شيطنة الآخر.. إسرائيل في مواجهة منتقديها

شيطنة الآخر.. إسرائيل في مواجهة منتقديها

صالح محمد النعامي

 

انتقاد الاحتلال فعل نازي

تجريم النضال الفلسطيني
تجاهل الخطايا الإسرائيلية

خلاصة

 

تعكف إسرائيل دائماً على ابتكار كل الوسائل الهادفة لنزع الشرعية عن حق الآخرين في انتقاد احتلالها الغاشم للأرض الفلسطينية، فضلاً عن مقاومته، وتضيق ذرعاً بالاحتجاج على ممارساتها الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني.

 

ولا تتوانى ماكينة الدعاية الإسرائيلية في تشويه صورة أولئك الذين يجرؤون على ممارسة هذا الحق، وتشنيعهم وتقديمهم على صورة الشيطان الذي يجب أن يخرس.

 

وبدلاً من أن تواجه إسرائيل الرسمية حجج منتقديها وتفندها بحجج مضادة، فإنها غالباً ما تريح نفسها من هذا العناء عن طريق اللجوء للتشكيك في دوافع هؤلاء، وتقديم هذه الانتقادات في الإطار الذي غدا ممجوجاً، ألا وهو " العداء للسامية".

 

لقد بات واضحاً أن "شيطنة" الآخر أياً كان، مادام يقاوم الاحتلال أو ينتقد ممارساته، هي الطريقة المثلى بالنسبة لمبلوري الدعاية الإسرائيلية المضادة.

 

ونحن هنا بصدد مناقشة الآليات التي تقوم عليها الدعاية الإسرائيلية في "شيطنة" الآخر، والعوامل التي تساعد على النجاح النسبي لهذه الآليات، فضلاً عن اقتراح آليات عمل عربية لمواجهة هذه الدعاية.

 

انتقاد الاحتلال فعل نازي

"
من الواضح أن
"شيطنة" الآخر أياً كان، مادام يقاوم الاحتلال أو ينتقد ممارساته، هي الطريقة المثلى 
لمبلوري الدعاية الإسرائيلية 
"

أقامت إسرائيل الدنيا ولم تقعدها عندما قررت رابطة المحاضرين البريطانيين مؤخراً مقاطعة جامعتي "بار إيلان" و"حيفا" الإسرائيليتين بسبب تواطؤ هاتين الجامعتين مع الاحتلال، وتورطهما في مساعدة مستوطنات الضفة الغربية.

 

ولم يحاول أي مسؤول إسرائيلي ولا حتى ممثلو الجامعتين أن ينفوا حقيقة التعاون بين هاتين الجامعتين وجيش الاحتلال، ودعمهما للمشروع الاستيطاني.

 

لكن كما هي عليه الحال دائما، فقد انبرت وزارة خارجية إسرائيل وسفارتها في لندن لتشبيه ما أقدم عليه المحاضرون البريطانيون بقرار المؤسسة الأكاديمية الألمانية في العهد النازي، بمقاطعة المحاضرين اليهود الألمان.

 

وترتكز الحملة التي تشنها إسرائيل ضد وسائل الإعلام الأوروبية لانتقادها ممارسات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني على نفس الآلية.

 

فقد وجه مدير مكتب الصحافة الحكومي في إسرائيل دان سيمان انتقاداً لاذعاً للصحافة الأوروبية متهماً إياها بتشجيع اللاسامية عبر تغطيتها لأحداث الصراع بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل، قائلاً "إن الفراغات في التقارير الصحفية الأوروبية ساهمت في دفع اللاسامية وتنشيطها في أوروبا".

 

وتشن الدوائر الإسرائيلية والمنظمات اليهودية حملة مسعورة للمطالبة بإقالة أستاذ الفكر العربي بجامعة كولومبيا جوزيف أسعد، لانتقاده ممارسات الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطيني.

 

وضمن جهودها لإسكات أصوات النقد لممارساتها وسياساتها ضد الشعب الفلسطيني، فقد بلغ الأمر بإسرائيل ووسائل إعلامها ومؤسسات البحث فيها إلى حد المطالبة بوضع قيود على حرية الصحافة في العالم العربي بسبب انتقادها لمظاهر القمع الإسرائيلي وتحريضها على مقاومته.

