مجالس الإنقاذ وأسطورة القاعدة في العراق

مجالس الإنقاذ وأسطورة القاعدة في العراق


 

إستراتيجية التضخيم الأميركي
حلول ترقيعية

في الوقت الذي يتصاعد فيه زخم العنف في العراق، وتتواصل الاتهامات المتبادلة بين الإطراف المفتعلة له يبقى تنظيم القاعدة منشغلا في تنفيذ أجنداته المتعلقة بتثبت أركان دويلته الإسلامية الوهمية التي أعلنها على أنقاض عظام العراقيين وجماجمهم المتراكمة دون أن يعبأ بالانتقادات الكثيرة التي وجهت لأنصاره في إثارة إعمال العنف ولا لمنهج قياداته الإقصائي حيال أطراف عراقية مقاومة للاحتلال ولا لارتباطات التنظيم بأجندات دول إقليمية ودولية هدفها مقارعة الأميركان وهزيمتهم على أرض العراق الخربة.

وفي ظل التبدل المتواصل في أسلوب التكتيك والمعالجة للقيادة الأميركية في العراق لمواجهة تنظيم القاعدة من جهة والتصدي لأعمال المقاومة المسلحة من الفصائل الجهادية الأخرى من جهة ثانية طرحت أسئلة في غاية الأهمية عن فحوى الإستراتيجية التي انتهجتها إدارة الرئيس بوش لتسليح العشائر العربية السنية.

هذه الإستراتيجية قوبلت بامتعاض ورفض شديد من الحكومة العراقية بل من شخصيات أميركية مهمة في الكونغرس والإدارة نظرا لكونها ستدفع إلى تفريخ المزيد من المليشيات غير المنضبطة والتي تزيد المشهد العراقي اشتعالا.

فهل الخطة الأميركية هي لتخليص المناطق العربية السنية من شرور تنظيم القاعدة وإرهابه المستشري في تلك المناطق حسب الوصف الأميركي؟ ام أنها تحمل في طياتها توجهات أميركية ترمي إلى تثبيت الوجود الأميركي في تلك المناطق واستحصال رضا وموافقة العشائر العربية الموالية لبدء حملة لاحقة تهدف إلى تطويق فصائل المقاومة الوطنية الحقيقية وتجفيف منابع الدعم لها في بيئاتها الحاضنة وبما يخفف زخم الضغط العسكري والنفسي الذي تتعرض له القوات الأميركية هناك؟

إستراتيجية التضخيم الأميركي

"

تضخيم خطر القاعدة عبر التركيز على بعض ممارساتها العشوائية ضد المدنيين ومن ثم تضخيم ارتباطها بأجندة إيران التخريبية في العراق يأتي في مقدمة العوامل التي دفعت لتوالد مشاعر الغضب والعداء لأنصار القاعدة لدى كثير من عشائر السنة

"

ربما كان لقاء بوش في مطلع سبتمبر/أيلول 2007 مع الشيخ عبد الستار أبو ريشة في الانبار ووصفه بالبطل مؤشرا أميركيا مهما على أن إستراتيجيتهم في مقاتلة القاعدة وإحداث خرق في المناطق السنية الحاضنة لها قد أصابت النجاح ولاسيما بعد أن تمكن أبو ريشة من اقناع فئات شعبية كبيرة في الأنبار من أن قوات الإنقاذ أو الصحوة التي شكلها بدعم أميركي ستكون بديلا ناجحا لتوفير الأمن المفقود على يد أنصار القاعدة ونهجها التكفيري معهم.

لقد كان تضخيم خطر القاعدة عبر التركيز على بعض ممارساتها العشوائية ضد المدنيين الأبرياء ومن ثم تضخيم ارتباطها بأجندة إيران التخريبية في العراق وإظهارها بمظهر الأداة المساعدة للمليشيات الشيعية المتطرفة التي تفتك بالسنة كمنظمة بدر وجيش المهدي ومن ثم الزج بمئات من الوكلاء المنتحلين لوصف القاعدة إلى مناطق العرب السنة وتزويدهم بالمال والسلاح للقيام بممارسات إرهابية في مقدمة العوامل التي دفعت لتوالد مشاعر الغضب والعداء لأنصار القاعدة لدى كثير من عشائر السنة الذين اغتصبت أموالهم وقتل كثير من أبنائهم على الشبهة واضطر بعضهم لترك وظائفهم وأماكن رزقهم والهجرة إلى مناطق أخرى يعتقدون بأنها توفر لهم شيئا من الأمان.

في وقت استمرت ممارسات أخذ البيعة لمشروع الدولة الإسلامية التي أعلنها التنظيم دون مبررات سياسية أو فكرية مقنعة على الأقل للفئات المتعلمة من أبناء السنة.

ولذاك لم يعد مستغربا في ظل الإرهاب والعنف المستشري على يد من يوصفون بأنهم من أنصار القاعدة أن تسمع أوصافا مريبة تلصق بكل من يطلق لحية أو يقصر ثوبا بأنه تابع للموساد الإسرائيلي أو الحرس الثوري الإيراني أو المخابرات الأميركية، بل ربما لن تستغرب كثيرا حينما تسمع قريبا لك يصف بن لادن بأقبح الأوصاف ويشير إلى أنه عميل أميركي بامتياز، رغم العاطفية وربما الزيف الذي يرافق تلك الأوصاف.

