الكائنات المعدلة جينياً.. تدمير للبيئة أم إصحاح وإثراء؟

الكائنات المعدلة جينيا .. تدمير للبيئة أم إصحاح وإثراء



وحيد محمد مفضل

 

– المنتجات المعدلة جينياً وإشكالية المحافظة على البيئة

– الآفاق والآمال

– المخاطر والمحاذير

– مستقبل المنتجات المعدلة جينياً في الميزان

 

منذ بدء الخليقة ظل الكائن الحي في الفكر الإنساني كياناً مقدساً لم تجرؤ أية حضارة بشرية قديمة على مس كينونته، كما لم يذكر التاريخ أبداً أن أي منها حاولت، مجرد المحاولة، التدخل في صفاته الوراثية أو تعديل جيناته أو تحسين خصاله الذهنية أو الجسمانية كما يفعل إنسان العصر الحالي من خلال الهندسة الوراثية.

 

هذا رغم أن معظم هذه الحضارات ارتبط وجودها دائما بفكرة الخلود، ومن ثم كانت ظاهرياً أكثر حاجة منا لمثل هذه الخطوة لكي تظل سائدة في العالم أطول فترة ممكنة، بل يمكن القول إن العكس هو الصحيح، فقد ارتبطت معظم هذه الحضارات بظاهرة تخليد الجسد واحترام الحيوانات والنباتات إلى حد تقديسها أو عبادتها أحياناً.

 

"
المخاوف من التعديل الوراثي لا تقف عند حد تهديد صحة الإنسان واحتمال سيطرة بعض الكيانات الاقتصادية على مقدراته الغذائية، بل إن هناك مخاوف بشأن تأثيرها على حالة النظم البيئية وصحة الموارد الطبيعية
"

ولعل الأيقونات والآثار التاريخية الباقية التي تركتها لنا الحضارة المصرية القديمة مثل القط الفرعوني الشهير، وأبو الهول والنسر حورس وزهرة اللوتس ونبات البردي خير دليل على هذا، والأمر نفسه لا يختلف كثيراً عند الحديث عن الحضارة الصينية أو اليونانية أو بقية الحضارات الأخرى القديمة.

 

غير أن الأمر تبدل أخيراً إلى تمام النقيض، ذلك عندما بدأ العلم الحديث يُسخر تقدمه وتقنياته الفائقة في اللهو بجينات وصفات كل الأنواع ابتداءً بالنبات ثم الحيوان وأخيراً الإنسان نفسه من خلال ما يعرف بالاستنساخ البشري.

 

وقد حدث هذا للمرة الأولي منذ ما يقرب من 30 عاماً عندما أعلن لأول مرة عن محاولة تحوير أحد النباتات جينيا، لكن المحاولة تكررت بعد ذلك كثيرا ثم سرعان ما أصبحت نهجا ثم علما خالصا قلب كل الموازين والمفاهيم بدرجة حولته إلى ثورة أطلق عليها الثورة البيولوجية.

 

المنتجات المعدلة جينيا وإشكالية المحافظة على البيئة

تعد الهندسة الوراثية، بما لها وبما عليها، من أكثر العلوم إثارة للجدل في تاريخ العلم، فإفرازات هذه التقنية ومنتجاتها لاقت من المعارضة ومن التأييد ما يكفي لتقسيم علماء العالم بل ومثقفيه ربما إلى فريقين متساويين: مع وضد هذه الثورة.

 

فإذا كان لمنتجات هذه الثورة فوائد ومزايا وهذا ما يستند إليه المؤيدون، فإن لها أيضا، بحسب المعارضين، محاذير وآثارا جانبية عديدة وقد تقود إلى عواقب وخيمة، لا تتحملها البشرية.

 

والمخاوف هنا لا تقف عند حد تهديد صحة الإنسان واحتمال ظهور أمراض جديدة، ولا عند احتمال سيطرة بعض الكيانات الاقتصادية والشركات الزراعية الكبيرة على مقدرات الإنسان الغذائية، بل إن هناك شكوكا ومخاوف عديدة بشأن تأثيرها على حالة النظم البيئية وصحة الموارد الطبيعية.