 

وقد بات واضحاً الدور الذي لعبته مؤسسة ميمري الإسرائيلية التي تعنى بمتابعة ما تنشره وتبثه وسائل الاعلام في العالم العربي والتي أسسها رجل الموساد يغآل كرمون، وهو ليكودي متطرف، في تغذية الكونغرس الأميركي بالتقارير حول مظاهر اللاسامية المزعومة في الإعلام المصري.

 

وترتكز مشاريع القوانين التي قدمت لمجلسي الشيوخ والنواب والمطالبة بفرض عقوبات على مصر تحديداً على تقارير هذه المؤسسة.

 

"
كل محاولة للشذوذ عن الرواية الصهيونية لأحداث التاريخ تعد بالنسبة لماكينة الدعاية الإسرائيلية ضرباً من ضروب اللاسامية العمياء
"

إن كل محاولة للشذوذ عن الرواية الصهيونية لأحداث التاريخ تعد بالنسبة لماكينة الدعاية الإسرائيلية ضرباً من ضروب اللاسامية العمياء.

 

فقد ثارت إسرائيل عندما بثت فضائية المنار مسلسلي "فارس بلا جواد" و"الشتات"، وللأسف فقد نجحت إسرائيل في إقناع فرنسا بوقف استقبال بث المنار بدعوى دور القناة في تغذية اللاسامية.


والمفارقة العجيبة أن إسرائيل رفضت بشكل مطلق احتجاج دولة عربية على برنامج ترفيهي بثته القناة الإسرائيلية الثالثة قبل عامين، حيث ظهر فيه الممثل الإسرائيلي إيلي يسبان وهو يقلد زعيم هذه الدولة، وهو يقوم بسب الذات الإلهية ويتلفظ بكلمات شائنة.

 

الحكومة الإسرائيلية عزت احتجاج هذه الدولة إلى "عدم وجود تراث ديمقراطي تعددي يمنح هامشا من الحرية لوسائل الإعلام!".

 

وينعدم الصبر الإسرائيلي أيضاً ضد النقد الآتي من داخل إسرائيل، فقد طالبت حركات سياسية مرتبطة بالحكومة الإسرائيلية بمعاقبة البروفسور موشيه تسيمرمان رئيس قسم التاريخ الألماني بالجامعة العبرية، لأنه وصف ممارسات جنود الاحتلال ضد الفلسطينيين بأنها تشبه ممارسات النازيين ضد اليهود.

 

وكان الرجل يعلق على ما نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية من تقارير تؤكد قيام جنود الاحتلال بركل جماجم مقاومين فلسطينيين بعد قتلهم.

 

اللافت للنظر أن قذف الآخرين بـ "اللاسامية " لم ينطل حتى على الكثيرين من المفكرين اليهود، فعالم الاجتماع باروخ كيمرلينغ لم يستسغ ذلك قائلاً "هذا ادعاء سهل جدا يلجأ إليه من يريد التهرب من الانتقادات".

 

تجريم النضال الفلسطيني

وجدت إسرائيل في "شيطنة" الآخر الحل الأمثل في محاولاتها نزع الشرعية عن حق الشعب الفلسطيني وممثليه بالمطالبة بحقوقه ومقاومة الاحتلال، وتجريم النضال الوطني ضد هذا الاحتلال.

 

"
وجدت إسرائيل في "شيطنة" الآخر الحل الأمثل في محاولاتها نزع الشرعية عن   الشعب الفلسطيني  وتجريم النضال الوطني ضد  الاحتلال "

فاعتراف الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بإٍسرائيل وتوقيعه على اتفاقيات "أوسلو" وقراره السير نحو تسوية سياسية مع الدولة العبرية، لم يشفع له عندما تبين لصناع القرار في تل أبيب أن الرجل يتشبث بسقف الحد الأدنى فلسطينياً والذي يتضمن إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

   

فهنا وجدت ماكينة الدعاية الإسرائيلية فرصتها في الانقضاض على عرفات، وتصويره على أنه "التوأم" الفلسطيني لأسامة بن لادن.

 

وقامت إسرائيل بفبركة التهم لعرفات وحملته مسؤولية العمليات الاستشهادية، وقدمت انتفاضة الأقصى على أنها "رد عرفات على المقترحات السخية" التي قدمتها إسرائيل في مؤتمر كامب ديفد "الذي سبق اندلاع الانتفاضة" كما يزعم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك.

