عواقب احتكار أسلحة الدمار الشامل

عواقب احتكار أسلحة الدمار الشامل

– الخطر الأكبر على مستقبل البشرية
– طمأنة المعتدي على حفظ سلامته
– فنّ صناعة العجز
– هل يتوقّف الاندفاع نحو الانهيار

لا ريب في أنّ كلّ سلاح فتّاك لا يفرّق بين المقاتل وغير المقاتل في الحروب، ولا بين هدف عسكري قد يكون من مصانع الموت وأهداف مدنيّة تصنع الحياة، بل ولا يفرّق بين البشر والشجر والحجر، هو سلاح يستحقّ ازدراء الأسرة البشرية والحظرَ المطلق، تصنيعا وتخزينا وتجارة واستخداما.. دون تمييز بين دولة وأخرى وطرف وآخر.

وما يسري هنا على أسلحة الدمار الشامل، يسري أيضا على أسلحة تقليديّة فتّاكة، كالقنابل العنقودية والانشطارية والعملاقة وغيرها ممّا لا تزال الولايات المتحدة الأميركية هي السبّاقة إلى صنعه، بل وإلى استخدامه أيضا، وهي تزعم العمل على حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتعلّل ذلك بخطر تلك الأسلحة على البشريّة وعلى السلام والأمن الدوليين.

وتلك السياسة أفضت إلى العمل –دوليّا- على احتكار انتشار الأسلحة المتطوّرة من جهة، والحيلولة من جهة أخرى دون توفّر قوّةٍ لدى الدول المستهدَفة تكفي لردع محتكري تلك الأسلحة عن استخدامها إذا رغبوا في ذلك لسبب ما!


"
ليس مجهولا أن مساعي منع انتشار أسلحة الدمار الشامل تدور حول الجميع، وتنأى تماما عن المساس بالترسانة الإسرائيلية لأسلحة الدمار الشامل والأسلحة التقليدية الفتاكة
"

الخطر الأكبر على مستقبل البشرية!
الحظر يستهدف البلدان العربيّة والإسلامية أولا، مثل إيران بعد تجاوز عقبة العراق بحرب الاحتلال، وعقبة ليبيا بفنّ الارتماء.

وليس مجهولا أنّ تلك المساعي الدولية تدور حول الجميع، وتنأى تماما عن المساس بالترسانة الإسرائيليّة لأسلحة الدمار الشامل والأسلحة التقليديّة الفتّاكة.

الحجّة الرئيسيّة هي الزعم القائل إنّ توفر هذه الأسلحة لدى أنظمة استبداديّة (أو لدى جماعات إرهابيّة) يرفع مستوى الخطر على الأمن والسلام الدوليّين.

أليست الحجّة الأقوى منطقيّا والأجدر بالاعتبار بحكم مقاييس السياسة الواقعيّة، هي الاستخدام الفعليّ لتلك الأسلحة الفتّاكة، وعلى وجه التحديد من جانب الولايات المتحدة الأميركية، إذ لم يمنعها عن ذلك حكمٌ ديمقراطي تمارسه، ولا قانونٌ دولي تعتبر نفسها في نطاقه.. أو "حارسة" له ومهيمنة عليه من خارج نطاقه؟

بعد سقوط المعسكر الشرقي بدأ ينتشر الحديث تدريجيا، عن أنّ الخطر الأكبر على السلام والأمن الدوليين هو الخطر الأميركي، ويظهر ذلك بقوّة في ميدان أسلحة الدمار الشامل.

وكان أوّل الأدلّة الدامغة –لا الاتهامات المحضة- لإدانة الولايات المتحدة الأميركية، حقيقة أنّها كانت البادئة بصناعة السلاح النوويّ الفتّاك يوم 16/7/1945م، والسبّاقة في استخدامه بعد عشرين يوما فقط من صناعته، لتدمّر هيروشيما وناغازاكي، ولترتكب بذلك جريمة قتل أكبر عدد من المدنيّين دفعة واحدة في تاريخ الحروب البشريّة.

هل يمكن أن يصنع حاكم استبدادي أو تصنع جماعة إرهابية، أكثر ممّا صنعته آنذاك الدولة الديمقراطية؟.. بل أبعد من ذلك أنّها لم تكتفِ بضرب هيروشيما، بل ألقت القنبلة الذرية الثانية على مدينة ناغازاكي لتقتل أهلها وتدمّرها، وذلك بعد أيّام من تفجير الأولى، أي بعد أن ظهر بكلّ وضوح -لِمَن لم يكن يعلم مسبقا!- ما يعنيه استخدام السلاح النووي الجديد آنذاك، من فتك بالبشر وتدمير للعمران والبيئة؟.