 

وهنا يثور سؤال شائك هل تؤدي هذه الكائنات المعدلة إلى ظهور مشاكل بيئية جديدة على كوكبنا المنهك أم أنها على النقيض من ذلك تمثل بداية واعدة وأملا حالما للقضاء على كثير من مشاكل الأرض الحالية.

 

الآفاق والآمال

لا يخلو أي جهد إنساني من جوانب إيجابية مهما اعتراه عظيم الجدل مثل حال الهندسة الوراثية ومنتجاتها، وفي هذا الصدد فقد تواتر علينا مؤخرا عدد من الاكتشافات التي تحمل في طياتها آمالا مشرقة بخصوص آثار النباتات والحيوانات المعدلة جينيا على النظم البيئية والحياة الإنسانية.

 

من أبرز تلك الإنجازات نجاح إحدى الشركات الدانمركية في استغلال أحد النباتات الفطرية الشائعة وتحويره جينيا من أجل استخدامه في الكشف عن الألغام الأرضية!.

 

لا شك أن هذا "الاختراع" الجيني يعد بارقة أمل وطوق نجاة لدول عديدة أعجزتها تداعيات الحروب البغيضة عن دفع عجلة التنمية والتطوير في مناطق شاسعة كانت مسرحا للمعارك الدامية وتحولت بسبب القتال إلى حقول ألغام تهلك كل من يقترب منها وتفنيه في لحظة.

 

ولا شك أنه سيفيد أيضاً في حماية آلاف مؤلفة من الحيوانات البرية ومن بينها أنواع مهددة بالانقراض من الهلاك نتيجة مرورها بحقول الألغام المتفجرة، ثم إن هذا "الاختراع" يمكن أن يساهم وهو الأهم في إنقاذ آلاف الأشخاص ممن تحصدهم تلك الألغام شهريا، إذ أنه حسب إحصائية صادرة عن الأمم المتحدة، يصاب كل 20 دقيقة أو يقتل شخص جراء الألغام الأرضية.

 

من إنجازات الهندسة الوراثية أيضاً ما ذكرته مجلة 

"
تواتر علينا مؤخرا عدد من الاكتشافات التي تحمل في طياتها آمالا مشرقة تبرز بعض الآثار الإيجابية للنباتات والحيوانات المعدلة جينيا على النظم البيئية والحياة الإنسانية
"

نيتشر العلمية في عددها الصادر في 11-2-2005 عن نجاح فريق علمي أميركي في تحوير نبات الخردل الهندي جينيا من أجل تنقية التربة الزراعية من أحد أخطر العناصر المعدنية السامة وهو عنصر السيلنيوم الذي يتسبب في إصابة الإنسان بالسرطان وأمراض أخرى.

 

ولم تقف إنجازات الهندسة الوراثية عند حد المساهمة في التخلص من الألغام الأرضية أو ملوثات التربة، بل أمتد الأمر لأوجه أخرى عديدة منها نجاح إنتاج سلالات نباتية جديدة مقاومة للجفاف وأنواع ثانية مقاومة للملوحة ومنها محاصيل اقتصادية أساسية مثل الأرز والقمح.

 

وهذا يعني في أبسط معانيه المساهمة في القضاء على واحدة من أكبر المشكلات البيئية التي تواجه العالم ألا وهي مشكلة التصحر حيث يمكن بواسطة تلك النباتات إعادة زراعة أو تشجير ملايين الأفدنة من الأراضي القاحلة التي أتى عليها الجفاف أو التصحر. 

 

وليست هذه الأمثلة في الواقع إلا باقة من إنجازات وفضائل عديدة لا يمكن إنكارها على الهندسة الوراثية ومنتجاتها، لكن هذا على أي حال لا ينفض كامل الغبار عن باقي المنتجات المعدلة وراثياً، فليست كل الورود تفوح بالضرورة بالروائح الذكية!.

 

المخاطر والمحاذير

في مقابل ذلك الوجه المضيء هناك مخاوف وشكوك متزايدة تتعلق بجدوى استقدام كثير من النباتات والحيوانات المعدلة جينياً.