 

وأصبح عرفات هو "أبو الشرور" بالنسبة لإسرائيل، ورويدا وريداً تبنت الكثير من دول العالم الموقف الإٍسرائيلي من عرفات، وخصوصاً إدارة الرئيس بوش.

 

لقد نجحت الدعاية الإسرائيلية القائمة على صناعة الأكاذيب في تحويل عرفات الزعيم المنتخب للشعب الفلسطيني، من شريك لإسرائيل في التسوية السياسية إلى معتقل في إحدى زوايا مقره المدمر في مدينة رام الله إلى أن لقي الله.

 

اللافت للنظر أن صناع القرار في الدولة العبرية الذين استطاعوا إقناع الكثير من دول العالم بنبذ عرفات وتجاهله على اعتبار أنه غير ذي صلة "not relevant " كما كان يحلو للرئيس بوش أن يطلق عليه، لم يكونوا يصدقون ما يقذفون عرفات به.

 

"
كل مقاوم فلسطيني قتل أو جرح أحداً من جنود الاحتلال هو "إرهابي" بينما يقلد جيش الاحتلال الضابط قاتل الطفلة الفلسطينية إيمان وسام البطولة!
"

ويقر الوزير السابق دان مريدور الذي كان مكلفاً بالإشراف على الأجهزة الاستخبارية في عهد حكومة شارون الأولى، أنه شخصياً لم يعثر على أي دليل واحد يربط بين عرفات وبين عمليات المقاومة (هارتس 9/10/2004).

 

وفي نفس الوقت رفضت الدعاية الإسرائيلية وجود المقاومة الفلسطينية كرد على الاحتلال وكرفض للتسليم بالغبن التاريخي الذي يكابده الشعب الفلسطيني، وصورت الفلسطينيين على أنهم "مجددو الفكر النازي" كما يقول وزير المالية الإسرائيلي بنيامين نتانياهو.

 

فالفلسطينيون هم الطامحون لتدمير الدولة التي أقامها اليهود على أرض أجدادهم، كما يعكف شارون على الترديد دائماً.

 

وعلى نفس المنوال جاء تحذير وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم من مغبة فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية المقبلة، إذ قارن بين فوز حماس المتوقع وفوز حزب هتلر في الانتخابات الألمانية التي سبقت الحرب العالمية الثانية.

 

"شيطنة الآخر" تمثلت في المفهوم الإسرائيلي لـ "الأيدي الملطخة بالدماء" فكل مقاوم فلسطيني قتل أو جرح أحداً من جنود الاحتلال هو "إرهابي ملطخة أياديه بالدماء" يحظر الإفراج عنه إن كان معتقلا، بينما يقلد جيش الاحتلال الضابط الإسرائيلي الذي قتل الطفلة الفلسطينية إيمان الهمص في مدينة رفح قبل خمسة أشهر وسام البطولة!

 

ولا أحد يهتم بما دأب إيهود باراك على التفاخر به دوماً، عندما يعود لذكرياته كقائد لـ "سييرت متكال " أهم فرق الموت في جيش الاحتلال، وتصويره حالة الانتشاء التي كان يمر بها عندما يقوم بتصفية قادة منظمة التحرير في لبنان، حيث يقول "لقد كان يعجبني تطاير بياض عيونهم بعد أن أفرغ رصاصي في رؤوسهم".

 

تجاهل الخطايا الإسرائيلية

"
أهم عامل ساهم في نجاح الدعاية الإسرائيلية هو الدونية التي ميزت الموقف العربي حيال هذه الدعاية
"

هناك عدد من العوامل التي ساعدت على النجاح النسبي للدعاية الإسرائيلية في "شيطنة" منتقدي الاحتلال ومقاومي التعسف الناجم عنه، فقد وظفت هذه الدعاية ما تعرض له اليهود على أيدي النازيين، واستغلت الشعور بعقدة الذنب المهيمنة على العديد من الدول الأوروبية حيال ما حل باليهود، من أجل وصم كل نقد للدولة اليهودية على اعتبار أنه معاداة للسامية.

 

وفي نفس الوقت ساهمت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في نجاح الدعاية الإسرائيلية، في إحداث انقلابات هامة في نظرة العالم للمقاومة الفلسطينية.

 

فلم تعد الكثير من دول العالم ترى فروقاً بين تنظيم القاعدة وبين حركات المقاومة الفلسطينية على اختلافها، ووصل الأمر إلى حد توقيع الرئيس بوش على مرسوم يقضي بتعيين مبعوث أمريكي خاص لمتابعة مظاهر اللاسامية في العالم وتقديم تقارير بشأنها لمعاقبة الأطراف المتورطة فيها.

