الولايات المتحدة ومستقبل حقوق الإنسان

الولايات المتحدة ومستقبل حقوق الإنسان



– الشعور القومي والدور العالمي
– الولايات المتحدة في مواجهة القانون الدولي
– تحطيم منهجي لقرارات الأمم المتحدة

ربط مشروع التأسيس للولايات المتحدة الأميركية بين فكرة الحقوق والاستقلال. وكان "إعلان فرجينيا للحقوق" الذي صدر في 12 يونيو/ حزيران 1776 بعد بدء حرب الاستقلال، أساسا اعتمد عليه توماس جيفرسون في كتابة القسم الأول من إعلان الاستقلال الأميركي، وقد ترجم للفرنسية في 1783 وكان له تأثير كبير على فكر الذين صاغوا "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" عام 1789.

ويمكن القول إن هذا النص التاريخي متقدم بأشواط على "الماغنا كارتا"، وهو يعزز قانون الإحضار أمام القضاء، مؤكدا على المساواة والحريات الأساسية للأشخاص، ويعتبر حكم القاضي فوق أي قرار سياسي بل يستعمل تعبير مقدس لوصفه (المادة 11).

ويصف حرية الصحافة بأحد أهم معاقل الحرية الأساسية التي لا يمكن أن تقيد إلا من المستبدين (المادة 12)، مع ربط حرية الدين والعبادة بالاقتناع لا بالإكراه أو العنف.

ويضع مادة هامة تقول "لا يمكن لشعب أن يحتفظ بحكومة حرة وفوائد الحرية، إلا بانتساب صارم ودائم لقواعد العدالة، الاعتدال والاتزان والاقتصاد والقيم. وبالعودة باستمرار لهذه المبادئ الأساسية". (المادة 15).

"
الولايات المتحدة تسعى بشكل منهجي لفرض سياسة المعيارين في اجتماعات الدول السامية الموقعة على اتفاقيات جنيف، وقد تجلى ذلك في حمايتها لقوات الاحتلال الإسرائيلية التي تنتهك اتفاقية جنيف الرابعة بشكل منهجي وكررت ذلك فيما يتعلق بقواتها في العراق
"

الشعور القومي والدور العالمي
هذا التداخل الجوهري بين الوطن والحقوق، بين تكون الهوية الذاتية ورسالة الأمة، يشكل بحد ذاته سكينا ذات حدين، فمن جهة، تبلورت صورة "النحن" في منظومة حقوق وواجبات، ومن جهة أخرى، تتعقد آليات الانتقال من المفهوم الأميركي إلى مفهوم عالمي لحقوق الإنسان، لأن انتقالا كهذا يشكل زعزعة لمقومات "الإيديولوجية" السائدة، وليس فقط مجرد مصلحة قومية عليا بالمعنى الجيو سياسي والاقتصادي للكلمة.

ورغم استيعاب مراكز القوى المختلفة في الإمبراطورية الصاعدة، منذ أكثر من قرن، لضرورة الخروج من القوقعة الذاتية للتمكن من الجمع بين سياسة الهيمنة الفظة و"مثالية بلاغية" ضرورية لتجميلها، لم تنجح أي إدارة أميركية في الانتساب الاسمي الكامل للشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

بل على العكس من ذلك، كان تعزيز الشعور القومي الأميركي باستمرار على حساب هذه الحقوق وفي خطاب غير مبطن ولا مستور.

لن نختار عتاة المحافظين الجدد، ولن ننتظر أحداث سبتمبر/ أيلول لتوضيح مرادنا، ولنأخذ ما كتبته كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية أثناء الحملة الانتخابية عام 2000، حين كانت مستشارة السياسة الخارجية للمرشح الجمهوري بوش في مقالة نشرتها مجلة (Foreign Affairs) في عددها الصادر في يناير/ كانون الثاني-فبراير/ شباط 2000.