 

أما مرد هذه المخاوف فهي عدم اتباع المتطلبات والاحتياطات اللازمة عند التطوير أو التعامل مع الكائن المعدل جينياً، وأهمها ضمان التحكم في انتشار ذلك الكائن واتخاذ جميع التدابير لمنع تسربه إلى البرية أو الحيلولة دون انتقال جيناته المعدلة لأنواع أخرى وهو ما يعرف باسم التلوث الجيني.

 

ومرد هذه المخاوف أيضا الخوف المتزايد من الاستغلال السيء للكائنات المعدلة جينيا وذلك من قبل فئة ضالة من العلماء أو المستغلين، لأنه إذا كانت غالبية العلماء من الفئة الجادة والمخلصة التي تحرص على اتباع الأصول العلمية وتلتزم بالأطر الأخلاقية والمهنية، فهناك أيضاً، وإن كانت قلة، فئة أخرى لديها رغبة ملحة في الشهرة الذائعة وربما الكسب السريع حتى ولو كان ذلك على حساب كل المعايير الأخلاقية المعروفة.

 

والحقيقة أن هناك من المؤشرات والأمثلة السيئة ما يكفي لإثراء تلك المخاوف، وهي تدل أولا وقبل أي شيء على مغالاة الإنسان ومزايدته في استخدام أو إنتاج نباتات أو حيوانات مهندسة جينيا لا داعي لها ولا جدوى من استقدامها.

 

وإلا بماذا نفسر إنتاج سلالة جديدة من الفاكهة تتوسط شكلا وطعما بين التفاح والكمثرى؟!، وما الإضافة في إنتاج سمك زينة يتوهج أو يصدر ضوءاً في الظلام، ثم ما جدوى إنتاج نوع مماثل من نجيلة الحدائق تشع ضوءا في الظلام أو سلالة جديدة من الأرانب أو القطط الفسفورية المتوهجة. ما معني هذا وما مغزاه؟! لا شك أنه عبث بيوتكنولوجي جامح وفوضى جينية منفلتة لا فائدة منها سوى تغذية سفه الرفاهية المفرطة للإنسان.

 

هذا عن العبث الجيني المعلن، لكن ماذا عن المخفي؟، ماذا عن الملفات والأبحاث الخفية في مئات المعامل والمختبرات السرية؟! ألا يمكن أن يقود هذا إلى ظهور كائنات ممسوخة ذات صفات تركيبية شاذة وضارة؟ ثم ألا يمكن أن يقود هذا إلى كارثة بيئية تضر بالأرض والحياة الإنسانية القائمة عليها؟.

 

"
تزايد احتمالات تسرب عدد كبير من المنتجات المعدلة جينياً للأسواق أو البرية دون القيام بدراسات كافية أو دون تمام التأكد من كونها آمنة أو صحية بالنسبة للبيئة والإنسان يمكن أن يشكل كارثة بيئية
"

أما السبيل الوحيد لتجنب حدوث مثل هذه التداعيات فهو إجراء دراسات بيئية طويلة الأمد ومتعددة الجوانب يراعى فيها كافة الظروف والمعطيات البيئية وأهمها اعتبار ودراسة كافة الكائنات والعناصر المؤثرة أو المستفيدة من الكائن المحور جينيا.

 

غير أن تحقيق هذا المطلب يجابه أساسا بعدة معوقات أبرزها التكلفة المادية العالية اللازمة لإجراء مثل هذه التجارب، وطول الفترة الزمنية المطلوبة لتحقيق وتدقيق النتائج المستقاة، ثم توفير عدد مناسب من الباحثين المتخصصين والأكفاء للإيفاء بكافة جوانب الدراسة البيئية والجينية المطلوبة، وغير ذلك من الاشتراطات والاستحقاقات التي يصعب في الواقع تحقيقها.

 

ولا يعني هذا سوى تزايد احتمالات تسرب عدد كبير من المنتجات المعدلة جينيا للأسواق أو البرية دون القيام بدراسات كافية أو دون تمام التأكد من كونها آمنة أو صحية بالنسبة للبيئة والإنسان.