 

لكن أهم عامل ساهم في نجاح الدعاية الإسرائيلية هو الدونية التي ميزت الموقف العربي حيال هذه الدعاية، والقبول العملي بالأحكام التي تصدرها إسرائيل بشأن المقاومة الفلسطينية.

 

وفي نفس الوقت لم يكن هناك جهد عربي منظم يعنى بالاهتمام بالشواهد اللامحدودة التي تعكس التعاطي الإسرائيلي العنصري تجاه العرب لكونهم عرباً، وشن حملة عربية مضادة قائمة على الحقائق لفضح زيف الدعاية الإسرائيلية، ومطالبة العالم بموقف صريح منها.

 

"
لم يحرك أحد من العرب ساكناً عندما وصف وزير الصحة الإسرائيلي السابق  المسلمين بأنهم "ثعالب ارتقوا بالتدريج إلى مرتبة الأفاعي والعقارب
"

ولم يحرك أحد من العرب ساكناً عندما قال الوزير الإسرائيلي إيفي إيتام "إني لا أصف هؤلاء الفلسطينيين بأنهم حيوانات لأنهم مخلوقات جاءت من أعماق الظلمة، وسوف نضطر لقتلهم جميعا" ولا حينما وصف وزير الصحة الإسرائيلي السابق سيما دهان -عندما كان في منصبه- المسلمين بأنهم "ثعالب ارتقوا بالتدريج إلى مرتبة الأفاعي والعقارب".

 

فلماذا لا تتحرك جامعة الدول العربية -ولو من باب تسجيل الموقف المضاد- لإطلاع العالم على آخر الفتاوى التي صدرت عن كبار المرجعيات الروحية اليهودية التي أباحت للمستوطنين سرقة محاصيل المزارعين الفلسطينيين، بل وتسميم مواشيهم.

 
وما المانع من مواجهة الرئيس بوش الذي يقود الحرب ضد اللاسامية، بما قاله الحاخام مردخاي إلياهو، أكبر مرجعية للإفتاء في الدولة العبرية والذي يأتمر بإمرته ربع نواب الكنيست، حينما قال إن اليهودي الذي يبيد الفلسطينيين يؤدي فريضة أنزلها الرب.

 

لقد كان من الممكن إلقاء الكرة -وبحق- في الملعب الإسرائيلي لو تحركت السفارات العربية في عواصم العالم المسيحي لاطلاع الناس هناك على نظرة المرجعيات الروحية اليهودية للمسيحية، بدلاً من حصر الاهتمام بما يصدر عن رجال الدين المسلمين وبالذات في مسألة العمليات الاستشهادية.

 

ويكفي هنا الإشارة إلى ما قاله أحد أهم المرجعيات الدينية اليهودية الحاخام حتنائيل أتروغ الذي قال "المسيحية تشبه خنزيرا ينزع أظلافه… يموه على دناسته الداخلية… المسيحية أفعى تنفح، برازها يتسلل إلى قلوب أبناء شعب الرب…" أو ما يقوله الحاخام روبي فايندروف "إذا لاحظت شرا في يهودي فإنك تكون اكتشفت الجزء غير اليهودي الذي فيه".

 

خلاصة

"
أبسط مقتضيات الانتماء لهذه الأمة يفرض التحرك لإبراز الشياطين الحقيقيين وعرض صورهم وفضح أفعالهم
"

إن أبسط مقتضيات الانتماء لهذه الأمة يفرض التحرك لإبراز الشياطين الحقيقيين وعرض صورهم، وفضح أفعالهم، وليس قدراً أن تنجح إسرائيل في "شيطنة " كل من يخرج ضد الاحتلال وينتقده.

 

إن الدول العربية تخطئ بمواصلة التعامل بلامبالاة مع الدعاية الإسرائيلية التي لا تقبل غير التوافق التام ليس فقط مع الرواية الرسمية لأحداث التاريخ، بل وقبول التفسير الصهيوني لهذه الأحداث.

 

إن أكبر رد عملي على هذه الدعاية هو الدعم العربي المطلق وغير الملتبس لحق الشعب الفلسطيني في ممارسة حقه في مقاومة الاحتلال حتى زواله.
ـــــــــــــ
كاتب فلسطيني 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.