إن هذا الواقع المرير يؤكد حقيقة تجذرت مع احتلال العراق وهي أن تسمية القاعدة استخدمت كما استخدمت تسمية جيش المهدي كترياق لبسته الولايات المتحدة ودول إقليمية أخرى لإحداث أكبر شرخ ممكن في وحدة العراق الوطنية عبر إحداث فتنة طائفية وحرب أهلية تجعل طريق التقسيم سالكا دون عوائق.

كما نؤكد أيضا أن الحملة الأميركية العالمية لمحاربة تنظيم القاعدة جعلت من العراق ساحة مفتوحة وظفتها المخابرات الأميركية للقضاء على ما تصفه بإرهاب القاعدة المهدد لمصالحها العالمية.

وقد ألمح أكثر من كاتب وفي مقدمتهم الأميركي سيمور هيرش بمقالته في النيويوركر في يونيو/حزيران 2004 ، بعنوان "كيف خلقت إسرائيل أسطورة القاعدة"، إلى الدور الكبير للمخابرات الأميركية والإسرائيلية في خلق وتضخيم صورة القاعدة في العراق عبر السماح لكثير من وكلائها بالدخول من شمال العراق بصفة مدنيين ورجال أعمال عرب وأكراد ومقاولين متعاقدين مع البنتاغون للقيام بعمليات تفخيخ السيارات واستخدام أساليب التعذيب الجنسي وقطع الرؤوس وخلق الفتنة الطائفية.

وهذا يثبت أن العنف المستشري في العراق هو صناعة أميركية هدفها النهائي تشويه صورة المقاومة العراقية والتقليل من إنجازاتها الميدانية عبر وصفها بالإرهاب والتكفير.

وإذا كانت خطة الافتعال الأميركي لخطر القاعدة قد صارت جلية، فإن مما يؤسف له أن هذا التنظيم الذي أعلن أن العراق يشكل إحدى أهم ساحاته لهزيمة مشروع أميركا العالمي، لم يفصح إلى الآن عن توجهات سلمية حيال البيئة الاجتماعية الحاضنة له.

فقد كشفت سنوات الاحتلال الماضية أن الإيمان بثقافة الحوار والاختلاف ضعيفة عند أنصار التنظيم لاسيما مع الفصائل التي تتبنى خطا جهاديا واضحا، وهو ما انعكس في معارك جانبية تسببت في ضعف العمل المقاوم.

"
سيادة الروح المتعالية عند أنصار القاعدة كان له انعكاس واضح على الجهد العام للمقاومة حيث دفعت العمليات العشوائية التي قام بها أنصار التنظيم ضد قوات الاحتلال وأجهزة الأمن العراقية إلى تراجع المقاومة ومنح أعدائها فرصة تشويهها وربما تطويقها
"

صحيح أن الاختلاف بين فصائل المقاومة هو ظاهرة طبيعية عكستها غالبية تجارب التحرير العالمية بسبب تباين الظروف السياسية والعسكرية والمنطلقات الفكرية والأيديولوجية المشكلة لتلك الفصائل، ولكن كما يبدو فإن ثقافة الحوار قد تراجعت كثيرا عند أنصار القاعدة في العراق الذين انفلت عقالهم في تبني الكثير من سياسات التكفير للناس لاسيما بعد مقتل أبي مصعب الزرقاوي الذي تشير مصادر مقاومة إلى أنه كان صمام أمان أمام انفلات أنصاره.

حيث دفع مقتله إلى انفراط عقد التنظيم وتشرذمه بين خلايا وقيادات فرعية بدأت تعمل في أحيان وفق اجتهادات شخصية دون تنسيق ورجوع إلى قياداتها المركزية، مما دفع تزامنا مع اختراقات استخبارية أميركية وإقليمية إلى تصرفات منفلتة للتنظيم.

إن سيادة هذه الروح المتعالية عند أنصار التنظيم كان له انعكاس واضح على الجهد العام للمقاومة حيث دفعت العمليات العشوائية التي قام بها أنصار التنظيم ضد قوات الاحتلال وأجهزة الأمن العراقية وما جرته من خسائر عالية في صفوف المدنيين الأبرياء فضلا عن المعارك الجانبية مع بعض فصائل المقاومة إلى تراجع في قضية المقاومة ومنح أعدائها فرصة تشويهها وربما تطويقها.

حلول ترقيعية 
هكذا إذا كان لممارسات الإقصاء التي قام بها تنظيم القاعدة وسياسة التضخيم والاختراق الأميركي دور مؤثر في انكسار قواعد التأييد التي ربما حظي بها التنظيم في مراحل سابقة.