 

وليس في هذا أدنى مزايدة، بل هو احتمال قائم إذ أن هناك من الشواهد والأمثلة ما يشير إلى حدوثه فعلاً، منها ما حدث في الولايات المتحدة الأميركية مؤخراً عندما تم استزراع أحد أنواع البطاطس المعدلة وراثيا القادرة على مقاومة نوعية معينة ضارة من الخنافس، لكن ما حدث هو أن الضرر أمتد فعلا لنوعية ثانية من الخنافس تبين لاحقاً أنها ذات فائدة حيوية ونفع لعدة محاصيل زراعية أخرى.

 

هذا ما ترتب على ظهور واحد فقط من المنتجات المعدلة جينياً، ترى هل تم التأكد فعلاً من سلامة عشرات المنتجات المعدلة الأخرى على البيئة المحيطة وعلى عناصرها؟. سؤال عويص أشك أن لدى علماء الهندسة الوراثية إجابة حاسمة عليه بعد.

 

مستقبل المنتجات المعدلة جينياً في الميزان

على الرغم من الجدل الذي يثار مع ظهور أي مخترع جيني جديد، فإن الدفة قد بدأت تميل على ما يبدو إلى صالح تلك المنتجات، إذ الواضح أن حدة المعارضة الشعبية لها قد خفت كثيراً خلال الفترة الماضية، كما أن احتجاجات وتظاهرات جماعات الخضر وحماة البيئة برغم حدتها قد بدأت تضعف وتتكسر حلقاتها هي الأخرى مؤخرا.

 

ساعد على هذا تحسن سمعة هذه المنتجات نتيجة المردود الإيجابي لعدد كبير منها ونتيجة لتزايد الآمال المعقودة عليها في إنقاذ آلاف الأرواح البشرية وفي تحسين ظروف معيشة الإنسان وإصحاح بيئته المحيطة.

 

لذا لم يكن غريبا بعد ذلك أن "تلين" التشريعات واللوائح القانونية المحرمة لتلك المنتجات في أكثر من بلد، والدليل على هذا القرار التاريخي الذي اتخذته المفوضية الأوربية مطلع شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، بالسماح بزراعة 17 صنفاً من الذرة المعدلة جينيا في بلدانها، وذلك بعد حظر طويل. نفس الشيء حدث مؤخرا في كل من بريطانيا وألمانيا وهولندا ثم الصين التي فتحت الباب على مصراعيه أمام أنواع محددة من هذه المنتجات.

 

وعلى هذا النحو تحول "التحريم" إلى "ترشيد"، و"التجريم" إلى "توجيه" وهي ولا شك مؤشرات قوية تدل على قرب "تعميم" هذه المنتجات في المزارع والأسواق العالمية.

 

يدعم هذا الرأي سطوة منظمة التجارة العالمية وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية والصين على الاقتصاد العالمي، وهما من أبرز الدول المشجعة على استقدام المنتجات والكائنات المعدلة وراثيا.

 

من هنا فإن المستقبل يبدو لصالح هذه المنتجات، مما قد يؤخر قليلا تواصل الرفض الشعبي أو ثبات التشريعات المحافظة في بعض الدول، لكن المؤكد أنهما لن يستطيعا الصمود طويلا أمام الحلول السحرية التي تقدمها هذه المنتجات ولا أمام سطوة الكيانات العالمية المهيمنة.

 

من ناحية أخرى فإنه يمكن القول إن هذه المنتجات تعد سلاحا ذا حدين، فيه من الضرر والخطر مثل ما فيه النفع والفائدة. وهذا يعني أن الاستفادة المتحققة منه تعتمد على طريقة استخدام الإنسان له وعلى أسلوب إدارته وتوجيهه له. وهذا بدوره يعتمد على مدى التزام المشتغلين في هذا المجال بالضوابط الأخلاقية والعلمية التي تحكم أبحاث الهندسة الوراثية، وكذلك على مقدار تفهمهم احتياجات المجتمع وقدرات البيئة المحيطة.

 

وليس بيدنا بعد هذا إلا أن نأمل بأن تقود هذه المنتجات فعلا إلى رقي الجنس البشرى وتخليصه من متاعبه. هذا هو المأمول، أما المحظور فندعو الله أن يقينا شره، والله خير الحافظين.
__________________

كاتب مصري

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.