تنتقد الآنسة رايس من يعتقد بضرورة قراءة المصلحة القومية عبر مشارب القانون الدولي ومنظمات كالأمم المتحدة، وتوضح أنها ليست ضد "المصلحة الإنسانية"، لكن تضعها في الصف الثاني بعد المصلحة القومية. فكون المصلحة القومية للولايات المتحدة الأميركية تخلق الظروف لتشجيع الحريات وحركة السوق والسلام، يفترض أن تعطى الأولوية.

على هذا الأساس "لا يمكن للاتفاقيات والهيئات المتعددة الأطراف أن تكون غاية في ذاتها، لأن مصلحة الولايات المتحدة تقوم على تحالفات قوية يمكن تعزيزها داخل الأمم المتحدة أو في غيرها من المنظمات المتعددة الأطراف، كما يمكن أن يحدث ذلك عبر اتفاقيات دولية متقنة الصنع".

وتضيف رايس "ليس من القيادة، كما أنه ليس بالموقف الانعزالي القول إن للولايات المتحدة الأميركية دورا خاصا في العالم، ولذا ليس من واجبها أن تنتسب لأي اتفاقية أو معاهدة دولية تقترح عليها".

الولايات المتحدة في مواجهة القانون الدولي
هذا المفهوم لا يؤدي فقط إلى خلق منظومة موازية لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، بل يجعل الولايات المتحدة في مواجهة مفتوحة معهما وعلى عدة مستويات بنيوية،

المستوى الأول: في المفهوم، إذ ترفض الإدارات المتعاقبة التصديق على عدة اتفاقيات أساسية لحقوق الإنسان، إما لاختلافها معها في المفهوم، أو رفض الخضوع للمحاسبة في حال الالتزام بها.

فقد كانت الولايات المتحدة من الدول المتأخرة في إدانة التمييز العنصري وقبول بعض الحقوق المدنية، ولم تصدق حتى اليوم على العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية.

بل ذهبت السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة جان كيركباتريك Jeane Kirkpatrick إلى أبعد من ذلك عندما قالت "هذه الحقوق هي رسالة من بابا نويل.. فلا الطبيعة ولا التجربة ولا الاحتمالات تدعم هذه القائمة من الحقوق التي لا ترضخ لأي ناظم باستثناء الروح والشهية عند من يدافع عنها".

المعركة نفسها خاضها السفير الأميركي موريس أبرام Morris Abram في رفض كلمة حق التنمية والإصرار على أن كل ما يتعلق بها من التفاهة بشكل ينتج الضرر على صعيد الأفراد والجماعات.

ومعروفة هي المواقف المتصلبة للإدارات الأميركية المتعاقبة من اتفاقيات حماية البيئة.

والولايات المتحدة والصومال هما البلدان الوحيدان اللذان لم يصدقا على اتفاقية حقوق الطفل، كذلك لم تصادق الولايات المتحدة على ميثاق روما لقيام المحكمة الجنائية الدولية، وهي في طليعة الدول المعيقة لإقرار بروتوكول ملحق ثالث لاتفاقيات جنيف الأربع.

وهي تسعى بشكل منهجي لفرض سياسة المعيارين في اجتماعات الدول السامية الموقعة على اتفاقيات جنيف، وقد تجلى ذلك بوضوح في حمايتها لقوات الاحتلال الإسرائيلية التي تنتهك اتفاقية جنيف الرابعة بشكل منهجي وكررت ذلك فيما يتعلق بقواتها في العراق.

"
ثمة صمت رسمي غربي وإلى حد ما دولي كامل على تجنيد الإدارة الأميركية اليوم لأكبر جيش من المرتزقة في التاريخ البشري الحديث، مع صمت أكثر بؤسا عن إمكانية المحاسبة
"

المستوى الثاني في الخيارات السياسية، فعندما قررت الإدارة الحالية خوض ما أسمته الحرب على الإرهاب، قامت بجملة إجراءات سياسية وقانونية مست في الصميم التراكمات الحقوقية ومنظومة السلم والأمن العالمي التي عرفتها البشرية في 60 عاما الأخيرة.

نذكر منها على سبيل المثل لا الحصر:
– إصدار مجلس الأمن القرارين 1487 و1422 ينص على عدم ملاحقة العاملين في قوات حفظ السلام من الأميركيين بتهم جرائم الحرب وغيرها.

