الوصفة التي لم تجرب

الوصفة التي لم تجرب



توجان فيصل

نفترض أن بعضاَ من المحاولات الغربية أو العربية لحل مشكلة المواجهة بين الغرب من جهة والعالم العربي والإسلامي من جهة أخرى, بالوسائل السلمية وبمحاولة فهم كل طرف للآخر والتعايش معه, محاولات جادة.

فهذا الافتراض ضروري لتقبل أي مما يصدر الآن عن أية جهة بغض النظر عن من هي, بدءاً من الذين يصدقون أو يريدون لنا أن نصدق أن حكام أميركا أو أوروبا جادين في عدم عدائهم للإسلام كدين وبحثهم عن حقيقة الإسلام للتجسير مع معتدليه, وانتهاء بمن يصدقون أو يريدون لنا أن نصدق أن مبادرات أسامة بن لادن السلمية, منذ قدم أول عرض للشعب الأميركي وللشعوب الأوروبية لوقف العمليات ضدهم -إن هم كفوا أيدي قواتهم عن ديار المسلمين- حتى عرضه الأخير هدنة لتمكين الشعبين الأفغاني والعراقي من إعادة إعمار بلديهما اللذين دمرتهما الحرب، مروراً بكل ما جاء من أطراف وسط بين هذين من مبادرات تفهم للآخر وصيغ تعايش معه على شكل حوار أديان وتقديم نسخ معتدلة من الإسلام للعالم على يد دول أو مؤسسات أو حتى أفراد, تحت كل المظلات والمسميات الدينية والسياسية والإنسانية..

تقبل كل هذا أو أيا منه يلزمه افتراض الصدق في توجه من تقبل منه مبادرته.

من هذا القبول سننطلق في تقييمنا لما يجري وتحديد, ليس صدقيته, بل جدواه العملية, في محاولة للوصول لحل حقيقي يرضي كافة الأطراف "الصادقة" وينهي هذه الأزمة الدولية التي استحالت مأساةً.

"
تقديم صورة إيجابية عن الإسلام للغرب حتماً سيجدي في جعل الشارع الغربي يرفض أية حالة عداء تستهدف المسلمين كأصحاب عقيدة, وهذا الأمر سينعكس حتما قريبا على سياسات الحكومات الغربية تجاه دول العالم العربي والإسلامي
"

تقديم صورة إيجابية عن الإسلام للغرب حتماً سيجدي في جعل الشارع الغربي يرفض أية حالة عداء تستهدف المسلمين كأصحاب عقيدة. ولأن الغرب ديمقراطي, فإن هذه القناعة الشعبية ستنعكس حتماً قريباً, ولا نقول فوراً, على سياسات الحكومات الغربية تجاه دول العالم العربي والإسلامي.

وهذا هو الحقل الوحيد الذي تحاول كافة الجهات "الصادقة" استثمار فرصه لنزع فتيل الصراع الدائر والذي تذهب ضحيته أعداد متزايدة من الأبرياء على الجانبين, ويعطل الكثير من سير الحياة الآمن في كافة الأقطار المتورطة فيه, والتي تشكل بمجموعها الآن ثلثي العالم على أقل.

ولكن الاستثمار في هذا الاتجاه لم يؤت أكله في نزع فتيل الصراع المسلح. ولنكن صريحين ونقول إنه لن ينجح في أكثر من أن يفيد مستقبلاً -بعد أن تضع الحرب الدائرة أوزارها- في تحسين فرص التفاهم وتسهيل التعايش.

وجزء من هذا سيكون من باب تعلم الدرس وطي صفحة الماضي, كما في حالة الحروب الأهلية, أكثر منه تبرئة أو تفهّما.

وأسباب فشل هذا الاستثمار, أو عدم مناسبة هذا العلاج للداء في مرحلته الحالية بالذات متعددة. منها ما يتعلق بطبيعة "الأديان" كافة, وكيفية تجسدها عند أتباعها لعقيدة تنتج عملاً أو موقفاً. فالإيمان في النهاية هو حالة وجدانية أكثر منه حالة عقلانية تحكم بالجدل والحوار والبينة والاختبار كما هي حال العلوم أو النظريات الفلسفية أو جدوى السياسات أو غيرها.