ويقال بلغة أهل القانون، تلك جريمة ارتُكبت عن سابق عمدٍ وإصرار ولهذا يستحقّ مرتكبها أعلى درجات العقوبة!.


"
تغييب عنصر الردع تحت عنوان حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل، لاسيّما في البلدان العربية والإسلامية، يعني الحرص على احتكار تلك الأسلحة، وتمكين محتكريها من الاطمئنان إلى استخدامها دون الخوف من رد فعل
"

طمأنة المعتدي على حفظ سلامته!
لم تستخدم واشنطن السلاح النووي لاحقا.. هذا صحيح، ولكن هل ذلك لأنّها أصبحت أكثر ديمقراطيّة وتعقّلا ممّا كانت عليه عام 1945؟

الجواب فيما تكشفه مسيرة التسلّح الأميركي الفتّاك، إذ لم تدخل واشنطن في اتفاق ثلاثي مع موسكو ولندن عام 1963م، لحظر التجارب النووية فوق الأرض، إلاّ بعد أن أصبحت قادرة من الناحية التقنية على متابعة مسيرتها عن طريق التجارب تحت الأرض.

ثمّ إنها لم تتراجع عن هذه التجارب باتفاق دولي عام 1996، إلاّ بعد أن وصلت إلى مستوى يمكّنها من متابعة تطوير أسلحتها النووية عن طريق البرامج الحديثة للعقول الإلكترونية، كأمثلة دون حصر.

كلّما أرادت واشنطن التحرّك عسكريا، كانت تستخدم الأسلحة الإجرامية الفتاكة –كالقنابل العملاقة في أفغانستان أو الفسفورية في العراق- هذا ما دام "عنصر الردع" غائبا لدى الطرف المستهدَف، مثلما كان عند بداية هذا الطريق مع اليابان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية واقعيّا، وهو ما عَبَرَ محطات تالية عديدة من فيتنام إلى باناما وجرانادا وسواها، بينما امتنعت واشنطن -رغم شدّة الصراع- عن استخدام أسلحتها الفتّاكة في حالة محدّدة معروفة، هي وجود عنصر الردع عند غريمها السوفياتي الشيوعي سابقا.

وأخطر ما يجري الآن هو الإجهاز عالميّا على إمكانات تأمين عنصر الردع على مستوى البلدان العربية والإسلامية، بعد أن كان ذلك العنصر –بإجماع النسبة الأكبر من الغربيّين- هو الحاجز الأهمّ دون نشوب حرب "ساخنة" بين المعسكرين الشرقيّ والغربيّ، طوال أربعين عاما.

ليس الأمر هنا أمر بحث نظري من جانب علماء السياسة والتاريخ، إذ لم يكن مبدأ الردع المتبادل هذا غائبا عن أذهان المسؤولين السياسيين في دول الشمال، بل كان هو المحور الأوّل لكلّ حديث عن التسلّح ونزع التسلّح، بما في ذلك عقْد ما يوصف بأمّ معاهدات الحدّ من التسلّح، وهي اتفاقية عام 1972م بين موسكو وواشنطن التي حظرت على البلدين صناعة سلاح صاروخي "دفاعي" ضدّ الصواريخ النووية.

وكان الهدف من ذلك أن يبقى كلّ بلد –عمدا- عرضة لخطر هجوم مضادّ من جانب الطرف الآخر، تقديرا لحقيقة أنّ الخوف من خطر الردّ الدفاعي، هو الوسيلة الأنجع للامتناع عن هجوم عدوانيّ من جانب من لا يتورّع عن توجيه الضربة النووية الأولى، وهي الاتفاقية التي انسحبت واشنطن منها حديثا.

إنّ تغييب عنصر الردع تحت عنوان حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل، لاسيّما في البلدان العربية والإسلامية، يعني الحرص على أمرين معا، احتكار تلك الأسلحة، وتمكين محتكريها من الاطمئنان إلى استخدامها في هجوم عدوانيّ، ضدّ دول -قهرا كما صُنع بالعراق وسواه أو طوعا كما صنعت ليبيا وسواها بنفسها- لا تملك أيّ قوّة رادعة فعّالة تسبّب التردّد عند مَن لا يتورّع عن العدوان إذا ضَمِن عدم التعرّض لردّ موجع!.