– ارتكاب جرائم حرب في أفغانستان وجرائم تعذيب وبناء سجون سرية خارج السيطرة ونقل معتقلين إلى "منطقة حرة" لانتهاك الكرامة الإنسانية اسمها غوانتانامو.

– إبرام اتفاقيات ثنائية مع دول صدقت على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية كي لا تتم محاسبة أو ملاحقة أميركيين على أراضيها.

– غزو العراق دون أي غطاء قانوني أو أخلاقي وجعل احتلاله من عاديات الأمور بقرار من مجلس الأمن، وأنكد من ذلك توقيع القرار 17 من بريمر، الحاكم الأول في العراق الذي يضع قوات الاحتلال فوق المحاسبة والقانون في العراق.

– التمسك برفض تشكيل لجنة دولية للإشراف على الإنترنت في قمة المعلوماتية الأخير بديلا لهيمنة بلد واحد على هذا القطاع.

– اتخاذ قرار من المستشارين الأميركيين بتعريف خاص لجريمة التعذيب للالتفاف على ما وقعت عليه هي نفسها، أي اتفاقية مناهضة التعذيب "المقصود بالتعذيب وفق هؤلاء هو إنزال أذى بدني بشخص بشكل يؤدي إلى تعطل عضو من أعضاء جسمه، أما إذا لم يحدث تعطل أو تلف لأحد أعضاء الجسم فإن وسائل الاستجواب المستخدمة لا تعتبر تعذيبا كما لا تخالف أي قانون أميركي أو دولي أو أي معاهدات معمول بها بهذا الشأن".

كذلك إصدار قانون يدخل مصطلح المقاتلين الأعداء في التجربة القضائية الأميركية، بحيث يكونون مع مموليهم والمروجين لهم موضوع محاكمات عسكرية استثنائية خارج معايير المحاكمات العادلة.

– رصد الإدارة الأميركية العمليات المصرفية في 7800 مؤسسة بنكية في العالم.

– فرض قرار يطالب بكشوف كاملة ودقيقة على الجمعيات الإنسانية والخيرية التي تقوم في العالم الإسلامي بالدور الذي يفترض من الحكومات أن تلعبه في مواجهة الفقر والبؤس، ما أدى لإقفال بعضها أو تجميد أموالها، إذ نالت الحرب على الإرهاب من 60% تقريبا من قدرات الجمعيات الخيرية الإسلامية في العالم.

– إصدار قرار يأخذ عهدا على أي جمعية غير حكومية تنال مساعدة أميركية أهلية أو حكومية بعدم التعامل مع أي طرف تتهمه الإدارة الأميركية بالإرهاب.

– استصدار قرارات تخولها أن تتسلم، خارج القضاء، من تشاء من الأشخاص من غير مواطنيها وعندما تشاء وحتى دون تقديم دليل على اتهاماتها له.

المستوى الثالث: علوية الأمر الواقع على القانون، إذ إن تبني السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة لحقوق الإنسان، يجعلها تلجأ في كل مرة تحاول فيها الدفاع عن سياساتها وممارساتها إلى اعتبار هذه السياسة نابعة من موقف يحترم هذه الحقوق.

ولعل في الذاكرة جملة مادلين أولبريت وزيرة الخارجية السابقة، عندما أدانت عملية مقاومة الفلسطينيين بناء مستوطنة جديدة وعملية عسكرية للمقاومة "نحن مع البناء وضد الهدم والعنف"، لا نحن سمعنا أولبريت عند هدم قوات الاحتلال منزل المقاتل الفلسطيني، ولا هي سمعت أن الاستيطان في القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية؟

تحطيم منهجي لقرارات الأمم المتحدة
مثل مأساوي آخر نعيشه اليوم في العراق، حيث يتم باسم الأمن استجلاب عشرات آلاف المرتزقة في تحطيم منهجي لأهم مواقف الأمم المتحدة من الارتزاق العسكري.