فالإيمان هنا هو أساساً "بالغيب", وما يليه من عكس هذا الإيمان على المرئي والملموس أمر آخر يختلف فيه المؤمنون ليس فقط مع اللادينيين واللاقدريين والملحدين, بل أيضا مع المؤمنين من ديانات أخرى. فكل يعزو هذا لإلهه هو, ويدلل به على قدرة خالقه.

ولا يقتصر هذا الخلاف على الأديان المختلفة, وإنما نجده بين أصحاب الديانة الواحدة. وهذا بدهي لخصوصية حالة الإيمان المختلط بوجدان المؤمن الفرد.

وهذه الخصوصية معترف بها في الإسلام فيما يتعلق بالصوفيين الذين يصل الأمر عندهم حد القول بأن التكليف بالعبادات يسقط عنهم لقربهم الشديد من الله. وفي الأديان الأخرى هنالك النساك من كافة الأصناف. فكيف إذا كانت هذه الديانة, كما في حالة الإسلام, قد أسست لدولة فخالطها الكثير من السياسة التي أنتجت فرقاً وطوائف اختلفت لدرجة أنها تنازعت واقتتلت.

"
الاستثمار في إيجاد صورة معتدلة عن الإسلام في الغرب لم يؤت أكله في نزع فتيل الصراع المسلح, وأسباب هذا الفشل  متعددة, منها ما يتعلق بطبيعة الأديان, ومنها ما يتعلق بأصحاب الديانة الواحدة
"

وقد امتدت هذه الدولة بالفتح العسكري بشكل رئيسي وليس بالتبشير, لتصبح إمبراطورية ضمت أتباعا للدين جددا من مختلف الأمم والحضارات والثقافات مما يلون إيمانهم بلون خاص.

وتلاقحت الحضارة العربية الإسلامية مع حضارات هذه الأمم لتنتج عقلية جديدة أكثر تطورا وتعقيداً عادت للتعامل مع مكونات تلك العقيدة, وبرز فيها أئمة ومرجعيات كلها ذات ثقل عقائدي وفكري لا يمكن إنكاره من أتباع غيرهم؟

أيّ من هذا الكم الغني بالنسبة للمثقف, والمحير بالنسبة للإنسان البسيط, سيعتمد نسخة موحدة لخطابنا الديني الداخلي قبل توحيده في صورة تنقل للخارج ؟

وحتى لو افترضنا إمكانية هذا التوحيد وقبلنا بكم الجدل الذي سيستتبعه والوقت الذي سيستغرقه هذا الجدل, فهل ستصل هذه الصيغة التوافقية للإنسان البسيط, إن لم نقل الجاهل؟

ماذا عن هذا الذي اعتاد أن يذهب لشيخ جامع في حيه, أو "لمتمشيخ" أوجد لنفسه مصداقية عند بعض الناس بطريقة أو بأخرى لا نعرفها, ليسأله السؤال البسيط عن الحلال والحرام في أي شأن, كي يخرج بوصفة تحدد تصرفه؟ أليس هؤلاء هم الغالبية الساحقة من المسلمين ؟ ثم أليسوا هم خامة التطرف أو المغالاة أو العنف, وألا تكفي حفنة منهم للخروج على أي اعتدال, خاصة بعد شيوع هذا الخروج بحيث سهل سلوك طريقه؟ من سيصل لكل هؤلاء بالصيغة المعتدلة الموحدة, ومتى؟

معنى هذا أنه حتى بالافتراض "المثالي" لإمكانية التوصل إلى صيغة توافق داخلية, فإن جدواها العملية في علاج التطرف الحالي وتداعياته أقل من محدودة.