وبالتالي ظهور حالات من السخط لدى كثير من العشائر السنية وهو ما أعطى فرصة مهمة لاختراق أميركي لبعض تلك العشائر مشفوعا بإغراءات مالية سخية ووعود سياسية لبعض شيوخها وأبنائها من المنتقمين وطالبي الثأر ومن الباحثين عن أدوار في كنف الاحتلال.

لكن الشيء الملفت في هذا التحول هو أن تنخرط بعض الفصائل الجهادية مع الرغبة الأميركية بحجة تخليص مناطقهم من شرور القاعدة وتطرف أنصارها وهو ما انعكس كما قلنا في مناوشات جانبية أثلجت صدر الاحتلال وأعوانه المتشدقين بمشروعه السياسي.

بالقطع سيكون التعويل على مجالس الإنقاذ مفيدا لإدارة بوش لاختراق الوسط السني وتصفية أنصار القاعدة وخلق مليشيا سنية موالية تتحرك بقوة الدولار والسلطان الأميركي لتنفيذ خطط لاحقة أكثر عمقا وفائدة تتمثل في اجتثاث فصائل المقاومة المسلحة وقطع منابع الدعم لها عبر السيطرة السياسية والعسكرية على مناطقها الحاضنة وتوفير سبل القبول الشعبي للوجود الأميركي بعد أن كانت تلك المناطق طيلة الأربع سنوات الماضية عصية على التطويع والإخضاع.

تلك الخطة وإن بدت في الأشهر الماضية ناجحة في بعض المحافظات كالأنبار وديالى حيث نجحت قوات الإنقاذ الأميركي في طرد عناصر القاعدة وكذلك تخفيف الصيد الثمين للجنود الأميركان، إلا أنها بدأت تواجه مؤخرا تعثرات بيّنة لعل أهمها التصفيات التي أخذ يتعرض لها زعماء مجالس الإنقاذ في الانبار (مقتل أبو ريشة) وفي صلاح الدين (مقتل حسين جبارة) وفي كركوك (إصابة قائد الشرطة الذي يقود مجلس الإنقاذ) وفي الموصل (تفجير منزل الشيخ فواز الجربة).

فضلا عن تنبه فصائل المقاومة إلى المزالق المهلكة للخطة الأميركية على مستقبل عملها المقاوم حيث عملت في الأيام الماضية على توحيد جهدها السياسي والعسكري بمجلس واحد سيكون له بالقطع أثر ليس في تخفيف الاحتقان الحاصل مع بعض أنصار القاعدة فحسب بل على مستقبل المقاومة ودورها في العملية السياسية التي تلي الاندحار الأميركي المرتقب في العراق.

"
توحيد العمل المقاوم بات ضرورة حتمية تؤملها الظروف المتسارعة التي تمر بالعراق, فالساحة العراقية تنتظرها مخاضات كبيرة في مقدمتها احتمالات الاجتياح التركي لشمال العراق واحتمالات الضربة العسكرية الأميركية لإيران
"

أما الحدث الأبرز في هذا الاتجاه فهو الدعوات التي وجهها الشيخ حارث الضاري في 8 أكتوبر/تشرين الأول والشيخ أسامة بن لادن في 22 من الشهر نفسه لأنصار القاعدة وفصائل المقاومة، وشيوخ العشائر وعلماء العراق ورجاله الوطنيين حول عدم الانجرار وراء الفتنة الأميركية لتصفية المقاومة واختراق بيئتها الحاضنة تحت مسميات الإنقاذ والصحوة.

إذ إن تلك المجالس تهدف أساسا إلى إنقاذ العدو عبر توجيه سلاح العراقيين لصدور بعضهم البعض في الوقت الذي يبقى هو آمنا في وجوده وجنوده.

ومن المؤمل أن يكون لاعترافات بن لادن بالأخطاء التي ارتكبها تنظيمه في العراق أثر جلي في عودة العافية للعمل المقاوم وزوال الكثير من الإشكاليات التي اعترضته سابقا لاسيما إذا التزم أنصار القاعدة بدعوة قائدهم الروحي واتجهوا لتنسيق وتوحيد جهودهم مع فصائل المقاومة الأخرى وابتعدوا عن أحادية الرأي والإقصاء التي دفعت إلى نشوء مجالس الصحوة وحصول خلافات وقتالات جانبية وظهور نشوة نصر أميركي مؤقت عبر عنه قائد القوات الأميركية ديفد بتراوس في تقريره الذي قدمه للكونغرس في منتصف سبتمبر/أبلول الماضي واستبشر خلاله بنجاح الإستراتيجية الأميركية في إضعاف تأثير القاعدة على الوجود الأميركي في المناطق السنية.

إن توحيد العمل المقاوم بات ضرورة حتمية تؤملها الظروف المتسارعة التي تمر بالعراق فالساحة العراقية تنتظرها مخاضات كبيرة في مقدمتها احتمالات الاجتياح التركي لشمال العراق واحتمالات الضربة العسكرية الأميركية لإيران، الأمر الذي يجعل من العراق ساحة مفتوحة لمزيد من الفوضى والعنف وهو ما يجعل من توحيد الصفوف وتنسيق المواقف خيارا ثابتا لا بديل عنه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.