"
السياسة الأميركية تشكل خطرا على مستقبل حقوق الإنسان، وليس أدل على ذلك من مسؤوليتها المباشرة عن التراجع الخطير على صعيد الحقوق والحريات في العالم في السنوات الخمس الأخيرة
"

ففي سنة 1968، أقرت الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية قوانين ضد المرتزقة، جاعلة استخدامهم ضد حركات التحرر الوطني والاستقلال قابلا للعقاب كفعل جنائي، وفي سنة 1966، تبنى مجلس الأمن قرارا يدين تجنيد المرتزقة لإسقاط حكومات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.

ويجرد القانون الدولي المرتزقة من حق المطالبة بوضع العسكري أو بوضع أسير حرب، تاركا إياهم عرضة للمحاكمات جناة عامين في الدولة المتضررة، لأنه وفق المادة 47 من البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف لا يحق للمرتزق التمتع بوضع المقاتل أو أسير الحرب.

وهو (المرتزق) تعريفا شخص: (أ) يجري تجنيده خصيصا محليا أو في الخارج ليقاتل في نزاع مسلح، (ب) يشارك فعلا ومباشرة في الأعمال العدائية، (ج) يحفزه أساسا إلى الاشتراك في الأعمال العدائية الرغبة في تحقيق مغنم شخصي ويبذل له فعلا من قبل طرف في النزاع أو نيابة عنه وعد بتعويض مادي يتجاوز بإفراط ما يوعد به المقاتلون ذوو الرتب والوظائف المماثلة في القوات المسلحة لذلك الطرف أو ما يدفع لهم، (د) وليس من رعايا طرف في النزاع ولا متوطنا بإقليم يسيطر عليه أحد أطراف النزاع، (هـ) ليس عضوا في القوات المسلحة لأحد أطراف النزاع، (و) وليس موفدا في مهمة رسمية من قبل دولة ليست طرفا في النزاع بوصفه عضوا في قواتها المسلحة.

رغم الإجماع الدولي على هذا التعريف، ثمة صمت رسمي غربي وإلى حد ما دولي كامل على تجنيد الإدارة الأميركية اليوم لأكبر جيش من المرتزقة في التاريخ البشري الحديث، مع صمت أكثر بؤسا عن إمكانية المحاسبة.

فهناك غياب لأي كشف بأسماء الأشخاص ومهماتهم وما يرتكبون من جرائم، بل لقد شملهم بريمر بوضعهم فوق القانون العراقي. وقد بينت أزمة "بلاك ووتر" الأخيرة أنهم أيضا فوق الحكومة!

ليست الولايات المتحدة وحدها المنتج والمصدر الأول للسلاح وصاحب أعلى موازنة عسكرية وحسب، بل تستخدم قواتها المسلحة أسلحة خطرة وعشوائيا، رغم أنها محرمة وفق المواثيق الدولية أو غير مقبولة ولا إنسانية.

فقد استعملت الولايات المتحدة وتستعمل، منذ احتلال العراق، المواد الحارقة MK-77، والذخيرة الفسفورية البيضاء والقنابل العنقودية. وخلال اجتياح العام 2003، استخدمت اليورانيوم المخضب DU.

مواقف الإدارة الأميركية على المستويات الثلاثة المذكورة ينصبها في الحقوق السياسية والمدنية سببا ورافعة لعولمة حالة الطوارئ ودسترة قوانين مناهضة الإرهاب وانتشار السجون السرية وعودة التعذيب بقوة.

شرطي العقوبات الاقتصادية بامتياز، تسببت السياسة الأميركية في تأخر قرارات مصيرية لوقف تدهور الحقوق الاجتماعية والاقتصادية أو حماية البيئة أو انتشار الفساد وإصلاح الأمم المتحدة.

لذا، يشاطرنا أبرز منظري حركة حقوق الإنسان اليوم الرأي، في أن السياسة الأميركية تشكل خطرا على مستقبل حقوق الإنسان، وليس أدل على ذلك، من مسؤوليتها المباشرة عن التراجع الخطير على صعيد الحقوق والحريات في العالم في السنوات الخمس الأخيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.