤكّد عدم استقلال كوسوفا عن صربيا، ووضعها تحت وصاية دولية.

ثمّ في المرحلة التالية، أي مع عودة العلاقات الروسية الغربية إلى مواجهة جزئية في عهد فلاديمير بوتين، عاد الحديث عن استقلال كوسوفا في الغرب، وصدر تقرير مارتي آتيساري في يوليو/تموز 2007م ليوصي بالاستقلال المشروط.

وبدأت المفاوضات الأخيرة جولة بعد جولة دون نتيجة، وأصبح الخلاف روسيا غربيا، غطاءً للنزاع الصربي الكوسوفاوي. ومع حلول 10/12/2007م موعد تقديم تقرير عن إخفاق المفاوضات إلى الأمم المتحدة مجددا، بات الاحتمال كبيرا أن يتم إعلان استقلال كوسوفا من جانب واحد، مع وعود -غير مضمونة- أن يجد اعترافا غربيا، مقابل الرفض الصربي والروسي.

في هذه الأثناء بدأت الحكومة الصربية استعداداتها الرسمية لفرض حصار على كوسوفا على غرار حصار غزة، يشمل مثلا قطع الكهرباء وإغلاق الحدود، وإن كان من المستحيل أن يصل إلى مستوى ما يعانيه قطاع غزة، نتيجة استمرار الوجود الغربي في كوسوفا.

وتبقى التساؤلات حول احتمالات المقايضة بين روسيا والغرب، فعلى جدول أعمال المساومات توجد قضايا عديدة أخرى، بدءا بجيورجيا مرورا بالشيشان انتهاء بإيران، فليس من المستبعد أن يتم الاتفاق على صيغة ما، على حساب هذا الطرف أو ذاك، من الأطراف التي أصبحت مادة للمساومات الدولية، ومنها كوسوفا.

ابتذال الشرعية الدولية
آخر ما يجدي السؤالُ عنه هو مدى مشروعية ما يُصنع بكوسوفا بمفهوم القانون الدولي. فكلمة الشرعية الدولية باتت مبتذلة، وبالذات في ساحة استخدام الكلمة باللغة العربية وفي المنطقة العربية -دون سواها- لوصف ما يصدر من قرارات مجلس الأمن الدولي، مهما كانت جائرة منحرفة، أو حتى لوصف ما تتفق عليه القوى الدولية خارج إطار المجلس.

في قضية كوسوفا وقضايا من أمثالها تظهر معالم اللعبة العبثية بالشرعية الدولية:

– عندما يتطرّق الحديث الدولي عن القانون الدولي بشأن كوسوفا ينطلق من مؤتمرات دولية أواخر القرن الميلادي التاسع عشر، ويهمل كل ما كان قبل ذلك بدءا بوجود الدولة اليابانية بحدودها التاريخية، وهنا يصبح البحث عن حلّ لقضية كوسوفا بحثا عن مخرج من مصيدة ما اعتبره الغربيون وضعا قانونيا دوليا.

– أما الحديث عن القانون الدولي في مثل قضية فلسطين فيبدأ بوعد بلفور ويهمل كل ما كان قبله على امتداد ستة آلاف عام عرفت أهلها الأصليين من الموآبيين واليبوسيين والفلستينيين والكنعانيين وغيرهم، وهنا يجري إسقاط كلّ معيار لإعادة الاعتبار للقانون الدولي في القضية، ويأتي التركيز على حصيلة "فرض الأمر الواقع".

– وعندما أرادت الدول الغربية فصل تيمور الشرقية عن إندونيسيا مثلا، قفزت حججها فوق تاريخ إندونيسيا القديم ووحدة أراضيها حديثا، واختير يوم معين لبداية تاريخ تيمور الشرقية وهو يوم تخلّي الاستعمار الهولندي في إندونيسيا بكاملها عن جزء منها هو تيمور الشرقية، لصالح الاستعمار البرتغالي.

هذا الأسلوب الانتقائي في اختيار يوم ما من التاريخ، وترك ما قبله كي يكون أساسا منطقيا في ظاهره لحجج الذين يزعمون التحرك على أرضية القانون الدولي في التعامل مع قضايا المنطقة الإسلامية تخصيصا، أسلوب ثابت في كل قضية من هذه القضايا ما بين أواسط آسيا والبلقان وما بين كشمير وفلسطين.

"
استقلال كوسوفا حق ثابت قائم على حق تقرير المصير، ويشمل فيما يشمل قابلية التوحّد مع ألبانيا إن أراد الألبان في كوسوفا وفي ألبانيا، وقد تعترف القوى الدولية أو بعضها باستقلال كوسوفا من جانب واحد
"

وليس النهج الانتقائي أرضية قويمة لشرعية دولية، بل ينتهك أسسها مباشرة بدءا بحق تقرير المصير للشعوب مرورا بعدم مشروعية اغتصاب الأراضي بالقوة انتهاء ببطلان إجراءات الاحتلال لتغيير الأرض والبنية السكانية، وجميع ذلك لا يصبح "مشروعا" نتيجة تقادم الاحتلال، وإلا لكان من المفروض اعتراف الدول الغربية بتبعية دول البلطيق لروسيا بعد احتلالها أكثر من خمسة عقود!

إنّ جميع الإجراءات التنفيذية "التغييرية" التي يمارسها الاحتلال لا تتحوّل من باطلة إلى مشروعة، لمجرد اعتراف مجموعة مهيمنة من القوى الدولية بها لاحقا.

قد يكون من السياسة الواقعية التعامل مع ما تفرضه القوّة على الأرض لمرحلة من الزمن، إنما ليس من السياسة الواقعية الاعتراف بمشروعية ذلك، ليكون عقبة إضافية في وجه العمل في مرحلة زمنية أخرى لإنهاء ما فرضته من باطل.

إنّ استقلال كوسوفا حق ثابت قائم على حق تقرير المصير، ويشمل فيما يشمل قابلية التوحّد مع ألبانيا إن أراد الألبان في كوسوفا وفي ألبانيا ذلك، وقد تعترف القوى الدولية أو بعضها باستقلال كوسوفا من جانب واحد.

ولكن لا يصحّ النظر إلى حق الاستقلال وكأنّه حصيلة "قرار" تتخذه القوى الدولية أو تحجبه، وتدعمه أو تعارضه، بمنطق القوّة أو بأسلوب المساومات، على حسب أوضاع الصراع والتنافس فيما بينها.

هذا ممّا يجعل كوسوفا مثالا نموذجيا لأقطار إسلامية عديدة أخرى في مقدمتها فلسطين والشيشان وكشمير، فجميعها ممّا قد يصنع به "السياسيون" المعاصرون ما يصنعون، ويزعمون الواقعية في وصف تخاذلهم أو عجزهم عن العمل من أجلها أو حتى الانخراط في حمأة المساومات على حسابها، وهم لا يقفون على أرضية الشرعية الدولية، والحدّ الأدنى المطلوب ألاّ يزعموا لأنفسهم ذلك.

وفي سائر الأحوال لا ينبغي أن يحول ما يصنعون أو يزعمون، دون التمسّك بالعودة إلى مشروعية التاريخ دون تزييف وانتقائية، وإلى مشروعية القانون الدولي دون تزوير، وهذا بدوره الحدّ الأدنى المطلوب على مستويات الفكر والإعلام والثقافة والتربية والتعليم، فتلك هي الميادين التي تمثل الخطّ الأخير في الدفاع عن حقوق الإنسان، وحقوق الشعوب، وعن مستقبل الأسرة البشرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.