"
التخيير قاتل بين التسليم لألوان التفوّق العسكري وفق همجية الهيمنة الصهيوأميركية الجديدة، وبين التسليم لألوان السيطرة بمفهوم الاستعمار الحديث
"

فنّ صناعة العجز
يقول بعض مَن خاضوا في قضية الخلل الكبير على صعيد التسلّح المتطوّر عموما وليس أسلحة الدمار الشامل فقط إنّ الدول العربيّة والإسلاميّة متخلّفة عموما، وتتعرّض للضغوط الدوليّة المكثّفة، وإنّ امتلاك القليل لا يردع أحداً على كلّ حال، وامتلاك الكثير غير ممكن.. فالأفضل إذن عدم المحاولة أصلا.

وبغضّ النظر عن صحّة هذه المقولة، فإن عواقب الأخذ بها في عالم السياسة الواقعية المعاصر، قد تكون من خلال التعرّض المطلق للعدوان وللتسليم دون عدوان، كعواقب رفضها أو أشدّ. ثمّ هل هي صحيحة فعلا؟

أليس ممّا يقول به المتخصّصون عسكريا، إنّ الردع لا يتحقّق فقط عند الوصول إلى مستوى تكافؤ القوى المتنازعة، بل يبدأ عند الوصول إلى مستوى معيّن، هو ما سبق وصفه بتوفير ما يكفي لضربة موجعة ردّاً على عدوان محتمل؟..

كما يقال أيضا إنّ الأفضل هو توفير النفقات الضخمة المطلوبة لامتلاك الأسلحة الفتّاكة أو حتى الأسلحة المتطوّرة، وذلك لصرف تلك الأموال في ميادين التنمية والتطوير.

وهذه كلمة حقّ في غير موضعها، فالتنمية والتطوير يشملان الميدان العسكري دوما، ولا يتحقّقان بدونه، كما تفقد المقولة مصداقيّتها على أرض الواقع القائم، إذ لم تتوفر قوّة رادعة على امتداد العقود الماضية، كما لم يتحقّق قدرٌ يُذكر من التطوّر الإنتاجي الحقيقي والتقدّم العلمي والتقني، بل أصبح من أخطر جوانب هذه المقولة تلك العلاقة البالغة الأهميّة بين حظر أسباب القوّة العسكرية وحظر أسباب التقدّم!..

ليس المقصود هنا الدعوة إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل بأيّ ثمن، ولكن بيان خطورة العلاقة المذكورة ونتائجها، فالسياسة الدولية المفروضة تحت عنوان "حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل"، أصبحت لها حصيلة مرئية واضحة في عالم الواقع.

من أهمّ معالمها:

1- الانكشاف الأمنيّ العسكري، فهذا ما يصنعه أو يعزّزه على الأقلّ حظرُ وجود سلاح رادع تجاه من يمتلك أسلحة دمار شامل وأسلحة فتّاكة أخرى ولا يتورّع عن استخدامها.

2- الحصار الحضاريّ المادي، فقد أصبح حظر "التقنيات الحديثة" بدعوى قابليّة ازدواج استخدامها لأغراض مدنيّة وأغراض عسكريّة، سياسة علنيّة متّبعة بأسلوب يرسّخ التخلّف ولا يرسّخ الضعف العسكري فقط.

3- اصطناع صبغة شرعية للهيمنة الأجنبيّة، فالقبول رسميّا بالخلل المذكور، يوفّر التعليلات المزيّفة لفرض تلك الهيمنة، تحت طائلة التهديد العسكري بدعوى عدم الوفاء بالالتزامات الرسميّة، وهذا ما يجري عن طريق التعامل العدوانيّ المكشوف إزاء "مخطّطات ونوايا" ما، حقيقيّة أو مزعومة، لصناعة أسلحة متطوّرة في بلدان عربيّة وإسلامية.

4- مزيد من الخلل العسكري إقليميا، وتحويله من مستوى الأسلحة التقليدية إلى مستوى الأسلحة الأشدّ فتكا وتدميرا، وهو ما يظهر للعيان حاليا كنتيجة مباشرة للتزامن بين الاستجابة العربيّة القهرية أو الطوعية لمطالب الامتناع عن توفير أسلحة متطوّرة، مع تثبيت الحماية لترسانة الأسلحة الإسرائيلية وتطويرها كمّا ونوعا.