 فإذا أضفنا بعضاً من سلبيات الواقع على هذه الصورة المثالية, وفي مقدمتها أن شكوكا عديدة قد أحاطت بكل ما يصدر تحت عنوان "الاعتدال", بعضها شكوك في دور أميركي يريد أن يحرف أو "يدجّن" الإسلام, وبعضها الآخر شكوك بأنظمة يجمع هؤلاء "الإسلاميون" على فسادها, وبعضهم متيقن من كفرها لحد يطال كل المؤسسات الدينية الرسمية وشبه الرسمية, وحتى رجال الدين المرضي عنهم أو غير المضطهدين بما يكفي لإثبات اختلافهم عن الحكام.. فماذا يتبقى من أية محاولة للتوافق, ولو بالحد الأدنى, على صيغة "فاعلة" لإسلام معتدل؟

ثم إن المتلقي في الطرف الآخر من "حوار الأديان أو الثقافات" هو أيضا نتاج معادلاته الدينية والتاريخية الخاصة به, بحيث لا يعود هنالك أية إمكانية لأكثر من توافق "دبلوماسي" .. أي لا توافق ولا تفهم, ولكن اتفاق على أن لا يعلن أي من الأطراف تحفظاته على ما يطرحه الآخر.

وهذا يكون عادة نتيجة لاتفاق مصالح, أي أننا نعود للحلقة السياسية تاركين خلفنا كل هذا الجهد المبذول في الحلقة الدينية مادة ترفيّة للمثقفين والباحثين, الذين لم يكونوا أساساً أطرافا في الصراع أو مصدراً للخطر أو القلق!

"
سواء أكان بن لادن مريضاً في نزعه الأخير يريد أن يرحل بطلاً للحرب والسلام, أو كان يناور ليكشف حقيقة مخططات ونوايا أميركا, فإنه أثبت حصافة سياسية افتقدها خصومه من كبار قادة أوروبا, وليس فقط من الطارئين أمثال بوش
"

الاستثمار في إيجاد صورة موحدة لإسلام معتدل لم ولن يجدي. ولا يمكن العودة إلى مشروع "استئصال العنف والتطرف والإرهاب" التي ثبت عدم جدواه باعتراف كافة من تبنوه, ومن هنا دخلوا أساسا على فكرة "الحوار".

وإن كانت إدارة بوش تعود منفردة إلى "المطاردة والاستئصال" عند ظهور أية بادرة مغايرة, باعتبار أن "الحرب على الإرهاب" ذريعتها ومبرر كل سياسياتها وحتى وجودها, فإنها إدارة إلى زوال بعد أقل من سنتين ودونما حتى أسف أميركي, خاصة بعد سنتين أخريين من مراكمة الأخطاء والخطايا.

ولكن الطريق لا توصد هنا, فهنالك الحل الآخر الذي لم يجرب الاستثمار فيه لأسباب عديدة, جلها مشبوه, مما فاقم الشكوك في كل ما بذل على صعيد "حوار الأديان".. ذلك هو الاستثمار في التوصل بالمقابل إلى أنظمة حكم "عقلانية" و"معتدلة" في العالم العربي, بمعنى أنها لا توغل في العسف والفساد .. أنظمة "متفق عليها" من غالبية, إن لم يكن كافة المسلمين والعرب, أي أنظمة "ديمقراطية". وهذا أمر "سياسي" أسهل بكثير من نظيره "الثيولوجي" الجاري التخبط فيه دون جدوى.. وهو وحده ما سيجفف بالفعل منابع الإرهاب ويسرّح جيوشه التي تتزايد مع كل حالة ظلم أو تهميش أو إلغاء.

وعلى أسوأ تقدير نتائج المحاولة تبقى إيجابية ولو بمجرد "لا عنفها" من جهة, واتساقها مع سير التاريخ الحتمي من جهة أخرى, مما يجعل الاستثمار فيها مضمون الربح بدرجة أو بأخرى.

أسامة بن لادن التقط رغبة شعوب المنطقة في أن تبني وتستقر, أو أن تتبع ما سيبدو أنه "قدرها" الاستشهادي في سبيل رسالتها. وسواء أكان مريضاً في نزعه الأخير يريد أن يرحل بطلاً للحرب والسلام يُستحضر ذكره عند أية معركة كما عند إعادة البناء والنماء, أو كان يناور ليكشف حقيقة مخططات ونوايا أميركا لقومه, فإنه أثبت حصافة سياسية في التقاط حس الجماهير في اللحظة القائمة, افتقد إليها خصومه من كبار قادة أوروبا, وليس فقط من الطارئين أمثال بوش.
ـــــــــــــــ
كاتبة أردنية 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.