5- صناعة العجز الذاتي بربط مختلف العلاقات الخارجية الأخرى، التجارية والاقتصادية والماليّة بمخطّطات الحظر العسكريّة الاحتكارية، أي التخيير القاتل بين التسليم لألوان التفوّق العسكري وفق همجية الهيمنة الصهيو-أميركية الجديدة، وبين التسليم لألوان السيطرة بمفهوم الاستعمار الحديث.


"
الرفض الجماعي للدخول في اتفاقيات منع أسلحة الدمار الشامل يتطلّب أرضية غير أرضيّة الاستبداد داخليا والتجزئة إقليميا والتبعية دوليا كما هو الحال في معظم الدول العربية والإسلامية
"

هل يتوقّف الاندفاع نحو الانهيار؟
إنّ المطالبة بأن نصل يوما ما إلى حظر شامل للأسلحة الفتّاكة فيما يُسمّى "الشرق الأوسط"، لم تعد تكفي لمواجهة خطر الاحتكار الدولي والاحتكار الإقليمي لأسلحة الدمار الشامل، كما لم يعد يكفي لردعه أيضا تكديسُ أنواع الأسلحة المستوردة مع ربطها بقيود سياسية على صعيد استخدامها، وأخرى عملية، كاتفاقات الخبراء والتدريب وقطع الغيار وغيرها.

وهذه السياسات انتحارية على أرض الواقع، فهي لا تؤمّن ردعا وتُحدِثُ ثغرات كبرى على صعيد البنية العسكرية لكلّ بلد من البلدان على حدة، فترسّخ استحالةَ تحقيق تكامل أو تعاون عسكري في المستقبل المنظور بين البلدان المتجاورة، أمنيّا وسياسيا، فتزيد مخاطر تعرّض الجميع للخطر الخارجي.

يضاعف هذا الخطر أنّ المطالبة بتجريد المنطقة من أسلحة الدمار الشامل جنبا إلى جنب مع الدخول انفراديا وجماعيا في اتفاقات دولية تحظر تلك الأسلحة على البلدان العربية والإسلامية بالذات، لا يمكن أن تكون مطالبة فعّالة تؤتي ثمارها آجلا أو عاجلا.

فالسياسة الواقعية تفرض على الأقلّ الرفض الجماعيّ ليكون دخول تلك الاتفاقات ورقة سياسية للحصول على مقابل، ولا قيمة هنا لوعود مستقبلية ما، على افتراض وجودها أصلا.

ولا يعني هذا إغفالَ حقيقة أنّ الرفض الجماعي يتطلّب أرضية غير أرضيّة الاستبداد داخليا والتجزئة إقليميا والتبعية دوليا كما هو الحال في معظم الدول العربية والإسلامية في الوقت الحاضر.

إنّ قضيّة انهيار "الأمن العسكري"، العربي والإسلامي، انفراديا وجماعيا، لا تسمح بقبول قول من يقول بالعجز عن أيّ تصرّف، فالواقع أنّ التصرّف يجري، ولكن في اتجاه ترسيخ مزيد من أسباب العجز، بدل "الشروع" في العمل للتخلّص منها، ولو يوما ما.

لا بدّ من إيجاد صيغة بديلة مشتركة لمواجهة الانهيار الأمنيّ المشترك، وهي صيغة يستحيل تحقيقها، ما دامت الأوضاع الراهنة مقيّدة في وقت واحد:

1- بافتقاد إصلاح داخلي حقيقي، يوصل إلى اندماج فعليّ بين الشعوب والحكومات ويسمح بتوظيف الطاقات الذاتية لتحقيق المصالح الذاتية في كلّ بلد على حدة، ولتعويض بعض ما يفتقده من قوّة عسكرية لردع خطر خارجي.

2- وافتقاد إصلاح إقليمي حقيقي، يوصل إلى علاقات بينيّة مستقرّة بين دول المنطقة، ليكون لها تحرّك مشترك على صعيد السياسات الاقتصادية والمالية والإنتاجيّة فضلا عن السياسات الأمنية العسكرية.

3- وافتقاد إصلاح نوعيّ حقيقي، يوصل إلى التعامل مع مختلف القضايا المطروحة على الساحة، بدءا بالخطر الخارجي وانتهاء بتوفير لقمة العيش الكريمة، في إطار نظرة "إستراتيجية" شاملة، تضمن التنسيق والتكامل بين مختلف القطاعات والجهود والطاقات المتوفرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.